لهذا يعارض الغرب القتل الكيماوي؟
أحمد عمر
نقل صحفي روسي تقريراً دموياً، سارت به الركبان في صفحات التواصل، بيَّن الخسائرَ التي يمنى بها النظام السوري، وحالة الرعب التي يعيشها جيشه الوطني، الذي يقدّس البوط على جبهات الغوطة.
وقد تواردتْ أخبار، بأن النظام طفح به الكيل للمرة الثالثة والخمسين، فزوّد جنده بكبسولات من غاز الكلور، أما عدد مرات استخدام البراميل المتفجرة في النصف الأول من هذا العام، فبلغ 4252 برميلاً. لكن مناط هذا المقال، ليس النظام، أسقطه الله شرَّ سقوط، وأبدلنا خيراً منه، وإنما الغرب والسلاح المحرم.
دعونا نجيب عن سؤال: هل يحرص الغرب على مكافحة أسلحة التدمير الشامل، أم أنه يغض عنها؟ يقال في حالة البكر الخجول، "إن السكوت علامة الرضى"، أما الكلام والتهديد اليومي في حالة الغرب، الذي لا يعرف الخجل، من غير فعل، فهو علامة تهريج وتشجيع. لكن ثمة جواب آخر.
لنبدأ بتذكر نظرية التطهير الأرسطي في المسرح، على الأطلال.
تنسب نظرية التطهير عبر التمثيل المسرحي، بمعنى الانفعال الذي يحرر المشاهد من أثقال العنف المتأصل في النفس البشرية، إلى أرسطو. المسرح لا يزال منبر الغرب المقدس، والعرب كان منبرهم الكلمة. أما الآن فمنبرهم هو "عرب ايدول". وردت الفكرة في كتبه "فن الشعر"، و"السياسة ". وعدّ أرسطو التطهير الناتج عن مشاهدة العنف عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج، مما يحرره من أهوائه.
أرى يومياً أفلاماً قصيرة مترعة بالعنف الصافي القراح، في صفحات من نسميهم الأصدقاء، وتعليقا يقول: برّد قلبك، واشتفِ. لعمر بن الخطاب قول في هذا، وكم له من أقوال تكتب بماء الذهب: المؤمن لا يشتف، والله يحب المحسنين. أظن أننا ضعفاء الإيمان، وربما منافقين، لأننا نتشفّى، ونهدي أفلاماً دموية للأصدقاء. الفلم الخبري في تقرير الصحفي الروسي تحوّل إلى هدية على صفحات التواصل.
نظرية التطهير، تحتاج إلى برهان أو إيضاح: أفلاطون رفضها، الاثنان، أرسطو وتلميذه أفلاطون يضمران حتمية العنف في الأطروحتين. أرسطو مضى إلى احتساب الموسيقى من العقاقير التطهيرية، في صيدلية الفن، وصالحة للاستشفاء، بتحقيقها النشوة الانفعالية، الفارابي أقرّ بها أيضاً.
ابن سينا في تلخيصه لأرسطو استنسب أطروحته. لاحقاً ربط الفلاسفة التطهير المسرحي بمفهوم الخطيئة في الدين المسيحي، والحض على الفضيلة.
وعارض آخرون القول بأن الخوف والشفقة يطهرّان النفس من أوشابها، برتولد بريشت لم يوافق مثل أفلاطون، وقال: إن كسر الإيهام في المسرح هو الذي يأتي بالتطهير. كثرت الطروحات المسرحية عن التطهير بالتمثيل، بين المسرحيين، أمثال انطونان آرتو والبولوني جيرزي غروتو فسكي، الأمر الذي جعل القضية ترفاً فكرياً، ورأى كثيرون أن المهرجانات المقدسة، والأعياد التي تكسر المحظور، ويختلط فيها الحابل بالنابل، والحفلات التي عرفتها الشعوب القديمة والحديثة في مصر واليونان وأفريقيا كان لها مهمّة التطهير النفسي، وطرد الأرواح الشريرة، وتحرير الجماعة من الآثام. على الأقل من التوتر، وهو وباء معاصر وكان نادرا في القديم. أظن أنّ الحفلات كانت ولا تزال تحضر الأرواح الشريرة، ولا تطردها.
الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، مال إلى النظرية القائلة بالتطهير، وتبعه فرويد عندما استخدم هذا المصطلح في علاج المصابين بالهستيريا.
كنا صغاراً نصفق للبطل في أفلام السينما، الذي يأتي في اللحظة المناسبة، ونصفّر له، وفي الجامعة في قاعات السينما، فوجئتُ بالطلاب يصفقون للبطل وهو يضرب المجرم، أو البطل وهو يقبّل البطلة، كنت أظن أننا كبرنا على التصفيق والتصفير، وكان النظارة في سينما الجامعة، يرفقونها بتأوهات مكتومة، في زفير وشهيق، وهي رسائل للزميلات الجالسات في الصفوف المجاورة. في المسرح، يستمتع البطل بالتصفيق، أما في السينما، فكنا نصفق لأنفسنا في صورة البطل. كنا صغارا نخرج من أفلام الكاراتية والكاوبوي ونبدأ بلكم بعضنا! هذا عكس ما تقول به نظرية التطهير. التطهير الحقيقي له شرط الفضيلة .. وكانت غائبة.
ويمكن تذكر التطهير الدموي في مسارح الرومان القديمة، التي كانوا يقدمون فيها المسيحين الأوائل للأسود المتوحشة، والأضاحي والقرابين، كانت حفلات تطهير دموي. بعض القبائل كانت تضحي بأجمل أفرادها، بعضها يضحي بالملك، الأكثرون كانوا يضحون بالعدو، الجميل عدو محتمل مخيف من الفتنة، الملك عدو أيضاً، أحياناً. أمريكا هذه التي يعدها أكثر نخبتنا بلد الديمقراطية وأسوتهم الحسنة، أبادت حضارة كاملة، وأوشك ثور البيسون على الانقراض من أجل متعة القتل والتطهير.
ويمكن إدراج كرة القدم وملاعبها وانتصاراتها في التطهير الأبيض، وهي في أوربا، تنتهي بمعارك حقيقية، وحاولت إسبانيا إلغاء مصارعات الثيران لقسوتها، ليس على المصارع الذي قد يذهب ضحية، وإنما على الثور. ويقول يوسف إدريس في روايته "رجال وثيران": إن الجمهور يحبُّ أن يرى المصارع مصروعاً، إلا أني أرى أن المسرح (ومثله السينما وربما الملعب) قد تكون وظيفته معكوسة وهي التضليل، ذلك أني رأيت مخبرين يتعانقون فرحاً بنهاية الحلقة الأخيرة من باب الحارة، وكأن التحرير قد حدث!
سنوات ست، والغرب الذي تنشغل تليفزيوناته بقطة محبوسة في حفرة، أو كلب في نهر، يراقب هذا المسرح الدموي في سوريا، وهو الذي أوقد نارها في بلادنا، وعود الثقاب هو إسرائيل في المنطقة، ويحرص على إضرامه كلما خفت، وما يزال يهدد يوميا النظام السوري ويحذره من استخدام الكيماوي، وهو يستخدمه، وكأن الغرب يشجعه.
عدت الأمم المتحدة أكثر من ثلاثة وثلاثين استخداما للكيماوي، وقد وصلتُ إلى أن النظام العالمي يتطهر عبر هذه المسرحية، أي أنه يشتفي بها من آثامه ويتطهر، وهو يحب رؤية الدم. القتل الكيماوي ليس فيه دم، إنه يحب التطهر والتطهير بالقتل والدم، لهذا يهدد من استخدام الكيماوي، فللكيماوي وظيفة ناقصة التطهير، لا بد من اللون الأحمر.
المسلمون يضحون بالأضاحي بعد أن يفرغوها من دمها، أما الغربيون، فيحتفظون بالدم في الأضحية الحيوان، ويحبونها في البشر.
لا أعرف إن كان مشي الرؤساء خبباً بالأزرق النيلي مثل حبيبة سعدون جابر في الأغنية الشهيرة، على السجاد الأحمر له علاقة بالدم والضحايا، والسيف والسلطة. أو أن كان له علاقة بالتطهير والغفران؟
عوداً إلى مفهوم الخطيئة: الغربيون عموماً، يؤمنون بصلب المسيح، ويقول اعتقادهم إن صلب ابن الله الوحيد، طهرهم من الخطيئة الأولى التي طردت أبوهم من الجنة، وسيعيدهم صلب المسيح، وهو ابن الله الوحيد، إلى الجنة.
يرتكب آدم الخطيئة، فتلام زوجته، ويحمل أبناؤه الخطيئة، حسب الاعتقاد الغربي، ثم يأتي عيسى المسيح "ابن الله الوحيد"، فيحمل وزرها ويصلب، وينال القتلة الغفران، وتنال معها الفئة المؤمنة به الخلاص والحياة.
كل التقارير تقول: إن النظام وإن مات فسيحيا، وقد حول شهادة الكيماوي الخصوصية إلى شهادة عمومية، على طرقات النظام الدولي.
باعنا يهوذا، كما باع المسيح، بقليل من الفضة، أو بكثير من البترول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق