الاثنين، 10 يوليو 2017

الموازين العشرة في أوقات العسرة


الموازين العشرة في أوقات العسرة



بقلم: الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين


1-من الضروري إحياء فقه المراجعات والتأمل في مسيرة الدعوة بعد 11 سبتمبر، فقد تطيش الموازين وتختل القيم بسبب كثرة الضغوط وتسارع الأحداث.

2-قد تلتقي المصالح مع أمريكا في تحرير الكويت من براثن صدام حسين، ولكن هذا لا يعني استبدال سجادة الصلاة بالعلم الأمريكي.
3-كثيراً ما ينشغل الدعاة في محاربة التفريط، ولكنهم مقصرون بشكل جلي في محاربة الإفراط.
4-يجب أن تسلم عقيدة الداعية من الاتكال على غير الله، فلا يجبن عن مهمة، ولا يتخلى عن واجب، ولا يتراجع عن فكرة ولا يتخاذل عن نصرة.
5-مطلوب من الحركة الإسلامية الحفاظ على وسطية التغيير فلا هو جمود قاتل ولا هو إقدام متهور.
6-إذا كان من يمارس التفريط يسيء لنفسه، فإن ما يمارس الإفراط يسيء لدينه.
7-مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم محن وأزمات لو اجتمعت على أمة لأهلكتها ولكنه صمد لها كالجبال الرواسي حتى بلغ الرسالة.

لا زالت الفتن تلقي بظلالها على الأمة الإسلامية ألواناً وأشكالاً متعددة، منذ الحادي عشر من سبتمبر، والصحوة الإسلامية بمختلف مشاربها واتجاهاتها وتياراتها تتعرض لهجوم شديد نفسي وفكري ومادي، ولا زالت تلك الضغوطات تلقي بثقلها وشبهاتها في طريق العمل الإسلامي، ولا يمكن إنكار الحاجة الشديدة إلى إحياء فقه المراجعات والتأمل في مسيرة الدعوة، وهل كان تعامل التيارات الإسلامية مع الأحداث على المستوى المأمول، وخاصة في أثناء الأزمات والمحن، حيث يظهر معادن تلك التيار ومستوى التفكير الاستراتيجي في عملها، وقدرتها على التكيف والمؤامة مع الأحداث العالمية بما يعطيها القدرة على إعادة توجيه المسار إلى الطريق الصحيح، وخاصة أن السلوك البشري في أوقات المحن والضيق قد يختلف ويتأثر بالمؤثرات الضاغطة وفداحة الأحداث وسرعتها عنها في أوقات السعة والأمان.

وقد تطيش الموازين لدى بعض أبناء الصحوة الإسلامية، وقد تؤثر بعض التيارات الإسلامية مبدأ السلامة على إطلاقها ولا يهمها كم ستخسر الفكرة الإسلامية بسبب هذا الموقف الانسحابي، أو التيارات المعاكسة التي تتحمس المشاركة في دوامة العنف مهما دفعت الأمة الإسلامية بسبب تهورها، ويجب أن ندرك أن الواقع الجديد التي تعيشه المنطقة يحتاج إلى إعادة التذكير ببعض الموازين التي تم إصابة بعضها إصابات مباشرة فتعرضت لانحراف، أو غابت أصولها عن الأذهان أو تمت قراءتها بشكل جديد لا يتناسب وأصل الفكرة التي قامت عليها.

ولعل اختيارنا لعشرة موازين لا يعني انحصار المحافظة على هذه الموازين في أوقات العسرة، ولكنني أحسبها من الموازين التي يحتاج العاملون في الدعوة إلى إعادة النظر في أصولها واستذكارها حتى ننقي ما أصابها من عطب في أذهاننا وعقولنا بعد سلسلة من المتاهات الحركية والسياسية التي أصابت مسيرة الدعوة في السنوات القليلة الماضية.


الميزان الأول: العقيدة

فقد ظن البعض أن المعركة مادية بحتة مع الباطل وأعداء الله، فلما رأوا ما يملكه العدو من آلة عسكرية قادرة، وإمكانات مادية وبشرية هائلة، وقدرة سياسية هائلة قادرة على الاختراق والتغلغل وفرض الآراء وتغيير قوانين اللعبة، ظنوا أن ميزان النصر منحصر فقط في الإعداد المادي والقدرة اللوجستية على الحشد والمواجهة، ونسوا أو تناسوا أن صراع الحق مع الباطل لا يقاس بمحدودية المقاييس المادية والبشرية، ولو أعدوا الأسباب معتمدين على تأييد الله ونصره وهو الغالب على أمره سبحانه، لما اختل ميزان العقيدة في النفوس والأرواح.
ونحن هنا لا نتكلم عن الشرك الظاهر من عبادة الأوثان أو ممارسة البدع الشركية أو غيرها من خوادش العقيدة، وإنما نتحدث عن ضرورة الاعتقاد اليقيني بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقنا ورزقنا وهو الذي بيده محيانا ومماتنا ونشورنا، وهو الرزاق وهو المعطي والمانع وهو الضار والنافع، وهو سبحانه على كل شيء قدير لا يعجزه أحد من خلقه، ولا يكون شيء إلا بأمره، فالخير بيديه والشكوى إليه، والأمر منه وإليه، فهو أمان الخائفين، وأنيس المستوحشين، ورب العالمين، فهو المستحق وحده للدعوات واللهفات والاستغاثات في حال السعة والكربات.
فهذه الحقيقة إن غابت عن نظر وبصر وعقل وقلب بعض الدعاة فقد ضلوا الطريق ضلالاً مبيناً، ولا يرتجى بعد ذلك لا أعمال ولا فكر ولا خبرات ميدان، فيجب أن تسلم العقيدة للداعية بهذا التصور الذي يكل الأمور كلها إلى الله، فلا يجبن عن مهمة، ولا يتخلى عن واجب، ولا يتراجع عن فكرة، ولا يتخاذل عن نصرة، لأن سنده مالك الملوك وإله الكون سبحانه لا شيء قبله ولا شيء بعده، مهما كان بريق القوة الغاشمة لدى الأعداء.
فالظلم كفيل بتغيير الموازين، والبغي مرتعه وخيم، لكن المهم ألا تختل الموازين، وخاصة ميزان العقيدة، فالدعاة أحوج ما يكونون اليوم إليه هي العودة إلى كتاب الله، والنظر في آيات العقيدة وأسماء وصفات الخالق، ومعرفة معانيها وآثارها، وما ينبني عليها من معتقد وإيمان وعمل، فالاعتصام بالله وحده هو طوق النجاة للخروج من هذه المهلكة العظيمة.
وليكن لنا قدوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه، فعندما جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه أثناء قتاله في غزوة بدر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده ساجداً يقول:" يا حي يا قيوم" لا يزيد عليها، وقد عاد سيدنا علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة ووجده على هذه الحال حتى فتح الله عليه، فليت الدعاة يتعلمون من رسولهم صلى الله عليه وسلم كيف كان اللجوء إلى الله في أوقات الشدة فهو مفتاح الفرج والفتح.

الميزان الثاني: الوسطية

فكثيراً ما ينشغل الدعاة في محاربة التفريط، ولكنهم مقصرون بشكل جلي في محاربة الإفراط، فنجد الكثير من الدعاة ينشطون لتعليم الناس أمور دينهم ويحذرونهم من معصيةالله والتفريط في أوامر الدين وتعاليمه، ويسعون لنشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة والفساد، وينشرون الكتب والأشرطة ويلقون الخطب والمحاضرات في حث الناس على الأخلاق الحميدة والسلوك الحسن وترك رذائل الأمور كالاختلاط والتبرج والسفور، وشرب المسكرات وأكل الربا، والتجرؤ على المحرمات، وربما تابعوا كل ما يسيء إلى الدين والفضيلة في وسائل الإعلام، وبينوا للناس المشتبهات من الأمور ونوعوا في خطابهم بين الترغيب والترهيب، وبين ثواب المحسن وعقاب المسيء، ودعوا الناس إلى العودة إلى دين الله والتزام آدابه وتنفيذ أحكامه والقيام بفرائضه والحفاظ على نوافله، والقيام بتكاليفه والانتهاء عن مناهيه، وهي بلا شك كلها أمور محمودة مطلوبة ومرغوبة، وهي من مهام الأنبياء والرسل ومن ورثهم من العلماء والدعاة، وهي مرتبة عليا وفضيلة كبرى لمن يقوم بها.
فالدين النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص خصائص هذا الدين ومن واجبات الدعاة الرئيسية، نقول أن كل ذلك حسن ومطلوب، لكن الدعاة – إلا من رحم الله- على الرغم من مهامهم الجليلة في القيام بواجبهم في التنبيه على الناس في النهي عن التفريط، لا يبذلون نفس الجهود في التنبيه على جماعة من الناس بالغت في الإفراط والغلو في الدين، ورغم أن الغالب على الناس بطبيعتها التفريط وليس الإفراط إلا أن نتائج الإفراط قد تكون مدمرة خاصة إذا تمثلت بجماعة تستحل دماء الناس وترفع راية التكفير وساعتها لا ينفع أبداً مبدأ المسالمة وغض النظر مع هؤلاء، لأن هؤلاء يتحركون باسم الدين الذي سعى التيار الوسطي في الحركة الإسلامية دائماً على تقديم أفضل صورة عنه، مع المنافحة والمدافعة أمام أعدائه ورد الشبهات والتهم عنه، وعن مدى صلاحيته للبشرية جمعاء، ووجود مثل هذه الفئات تسرح وتمرح في الجسم الإسلامي إنما يمثل معول هدم ثقيل في جهود الحركة الإسلامية التي ما فتئت تعلن منهج الاعتدال والوسطية في التعامل في الفكر الآخر00
لم يعد من الممكن القبول بدس الرؤوس في الرمال واتباع منهج السكوت على ممارسي الإفراط والغلو في الدين، فإذا كانت الناس بتفريطها في دين الله تسيء لنفسها فإن الناس الذين يمارسون الإفراط يسيئون للإسلام نفسه، ولمن يحاول أن يجسد الإسلام من خلال فكرة حركية مستنيرة ومنفتحة تحافظ على الثواب وتتفاعل مع المتغيرات، وكم أعجبتني مقولة للراحل الشيخ محمد الغزالي وهو يتصدى لمنهج الإفراط قائلاً:" إنني أحارب الدواء المغشوش كما أحارب الداء"، فالذي يريد أن يحارب ادواء الأمة ويشفيها من أمراض النكوص والتراجع عن دين الله يجب أن يحارب بالمقابل الأدوية المغشوشة التي تتحدث باسم الإسلام وهي عليه وبال.
فالغلو والإفراط بطبيعته منفر لا يحتمله البشر ولا تصبر عليه النفوس، وهو قصير العمر، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر، ولا تخلو من جور على حقوق أخرى يجب مراعاتها، ومن الإفراط والغلو التعصب للرأي تعصباً لا يعترف معه للآخرين بالوجود والتزام منهج التشديد دائماً، وإلزام الآخرين به حتى لو كان الدليل مع التيسير، ناهيك عن الغلطة في التعامل والخشونة في الأسلوب، والفظاظة في الدعوة، فالوسطية هو المنهج الصحيح والذي جاء به الإسلام وهذه الوسطية يجب أن تعم كل شئون الدعوة.

الميزان الثالث: الولاء

الولاء لله لا لغيره، وهناك من قد تميل قلوبهم، وتتبع نفوسهم الأهواء، ويخطيء بعض الدعاة في الخلط بين ما تفرضه المصالح من تعامل وحوار وتبادل للأدوار وبين مبدأ الموالاة، فالمصالح بطبيعتها متغيرة وقد تتطابق المصالح مع طرف من الأطراف وقد تفترق في أحيان أخرى كثيرة، وقد تفرض التقاء المصالح في منطقة جغرافية أو فكرية تنسيق المواقف مع أطراف تصنف في الوضع الطبيعي في خانة العداء، وقد تفترق المصالح في مناطق جغرافية أو فكرية أخرى فيستدعي ذلك افتراق المواقف والآراء، وقد تختلف المصالح وتتفق في نفس الوقت حسب الأفكار المطروحة والتحديات المنظورة، وقد تتفق في فترات زمنية وتختلف في فترات زمنية أخرى، وبناء عليه تقوم اللعبة السياسية وتتخد الأطراف مواقفها من الأحداث حتى تستجد أحداث أخرى تتباين فيها الرؤى ووجهات النظر، فتتضارب فيها المصالح وتختلف ويحدث الافتراق.
كل ذلك معروف عند الساسة والأحزاب السياسية والتجمعات الفكرية والثقافية، لكن هذه الطبيعة المتغيرة للمصالح لا يجب أن تفرض على الدعاة تغيير الولاء وتغيير الجلد والأهداف والغايات بناء على تغيير المواقف والمصالح، والأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى.
فقد تتفق رؤى الحركة الإسلامية في الكويت مثلاً مع رؤى التيارات العلمانية والليبرالية في قضية مكافحة الفساد بأشكاله المختلفة وتفعيل الرقابة على الأداء الحكومي، ولكن هذا لا يؤثر على مبدأ الولاء الأصيل، ورفض التيار الإسلامي لطبيعة الحياة وأسلوب الحياة العلمانية التي تريد "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" وقد يلتقي التيار الإسلامي مع التيار القومي في ضرورة نصرة القضايا العربية، وخاصة القضية الفسطينية، وهذا لا يستدعي انتقال الولاء من الفكرة الإسلامية إلى الفكرة القومية، وقد يستدعي التقاء المصالح مع الامبراطورية الأمريكية في تحرير الكويت من براثن النظام الصدامي البائد، ولكم هذا لا يستدعي استبدال سجادة الصلاة بالعلم الأمريكي، وقد يستدعي الاهتمام بمقدسات المسلمين تقديم الدعم الحيوي والضروري لنصرة فلسطين، ولكن هذا لا يستدعي القبول بأطروحات السلام التي تستهدف إسقاط حقوق المسلمين في المسجد الأقصى وباقي المقدسات الإسلامية.
فالمصالح قضية تكتيكية متغيرة والولاء قضية تأصيلية ثابتة، فلا توالي الحركة الإسلامية إلا الخالق سبحانه وتعالى، وإلا منهجه ودينه وشرعه، فنوالي من ينتصر لدين الله ويعمل على رفعته مهما اختلفت رؤانا ومصالحنا الآنية المؤقتة معهم، ونعلن البراء والعداء لمن يعادي دين الله سبحانه وتعالى ومنهجه وشريعته مهما التقت مصالحنا الآنية المؤقتة معهم، فهذا من عقيدة الإسلام التي نلقى الله عليها لا مبدلين ولا مغيرين، فلا ننحاز إلى غير الهّم الإسلامي،ولا مستعدين أن ننسلخ من جلدنا مهما كثرت فيه إصابات الأعداء.

الميزان الرابع: النصرة

فالداعية إلى الله يدور حيث يدور الإسلام، ويهتم بشئون المسلمين في كل مكان يذكر فيه اسم الله، ولا تشكل الإقليمية والقطرية حاجزاً أمام القيام بواجب النصرة لكل موحد يعلن شهادة الإسلام وينافح ويدافع عنها أمام أعداء الله، وتشكل القضية الفلسطينية كأرض إسلامية مغتصبة وبها مقدسات المسلمين تحدياً لميزان النصرة، فلا يتقاعس المسلم في الكويت عن نصرة إخوانه لمجرد أن بعض الغوغائيين من الفلسطينيين- ومهما علت رتبهم ومناصبهم- كانت لهم مواقف في غاية الخزي والسوء من قضية احتلال الكويت، فالقدس مسئولية كل مسلم، فلو أساء المسلم القريب جغرافياً من منطقة القدس التصرف في قضايا المسلمين الأخرى ومنها قضية احتلال الكويت، فهذا لا يعفي المسلم البعيد جغرافياً عن القدس، كالمسلم الذي يعيش في الكويت من حسن التصرف وتقديم مبدأ النصرة لأرض الإسراء والمعراج على ما سواه، وأن يتعالى على جروحه حتى يلقى الله بأجر الاحتساب وثواب الصبر على أذى الناس.

الميزان الخامس: التثبت

ففي الفتن تكثر الإشاعات وتقل الحقائق، وربما نسب إلى بعض الدعاة والمشايخ والعلماء ما لم يقولوه، وربما قالوا شيئاً وتم تحريف أقوالهم حسب الأهواء والأغراض والمصالح، فالأصل في المؤمن والدعاة على وجه الخصوص التثبت من الأقوال وعدم ترك النفس لأهدافها ورغباتها في تصديق ما يرفضه العقل، أو يخالف مواقف العلماء والمشايخ المعلنة، حتى يأتيه الدليل المبين على ما قالوا، وليتثبت أكثر من صحة النقل، وأكثر من ذلك منهم شخصياً وما قصدوه بخطابهم، فربما قصدوا شيئاً ضاق عن فهم السامع نتيجة للأزمة التي يمر بها، فآفة الاستعجال وعدم التثبت وسوء الظن في الآخرين وخاصة في ساعات العسرة والأزمات لا يكاد يسلم من شرها أحد إلا من كان ذا صلة قوية بربه ودينه، فالسرعة وعدم التأني والتثبت في كل ما يمس المسلمين والناس جميعاً وخاصة الرموز منهم العلماء والمشايخ من أحكام وتصورات ومن تناقل وتداول لهذه الأحكام وتلك التصورات دون فهم دقيق للواقع، وما يحيط به من ظروف وملابسات هي إحدى المساوىء التي يقع فيها كثير من الدعاة عند الفتن والمحن، قال تعالى محذراً من هذا المسلك:"إذ تلقّونه بألسنتكم [ وليس بقلوبكم] وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم"[1].
وقد يقع في هذه الخصلة الكثير من الدعاة بسبب الغفلة أو النسيان، أو الاغترار ببريق الألفاظ أو بسبب البحث المتعجل عن حكم شرعي للواقعة أو الجهل بأساليب وطرق التثبت قال تعالى:"ولو ردوه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، لعلم الذين يستنبطونه منهم"[2] وذلك من خلال المناقشة والإصغاء الجيد والمراجعة لصاحب الرأي المطروح والجمع بين كل الأطراف، وقد يعلم الدعاة وسائل التثبت هذه، لكنها تغيب وسط الحماس والعاطفة الإسلامية الجياشة والغفلة من العواقب والآثار المترتبة على عدم التثبت، والنتيجة لذلك تكون نشر العداوات بين كثير من الأفراد والتجمعات الإسلامية، وعدم التماس المعاذير وتجميد التعاون في المتفق عليه، واتهام الأبرياء من الناس زوراً وبهتاناً، والحسرة والندامة، وفقد ثقة النالس مع الكراهية والنفور والخلل والاضطراب في الصف والفتور والتراخي عن العمل، وإفساح المجال للأدعياء والدخلاء لكي يخترقوا صف الدعوة مع خسارة متوقعة لبعض الأنصار والمؤيدين، والحرمان من العون والتأييد الإلهي وقد تصل المسألة إلى سفك الدماء وسلب الأموال، ولا يمكن مواجهة مثل هذه الصفة الشائنة والمؤثرة وخاصة في أوقات المحن إلا بتفعيل خاصية التقوى ومراقبة الله والتذكير بالمساءلة في كل أمر بين يدي الله في اليوم الآخر، والتربية على عدم الاستعجال، والتأكيد على معالم ومنهج التثبت وإدراك العواقب الوخيمة على عدم التثبت، والتعود على إحسان الظن بعامة المسلمين، وعدم قبول وشاية ما لم يصاحبها دليل يقيني.

الميزان السادس: الثبات

فالأزمات كالعواصف التي تهز سفينة الأمة، والمحن التي تصيب القلوب الضعيفة بالهلع تجعلها كورقة في مهب الريح، فتحتاج النفوس إلى التثبيت والثبات على دين الله، فلا يخرج الداعية من المحنة سليم البدن مصاب الروح، وقد مرت على رسول الله صلى الله لعيه وسلم محن وأزمات لو اجتمعت على أمة لأهلكتها ولكنه عليه الصلاة والسلام صمد لها كالجبال الرواسي وقهرها بحسن اتصاله بمولاه، وصبره وصموده وتضحياته في سبيل تبليغ الرسالة إلى أمته، وكلنا يذكر الجلافة والغلظة وقلة الذوق والأدب في تعامل قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أهل الطائف أكثر وداً من قريش بل إنه صلى الله عليه وسلم تعرض لمؤامرات للقتل لا أول لها ولا آخر، وترك بلاده التي هي أحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلى نفسه، وتعرض لمؤامرات اليهود والمنافقين في المدينة، وكادت أن تهلك هذه العصابة المؤمنة في بدر وأحد والخندق عندما بلغت القلوب الحناجر، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه لم يبدلوا ولم يغيروا
وما أجمل قول الشاعر معبراً عن فكرة الثبات:
تالله ما الدعـوات تهـزم بالأذى أبـداً، وفـي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد، ألهب أضلعي بالسوط، ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصـار فكري ساعة أو رد إيمـاني ونـور يقينـي
فالنور في قلبي، وقلبي في يدي ربي، وربـي حافظي ومعيني

فإذا نجحت الولايات المتحدة وبدعوى محاربة الإرهاب، في ربط منظر كل ملتحي بصورة الإرهابي، ومنظر كل داعية مخلص بصورة قضبان غوانتيناموا، فهذا مصداق لقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما تحدث عن الزمان الذي يصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر، ولكن هذه المحن لا تغير من ثبات المؤمن شيئاً، وانظروا إلى الشيخ المقعد المشلول كيف تنبى فكرة وأسس حركة، ولبس لباس الإخلاص والتقوى، ووضع بين عينيه تحرير الأقصى، حتى حصلت في أرض الإسراء البركة وأثمرت البذرة، فخرجت كبرى حركات المقاومة الإسلامية في وجه يهود، ومضى هو إلى ربه شهيداً بعد أن غادر جسده النحيل المنهوك سجن كرسي الشلل إلى رضوان الله وجواره، فأولى بكم أيها الدعاة أن تقتدوا بهذه المسيرة المباركة من الرجال المخلصين والدعاة العاملين.

الميزان السابع: ميزان الالتزام

فبعض الدعاة وأمام أبواب الفتن والمحن يضعف التزامه أو يتلاشى، وربما استصعب مسيرة الدعوة رغم يقينه بصواب خطواتها، لكن تكاليفها الثقيلة مما لا يستطيع معه مواصلة الدرب بنفس علو الهمة التي كان عليها قبل الفتنة، فيصبح التقصير في التكاليف وعدم الوفاء بالواجبات سمة ملازمة له، وترى إمارات ذلك في حركة الداعية وكيف تثاقلت وتباطأت، فترى عدم الدقة وعدم الانضباط في الحديث والموعد، والإصغاء للإشاعات والأكاذيب وبناء الأحكام عليها، وعدم رعاية أدب الخلاف والخروج على الطاعة، إلا فيما تهوى النفس، وقلة الاستعداد للتضحية والظن بالأوقات والأقوال على الدعوة، واستعجال النصر بلا بذل للأسباب وإهمال تزكية النفس وإهدار حقوق الأخوة وغيرها من الدلائل والإشارات على دخول الداعية في مرحلة الخطر والسقوط من قطار الدعوة، وقد يعود ذلك إلى ما ألقته المحن من بلاء ومشقة على الداعية مع ضعف الإيمان وتدني الوسط الدعوي الذي يعيش فيه والإقبال على الدنيا بعد زوال المحنة، فالمحنة تزلزل كيان الإنسان وتعصف به إلا من رحم الله، فيتلاشى الالتزام استجابة لوساوس وشبهات الشيطان، بالإضافة إلى ضعف الارتباط الأخوي، وهي كلها أسباب يجب أن يلتفت لها الداعية فيؤكد التزامه ولا يسرف في المباحات ويحرص على تجديد إيمانه ويفهم حقيقة الدنيا والآخرة ويستعين بالله على الطاعة، ويلزم الجماعة ويجدد محاسبته لنفسه، ويكثر الاطلاع على سيرة الصالحين.

الميزان الثامن: الصبر

فكثيراً ما أدى الاستعجال بالدعوات إلى الهلاك والفناء، وهدم كل ما بنته الدعوة خلال سنوات بسبب القفز على سنة الأناة والتدرج والحلم والحكمة، فتغيير الواقع لا يتم بلمحة بصر أو طرفة عين، فأصعب أنواع التغيير تغيير النفوس، ومحاولة التغيير التي تتم دون فهم للظروف والملابسات المحيطة ودون إعداد جيد، ودون البذل والتضحية والعمل في المجتمع وإصلاح الناس ودون مقومات قوية وأساليب مبدعة ووسائل مقنعة، فإن هذا التغيير سيأتي بنتائج قد تأتي على بنيان الدعوة ومؤسساتها، فلا يتم التغيير بيت ليلة وضحاها فهذا من الأحلام التي لا تعيش الواقع، ومن الجهل بسنن التغيير وآلياته في المجتمعات، فالحماس والحرقة على وضع الإسلام لا يعني إلقاء النفس في أتون النار، ولا تمكين الأعداء من رقبة الدعوة، فكثرة المنكرات تتطلب زيادة الجهود لا استعجال الثمرة، فالثمرة حتى يتم حصادها لا بد من تخيّر الأرض الطيبة وبذر البذرة وسقيها ورعايتها من الآفات والحشرات والصبر عليها حتى تثمر، فالعجز عن تحمل المشاق وانعدام وجود الخطط والبرامج والغفلة عن سنن الله في الكون والنفس، وعدم التمعن في العواقب كلها كانت وبالاً على الدعوة ومسيرتها، بل وعادت بالدعوة لعدة عقود إلى الوراء، وكم خسرت الحركة الإسلامية من مواقع، ومؤسسات وكم قدمت من تضحيات كانت بسبب رؤى ناقصة وأسباب غير مكتملة للتدافع البشري، فآن الأوان للعودة إلى وسطية التغيير فلا هو جمود قاتل ولا هو إقدام متهور0

الميزان التاسع: علو الهمة

فالفتور بين الدعاة من الخسائر الداخلية غير المحسوبة في ميدان الدعوة، وهو الذي يحول دون تحقيق الأهداف وإطالة المدة الزمنية لإنجاز التكاليف، والبقاء في المربع الأول لفترة طويلة بسبب مرض التسويف الناتج عن الفتور والكسل والتراخي والتباطؤ في أداء الأعمال الدعوية، وقد يعود ذلك في بعض الأحيان إلى الغلو والتشدد في الدين بما يعني عدم القدرة على مواصلة الطريق بهذا النفس المتشدد، أو العكس على ذلك من خلال الإسراف في المباحات وتجاوز الحد المعقول، ناهيك عن العزلة عن الجماعة، والتقصير في الطاعات، وقلة الاهتمام بالزاد الروحي وصحبة أصحاب الهمم الضعيفة وغياب التخطيط السليم، والقيادات الفاعلة، والوقوع في التقصير والمعاصي، فينبغي على الداعية الذي حط رحاله أن يعيد حساباته ويراجع نفسه ويحاسبها ويراقبها حتى يكتب الله له الخروج من بئر الفتور إلى قمة علو الهمة، وهي مهمة عسيرة إن لم يصاحبها تقوى الله والاخلاص والنظر في العواقب وابتغاء الدار الآخرة، حتى تسلم نفس الداعية له، ويعود إلى كامل اندفاعاته في العمل وقد أزال من نفسه ما علق بها من أيام الفتنة.

الميزان العاشر: سنن النصر

فالنصر لا يتحقق لمجرد أن الدعوة قد دخلت المحن والفتن واجتازتها بخسائر أو بأرباح فلا يمكن تحقيق النصر إلا بالتزام سننه، وهذه الحقيقة واجهها الصحابة في جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب"[3] وتأخير النصر ليس شراً على الحركة الإسلامية بل قد يكون خيراً لها،
وأسباب تأخير النصر كثيرة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في ذلك:"والنصر قد يبطىء على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله
قد يبطىء النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها
وقد يبطىء النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله، وقد يبطىء النصر حتى تجرب الأمة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر.
وقد يبطىء النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل
وقد يبطىء النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل جمية لذاتها
كما يبطىء النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحص
 وقد يبطىء النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً.
وقد يبطىء النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة له
قد يبطىء النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية".

[1] النور: 15

[2] النساء : 83
[3] البقرة: 214
نشر في 16 ديسمبر2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق