الثلاثاء، 4 يوليو 2017

أأقتل أبي ويقتلني ولدي؟



أأقتل أبي ويقتلني 
محمد جلال القصاص

باحث دكتوراة علوم سياسية
تدور قصة الرواية الأشهر في الفترة السابقة (في الجحيم لـ دان براون) حول فكرة رئيسية مفادها أن الموارد محدودة وأن البشر يزيدون بمتتالية حسابية (2، 4، 8، 16، 32...)، يقولون: وعما قريب ستنتهي الموارد بفعل ازدياد السكان، ويعرضون حلًا يتمثل في إبادة نصف السكان! وتدور أحداث الرواية بين فريقين: فريق يحاول إبادة نصف سكان المعمورة بالأمراض البيولوجية الفتاكة، والنصف الآخر يريد إبادتهم بطريقةٍ أخرى أقل حدة وهي استخدام وسائل منع الحمل. فهم متفقون على أصل الفكرة ومختلفون فقط في الوسيلة.

وفي إطار التنظير للفكرة داخل الرواية يتحدث بعض أشخاص الرواية مدافعًا عن إبادة الضعفاء من الفقراء والمرضى وكبار السن بأن هؤلاء مستهلِكون، لا ينتجون، ويتلو على من يقرأ عددَ ما ينفق على كبار السن الذين تقاعدوا عن العمل من أموال في علاجهم وما يتقاضونه من رواتب دون عمل، بل ويعترض على أن يعمر الإنسان طويلًا، يقول: كم يعمل وكم لا يعمل طول حياته؟! يحاول توطين فكرة بث الأمراض ليموت الناس مبكرًا.. لتنتهي حياتهم مبكرًا حين يتوقفون عن العمل.. منتهى القسوة مع كبار السن. ويدعمون فكرتهم هذه بحديثٍ عن محدودية الموارد، وهو قول منتشر في أدبيات الساسة، بل يكاد يكون هذا القول (محدودية الموارد وأنانية الإنسان التي تؤدي إلى ظلم في تخصيص الموارد) هو القاعدة التي ينطلق منها كل من يتحدث في السياسة وخاصة الأكاديميون، فلا تكاد تصغي لهم ولمن تبعهم من قومنا ساعة إلا وتسمع هذه المقولة: محدودية الموارد وسوء التوزيع.

يستخدمون الدواء سلعة للقتل وسلعة لجمع المال، ويستخدمون السلاح سلعة للقتل وسلعة لجمع المال، وهكذا.. لا يعرفون إلا هذا. ولا تأخذهم رحمة بالضعفاء من كبار السن والفقراء، لا يرون إلا أنفسهم ومن ينتفعون منه.
ودعنا نلقي على هذه الفكرة نظراتٍ.. نستكشف مصدرها، وهدفها، وسلوكها حال الوصول لهدفها، ونضعها بجوار ما عندنا في شرع ربنا. ليظهر خطؤها وسوء فعالها وشدة قبحها مقارنة بوقار وجمال وبهاء ما عندنا.

تخويف الناس من الفقر هي فكرة شيطانية بالأساس، يقول الله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا)، وفي المقابل نجد طمأنةً تامة من الله الرزاق ذو القوة المتين لخلقه أجمعين، يقول الله تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، ويقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، ويقول الله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ)، وفيما رواه البخاري ومسلم (والله ما الفقر أخشى عليهكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم).
وما نراه بأعيننا هو أنه كلما زاد السكان كلما أخرج الله للناس الخير، من عقولهم ومن الأرض. بل ومن البحار. ودعنا نضرب مثالًا واحدًا بأكثر شيء يهم هؤلاء وهو الوقود (الطاقة): حين كان هؤلاء يخوفون الناس من انتهاء مخزون الفحم (الوقود يومها) أخرج الله البترول من كل مكان، وما كاد ينتهي أو يقل حتى ظهر البترول الصخري والغاز الطبيعي فضلًا عن هداية الناس لأشكال أخرى من الطاقة كالطاقة الشمسية، والنووية، واستخراج الطاقة من مصبات المياه. والطاقة، وهي حاجة الناس الأهم الآن، أخرجها الله للناس من كل مكان حتى قاع البحار القريبة والسحيقة!

المشكلة الحقيقية ليست في قلة الموارد مقارنة بالسكان كما يدعي هؤلاء، وإنما في سوء التوزيع، أو بالأحرى في تسلط الظالمين على أرزاق الناس وأقواتهم. المشكلة الحقيقية تكمن في أشخاص هؤلاء الذين يريدون تكديس المال والنفوذ بأقل جهد.. كل المال وكل النفوذ.

المشكلة في سيطرة الكفر، يقول الله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ ۚ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ)، فجعل من لا يؤمن مفسدًا. وتدبر في حالهم تجد أنهم يستخدمون التقدم لجمع المال والنفوذ: يستخدمون الدواء سلعة للقتل وسلعة لجمع المال، ويستخدمون السلاح سلعة للقتل وسلعة لجمع المال، وهكذا.. لا يعرفون إلا هذا. ولا تأخذهم رحمة بالضعفاء من كبار السن والفقراء، لا يرون إلا أنفسهم ومن ينتفعون منه.


ودعنا نحط رحالنا في رياضنا الخضرة العطرة.. في بعض رياضنا، والضد يظهر حسنه الضد. الأسرة عندنا هي وحدة بناء المجتمع، فلا تكاد تجد فردًا إلا في أسرة، إن أبًا أو ابنًا أو جدةً، فالمجتمع المسلم أسر، ثم قبائل وشعوب، متماسكة متراحمة، لكل فرد فيها على كل فرد حق، حل أو ارتحل، فالجار المقيم (في السكن) له حق على جيرانه أقل ما فيه الأمان والطمأنينة والجار المرتحل له حق على من يجاوره، وابن السبيل له حق على من يمر بهم، والفقير له حق في مال الغني، والجالس في الطريق له حق على من يمر عليه. مجتمع متماسك متراحم.


المشكلة في دين هؤلاء.. في منهجهم. في أنهم أقاموا الحياة على الفردية.. في أنهم مسكنون بوساوس الشيطان لا بقول الرحمن.. قلقون خائفون أو انتهازيون مجرمون، أو عمي لا يرون آيات الله وكرمه وكفايته لعباده.
في الأسر المسلمة ثلاث حلقات يسلم بعضها لبعض. ابن وأب وجد. الأب يسعى بحثًا عن أسباب الرزق لأبنائه ولأبيه الشيخ الكبير الذي أنفق عليه من قبل. فرد (الأب) يسعى على فردين (الابن والجد)، والزوجة مع أبنائها تشبعهم من عاطفتها وترعاهم وتقوم بما لا يستطيع غيرها أن يقوم به تجاه الزوج والأبناء والأب يتابع زوجته ويوجه ويدعم، وإن كان البيت كبيرًا كما قد كان في نموذجنا الأول.. وكما قد كان لوقتٍ قريب فإن اجتماع الجد مع الأحفاد فيه من الخير الكثير إذ يتلقى هذا النشء الصغير الخبرة من جدٍ عرك الحياة وسقته براحتيها حلوًا ومرًا.

ففي النموذج الإسلامي رحمة ومودة، وتفعيل للجميع، فهذا الذي كبر سنة وضعف عظمه قد جد واجتهد وقدم من قبل، وهذا الذي يكد ويتعب يومًا ما سيضعف. فإن قتل الشاب المقتدر اليوم أباه فغدًا سيقتله ولده الذي رباه. أيعقل هذا؟!


إن المشكلة في دين هؤلاء.. في منهجهم. في أنهم أقاموا الحياة على الفردية.. في أنهم مسكنون بوساوس الشيطان لا بقول الرحمن.. قلقون خائفون أو انتهازيون مجرمون، أو عمي لا يرون آيات الله وكرمه وكفايته لعباده، ولو آمنوا لطمأنوا في الدنيا والآخرة: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وقال بركات ولم يقل رزق. فالرزق لليوم كثير ولكنه منزوع البركة بسبب تسلط المفسدين، فالبركة مع التقوى كما جاء في الحديث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق