نازحون لكن ظرفاء
أحمد عمر
نازحون من كل صنف ولون، أحباش، سوريون، فلسطينيون، أفارقة، عزّاب، ومتزوجون في الهايم الألماني، بعد اتساع ثقب الأوزون الأرضي العربي.
بينهم بكري، الحلبي التقيّ، الورع. يغتسل في اليوم خمس مرات، أو أكثر. كل صلاة بغسل ووضوء. سيحتّ جلده من كثرة الغسل والاغتسال.
وبينهم أيضاً كردي غضوب، حيثما مرّ كتب على الحائط شعارات سياسية، وأسماء أحزاب كردية، بحروفها الرمزية، التي تشبه الأدوية والصيغ الكيماوية في جدول مندلييف. تتدلى أعلام كردية كثيرة الألوان على سريره..
تقع أحياناً خصومات، تستدعى لها الشرطة، وكثيراً ما ينسى النازحون طيور البط والدجاج في الفرن تحت اللهب وقصف النار، فتحضر سيارات الإطفاء، لإنقاذ أرواحها من الشيّ حتى عتبة التفحم. أرواح النازحين في مناخيرهم، لكنهم جميعاً مشغولون بوسائل التواصل الاجتماعي، والاتصال بالأهل والخلّان وراء أعالي البحار.
ومنهم يوهانس الحبشي، الذي يستدين مني كل يوم خمسة يورو، ويعمل في الأسود، ويخاصم زوجته، آخر مرة قلت له: صار لي بذمتك 105 يورو، فقال: قريباً محمود - مع أن اسمي أحمد - ... قريباً.. إنه يشبه الحكومات العربية، التي تعد ولا تبرُ بالوعد. الأمل يجعل العيش أسهل.
بين هؤلاء شاب فلسطيني ظريف، اسمه غيفارا، يذكّر هيئةً بدحلان، أسمر مثله. يحلق شعره قزعة، جاعلاً من رأسه لوحة تشكيلية. تتناوب فيها بقاع الشعر السوداء مع واحات صحراء خالية من النبات الأسود، إلا من صبار بعض الأورام والكسور. الهايم كان سكناً لعمال شركة سيارات، أعدّته الحكومة على عجل للنازحين، بعد حمّى اللجوء إلى ألمانيا من كل بقاع الأرض، وزودّته بما يلزم من أمتعة، مثل الغسالات والبرادات والأسرة والخزن للإقامة. جاءت قسمتي مع ثلاثة نازحين عرب، كان أحدهم غيفارا، الذي لا ينقضي له يوم من غير زيارة. يزوره فلسطينيون مشتتون في أصقاع العالم، من السويد وإيطاليا والنمسا وجزر القمر، وأهلاً خيّا، ومع السلامة خيّا..
وغيفارا يعرض لهم الصور في هاتفه الذكي، الخبيث، مستعرضاً فحولته في تطبيق حسناوات أوربا. فيتأوّه الضيوف وكأنهم مسوا جمراً، ويقولون مادحين جمال الحسناء: صواب!
الصواب من الإصابة والتصويب طعناً لا من الصواب ضد الضلال.
ويطبخ لهم المسخّن، والمقلوبة، والعكوب، والمفتول... ويدعونا للمائدة.
الزوار يعيثون في الهايم صخباً، فيتحول الليل إلى نهار، والحمام إلى بركة من اغتسالات الحلبي، أو من الجنس من غير نساء. غيفارا ماهر مثل أكثر الفلسطينيين في الميديا، وله نشاطات في دعم المواقع بالتصويت، ومهارات أكثر في تطبيقات الإنترنت، وتنظيف الكومبيوتر من الفيروسات، لكن مهارته الكبرى هي في تطبيق النساء وشيّها على السرير.
يقول لي الدكتور الجراح أبو الصفا: كذّاب.. كذّاب والله العظيم كذاب.
يبدو أنه يتألم من أحاديثه مثلي، أبو الصفا نازح لفّ الدنيا، لم يرح رائحة الأنثى منذ سنة. لعل هناك تطبيقاً على الموبايل عن تطبيق النساء.
قلت: لا تنس أنه تربية يهود، ضحية بني إسرائيل.. كان ياسر عرفات يخلط دوماً ويقول عن فلسطين: إنّ فيها قوماً جبارين. وينسى أنّ المؤمنين هم أحفاد داود، وليس أبناء جالوت وجنوده الكفار.
تتعالى أصواتهم، فيحرموننا من النوم والهدوء، وما أن نحظى بوداع فوج حتى يأتي فوج آخر: أهلا خيّا.. وفي رمضان الجميع يأكل مع أذان المغرب، الصائمون والمفطرون، المؤمنون والملاحدة، فيزدحم المطبخ، ويضيق بالآكلين، لكن رمضان مضى من غير سيارات إطفاء معتادة، وكان من حصيلة الازدحام أن وجد الصائمون لهم منفذاً إلى وجبات المسجد، فالمساجد كلها تقدم وجبات للصائم، فمن أفطر صائماً كان له مثل أجره. لحق الملاحدة بالصائمين حتى المسجد، لكن الطعام كثير.
في إحدى السهرات بلغ بالطبيب الحمصي الغضب أوجه، وغيفارا يتحدث عن مصائده وحورياته: حاجي عاد.. من أنت حتى تحبك كل هذه النساء والشقراوات؟ ليس لك وسامة السيسي، ولا فلسفة الأسد.
وأشار بيده محتقراً، وكأنه يقول له: شقفة واحد، أشعث، أقزع، في طمرين ...
قال غيفارا: له لا ياد كتور... أزعل منك.. كأنك تكذبني.
قال الدكتور: بكل تأكيد.
قال غيفارا منشداً: لم يبق نهدٌ أبيضٌ أو أسودٌ، إلا زرعت بأرضه راياتي، لم تبق زاوية بجسم جميلة، إلا ومرت فوقها عرباتي، فصًّلتُ من جلدِ النساء عباءةً، وبنيت أهراماً من الحلمات..
وعرض عليه الصور في صفحات هاتفه الخبيث، شقراوات السويد وبلجيكا والدانمرك، فتنهد أبو الصفا، وراح يبطئ في تقليب الصور، ويسفّها، ويمصُّها مصّاً ببصره، ويتلون وجهه من "الصوابات" التي أصابته، وافترت شفتاه عن ابتسامة تشطر وجهه، ورأينا فيها الفصول الأربعة مع بعض العواصف.
قال أبو الصفا: يا أخي حلوات.. قسماً بالله حلوات.. حلاوة تجرح الحلق، وأنا مثل رابعة العدوية قلت يوماً: إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً بجنتك، ولكن حباً في الحور العين.. ولكن حتى الأن، ما عندي تفسير.. خيّا.. النساء تعجب بالمهارات، بالفروسية، بالشعر، بالحُسن، أنت أعجم مثلي بلغة هؤلاء، وعادي، فمن أين لك كل هذه الجاذبية؟
قال غيفارا: عندي خطّابة تفرش لي طريقي إلى قلوب هؤلاء الحسان بالزعفران والتبر..
وأخرج من جيبه علبة، لمس فيها زراً فانفتحت بهدوء من غير موسيقى، وأسفرت عن لفافة نائمة مثل الأميرة على سرير من نار باردة.
قال أبو الصفا: ما هذه؟
قال: العطر.. هذا هو سابع مبطوح الذهب، الضوع الذي اخترعه جان باتسيت غرنوي في رواية "قصة قاتل".. شفيعي إلى الانتصارات والهزائم، هذه اللفافة هي نصيرتي التي جرّت إلى سريري أجمل حسناوات أوربا من شعرهن الأشقر الطويل..
ماري... جوانا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق