السبت، 22 يوليو 2017

من سيّد البلاغة إلى فقهاء الحذاء

من سيّد البلاغة إلى فقهاء الحذاء
ساري عرابي
أمّا سيّد البلاغة فهو عمر العبد، شابّ من قرية "كوبر" قرب مدينة رام الله، بلغ العشرين أو قاربها. مساء الجمعة في الحادي والعشرين من تموز/ يوليو، نفّد عمليّة بسكّين في مستوطنة "حلميش"، الأنباء أفادت أنّها أدّت إلى مقتل ثلاثة مستوطنين، والأنباء ذاتها أفادت أنّه مصاب ولم يُستشهد بعد. في يوم الجمعة نفسه، استشهد ثلاثة شبّان في القدس وهم يدافعون عن المسجد الأقصى.
بدا لي أنّ لعمر مذهبًا خاصًّا في اللغة، كما أنّ له مذهبًا في الوجود والسياسة والفقه والسلوك هو فيه متّبع وصاحب سُنّة، فلم يَكن ما عُدَّ أخطاء نحوية وإملائية في وصيته العلنيّة التي نشرها على صفحته على موقع فيسبوك قبيل تنفيذه العملية إلا صورة عن دقّته ووعيه العميق إذ يمنح القيمة للمعنى، ويعطي الأولوية للفعل، وكأنّه، وكما ازدرى في وصيّته أصحاب السلاح الصدئ الذي لا يخرج إلا في المناسبات، يزدري دون تصريح كلّ نصّ مُتقن السبْك لا يجري في نهر الكفاح صوب المسجد الأقصى.
يشير عمر إلى أنه وفي الوقت الذي يملك فيه البعض ترسانة من الأسلحة، وصمها بالصدئة، وعرّفها بأنها لا تخرج إلا في المناسبات، فإنّه لا يملك إلا سكينًا مسنونًا. يؤمن عمر لإيمانه باليوم الآخر أنّ الفعل هنا في مستواه الفردي لا يذهب هباءً.
لعمر كذلك مذهب خاصّ في نظرية المعرفة، ربما يجدُر بدارسي الفلسفة أن يغوصوا فيه، إذ يَصدر في معرفته عن الفطرة، وبكلمة أخرى عن العلم المتُخلّق في قلبه النقيّ، كما يقول ابن تيميّة "فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحقّ والتصديق به، ومعرفة الباطل والتكذيب به، فما كان حقًّا موجودًا صدّقت به الفطرة، وما كان حقًّا نافعًا عرفته الفطرة وأحبّته واطمأنّت إليه، وذلك هو المعروف، وما كان باطلاً معدومًا كذّبت به الفطرة فأبغضته وأنكرته".

وفطرة عمر صدّقت بالنبي صلّى الله عليه وسلم ومسراه وبالله تعالى. يقول عمر: "ألا تخجلون من أنفسكم؟! أعلنوا حربًا على الله. أليس لله حقّ عليكم؟!". تعبير مباشر عن وعيه النقيّ، وعن صدوره عن عمق المجتمع والناس في فلسطين، الذين لا يربطهم شيء بالمسجد الأقصى قدر الرابط الذي جعله الله لهم في وحيه قرآنًا يُتلى أو حديثًا يُروى..

هذه الفطرة كذّبت بكلّ باطل؛ بسلاح المناسبات الصدئ، بالحياة المترعة بالطموحات الزائفة، بالرقدة على الفراش الوثير والأقصى يُدنّس والله تعالى يُحارب، بالفتن بين أبناء فلسطين والأقصى، وهو في ذلك كلّه يعتقد أن ما صدّقت به الفطرة وأكّده العمل؛ سيكون جزاؤه عند الله تعالى. نظريّة في الوجود، في أسباب العمل ودوافعه، وهي أسباب لا تنتكس بعثرات التجربة المادّية.

وينبني على ذلك نظريّة في السياسة وما يتصل بها من مقاومة، فالأصل القيام بالواجب. يشير عمر إلى أنه وفي الوقت الذي يملك فيه البعض ترسانة من الأسلحة، وصمها بالصدئة، وعرّفها بأنها لا تخرج إلا في المناسبات، فإنّه لا يملك إلا سكينًا مسنونًا. يؤمن عمر لإيمانه باليوم الآخر أنّ الفعل هنا في مستواه الفردي لا يذهب هباءً، فهو لا يريد أكثر من "شربة من نهر الكوثر من يد الهادي".

ولكنّه أيضًا يؤمن أنّ عمله لا يذهب هباءً في مستواه الجماعي وفي بعده الماديّ القريب، نتيجة التراكم الحاصل في العمل الجهاديّ، فهو واثق من أنه سيخرج من بعده "رجال يضربون بيد من حديد". وعمر بذلك يرى النصر متحصّلاً بالضرورة في النتيجة وإن لم يكن في الآن، واجتماع المستويين ببعديهما يحول دون اليأس ويحافظ على ديمومة الفعل، وهو الصواب على أيّ حال.


عمر العبد، الذي لم يَذُق الشهادة بعد، كان كالرجل في سورة ياسين، إذ جاء من أقصى المدينة يسعى، ونصح قومه حيًّا وميّتًا، إذ أوصى عمر إن استشهد أن يُلفّ برايات رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبعصابة القسام وأبي عمار

وأمّا مذهبه في السلوك فهو حقًّا ما تضيق به العبارة، لشحّ اللغة، وشدّة الوجد، وصدق المحبّة، وحقيقة الوصول، حتى فني عن كلّ شيء، واحترق في بصره وسمعه كلّ شيء، وظلّ الأقصى شيئًا وحيدًا يلحظه ويفنى فيه، حتى فني فيه حقيقة وعقله معه، ولا يُعرف ذلك إلا لقلّة من العشاق، والأقصى هنا للعاشق رمز، يدلّ على من رمّزه، وطريق إليه، وليس كلّ السالكين فيه سواء.

وعمر، الذي لم يَذُق الشهادة بعد، كان كالرجل في سورة ياسين، إذ جاء من أقصى المدينة يسعى، ونصح قومه حيًّا وميّتًا، إذ أوصى عمر إن استشهد أن يُلفّ برايات رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبعصابة القسام وأبي عمار، ولا يقصد بالعصابتين إلا الدعوة للوحدة على ما ظلّ عليه القسام، ومات عليه أبو عمار.

حسنًا، هذا هو سيّد البلاغة عمر، وتلك مذاهبه، فمن هم فقهاء الحذاء؟!
والحقّ أني لا أريد أن أزاحم بهم ذكر عمر، وإن استحقوا ذكرهم في مقامهم بما يناسبهم، ولكنّي هنا أريد بيان المفارقة بالمقارنة، ولم أشأ، كما اعتاد النّاس بقصد الذمّ وصفهم بـ "فقهاء الحيض والنفاس"، إذ أحكام الحيض والنفاس من شرع الله الذي أوحى به إلى نبيّه، ولا يجوز أن تُتخذ ذريعة للسخرية ممن استحقّ السخرية، وهي أحكام تعليمها وتدريسها لا يمنع عن قول الحقّ، أو عن أضعف الإيمان، وهو الصمت، حين الضعف أو العجز أو الجبن..
حتى كبراؤهم، وهم في أعلمهم لا يطاولون أسلاف العلماء مهاربة في الاستنباط أو إحاطة بالنصوص، يخشون اليوم من مجرّد الدعاء للمسجد الأقصى، أو يكتفي أحسنهم حالاً في ظاهر فعله بدعاء خجول عابر.
لم يمنع الاشتغالُ بفروع الأحكام؛ أعلَم خلق الله بها بعد النبي والصحابة، عن القيام بالحقّ، والكلام به، والتمرّد على الباطل، أو الصمت واجتناب الظالم والسلطان، وإن لم يكن ذلك حالهم كلّهم، ولكنّه كان حال بعض أعلمهم. كانت جدالاتهم الفروعية في مظانّها من كتب الفقه، وكتب الخلافيات، درسًا علميًّا صرفًا، يبحث عن الاتّباع وأمر الله ونهيه ومراده، وفيها تسبين مدارك الفقهاء، وتتجلّى مهارات التخريج والتفريع والاستنباط، وتتعاضد الأدلّة والنصوص، ودون أن يكون ذلك صرفًا للأمّة عن همومها الكبرى، أو إشغالاً لها فيما يسع فيه الخلاف.

فتصوّر التعارض بين القيام بالهمّ العام، والانشغال بمسائل الفقه، بدعة معاصرة، إما أن يلقيها بعض المتعجّلين من متفذلكي الادّعاء الفكري، أو بعضُ المتذرّعين بالحفاظ على الدرس الفقهي وما تبقى من نوافذ العلم والدعوة، وهما على طرفي نقيض، ويُخشى على كل منهما النفاق، فالأول لمظنّة وقوعه في السخرية من أحكام الله، والثاني لمظنّة تذرّعه بالدعوة كذبًا، واتخاذه العلم غرضًا، بما يذكّر من قالوا سابقًا "إنّ بيوتنا عورة".

لكن ما لنا ولطول ذكرهم، في مقام يجدر أن يُفرد فيه عمر بالذكر؟! 
إنما هي المقارنة يجب أن تبلغ غايتها لتتجلّى المفارقة بحضور عمر، فحتى كبراءهم، وهم في أعلمهم لا يطاولون أسلاف العلماء مهاربة في الاستنباط أو إحاطة بالنصوص، يخشون اليوم من مجرّد الدعاء للمسجد الأقصى، أو يكتفي أحسنهم حالاً في ظاهر فعله بدعاء خجول عابر، بينما يتجنّد بعضٌ آخر في معركة وليّ أمره مع بقايا الروح في الأمّة، فيَمُنُّ كذبًا على المسلمين بـ "عطايا" وليّ أمره على بيت المقدس، أو يذهب أبعد في النفاق وهو يهاجم جهاد أهل بيت المقدس..

هؤلاء فقهاء الحذاء.. بمعنى كيف ينحطّ ذو العلم إلى هذه الدرجة.. وكيف يكون درسًا في الانحطاط إلى درجة حذاء!
فإن كان حال هؤلاء كذلك، أليس وجود عمر ضرورة في ذاته؟! كيف لو خلا الزمن من عمر، للمتفذلكين والمتفيقهين؟ ومن كان يخشى من دعاء للمسجد الأقصى، أو من ذكر عابر له في خطبة؛ هل يُتصوّر منه أكثر من ذلك لو كان من أهل بيت المقدس؟! لذلك عمر انتصار يا سادة.. ففلا تبخسوا أنفسكم يا إخوان عمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق