الحزن التجاري على دماء سيناء
في اليوم ذاته الذي سقط فيه عسكريون في سيناء، اغتيلت سيدة تقف في شرفتها في الأسكندرية، برصاص فض تظاهرة كانت تمر، وقتل مهندس شاب بقصف عسكري في منطقة الواحات. وفي اليوم التالي، جرت تصفية شابين برصاص الأمن، معلن مسبقاً أنهما مختفيان قسرياً..
كل هذه الدماء مصرية، وتتمتع بالقدر ذاته من الحرمة والقداسة، بمعيار الضمير الإنساني والعدالة، وكلها أريقت بفعل حماقات نظام مجنون، يستمد بقاءه من بقاء المقتلة، ومن يفرّق بين دم ودم لا يمكن أن يكون معنياً على أي وجه بوطن أو بمواطن.. فقط معنيٌّ ببقاء سلطةٍ توفر له البيئة المثلى للفساد المربح.
لا تصدّق دموعاً على الجنود الشهداء في سيناء، تلمع في عيونٍ فرحت قبل ذلك، وصفق أصحابها ورقصوا ابتهاجاً بتمرير صفقة بيع قطعتين من الوطن، لمن يملك الثمن.
الذين لم تهتز ضمائرهم لجريمة التفريط في الأرض، ليسوا مؤهلين للحزن على جنود، قالوا إنهم استشهدوا وهم يدافعون عن الأرض.. فمن لا يعرف قدسية الدم لا يعرف قدسية الأرض، ومن يتحالف مع العدو المحتل ضد الشقيق والجار الأصيل لا يعرف معنى الشهادة أو التضحية.. ومن لا يحترم حق المواطن في الحياة لا يمكن أن يدرك معنى كرامة الوطن.
في فاجعة الجنود والضباط في سيناء، لا يوجد جديد، فمثل كل مرة تبدأ آلات الحزن التجاري، الاستثماري، في الدوران، من قبل أن يتبيّن أحد حجم الكارثة، أو من أين أتت.. جاهزون بمقاطع الفيديو ووصلات العويل البذيء، منزوع الصدق والإحساس، إذ يكون التركيز كله منصباً على استحضار الخصوم التقليديين، متهمين بارتكاب الجريمة، والعمل على استثمارها بشكل كامل في التغطية على كوارث وجرائم أخرى للسلطة.
يشعرونك وكأنهم كانوا يستعجلون وقوع الكارثة، حتى يمدّوا موائد الوطنية الملوّثة، ويقيموا مهرجانات البكاء المصنوع. وفي هذا الضجيج، يحرقون آخر ما تبقى من ملامح الوطن الحقيقي، ويستبدلون به وطناً صناعياً، مهندساً وراثياً، في معامل أعدائه وكارهيه الفعليين.
يستوي هنا صنفان من المستثمرين في الكارثة، صنفٌ يشحذ بها، وصنفٌ يشمت فيها.
الأول يريدها مناسبةً لتعبئة أرصدة التخوين والاتهام بالعمالة والتآمر، والثاني يتخذها ذريعة لمواصلة كفاحه في تكفير الناس بالوطن، وتسميم الوعي بترويج أن كل ما عليها باطل وفاسد، ولا أمل في التغيير إلا بحرق كل شيءٍ فيها، الخرائط والمعاني والتواريخ والملامح.
الأول يستخدم الكارثة وقوداً لمزيدٍ من الجرائم ضد البشر، فيقتل ويعذب ويعتقل ويطارد كل من لا يكيّف نفسه مع منظومة القيم القبيحة التي تتحكّم في كل شيءٍ في مصر. والثاني يريدها خرائب دائمة لنعيقٍ لا ينقطع، واتجار لا ينتهي في الكراهية والغل. وبينهما مجتمع كامل مهزوم ومقهور، تتخطفه جوارح الطغيان من ناحية، وكواسر الرقص الجنائزي الكريه من ناحية أخرى.. كلاهما يريد أن يستمر في رقصه المجنون، حتى لو انتهى الأمر بالوطن جثة ممدّدة .
قبل أن يعود مشيعو جثامين الضحايا إلى بيوتهم، كان المتربّحون من الفواجع يبدأون نشاطهم، فتتوزع المهام، من دون أي ابتكارٍ أو تطوير، فريق يملأ خزانات العداء والكراهية لرافضي النظام، ومعهم قطر وتركيا، وفريق يتلو على الجماهير نصوص عبادة الجيش والشرطة وتأليه السلطة، فتجد المذيع الذي رقص احتفالاً بوصول بطاطين الإمارات المستعملة يخرج في وصلة حزن ركيكة، يعلن فيها أن رئيس الشرطة العسكرية إبان مجازر المجلس العسكري ضد ثوار يناير، لم يجد مقدّم ثمن شقة صغيرة أراد شراءها بالتقسيط، ثم يضيف "اكتشفت إن 90%.. 95% منهم (قيادات الجيش) كده".
على أن الاستثمار في الدماء لا يتوقف عند هذا الحد، بل يمتدّ ويتسع لرغبات وضيعة عند كاتب طائفي يقرّر: حان الوقت لتنفيذ عملية إعدام الرئيس محمد مرسي. ويصل الأمر بإعلامي إماراتي للتحريض على اغتيال الدكتور يوسف القرضاوي في قطر، ويجدها المندفعون بأقصى سرعة نحو العدو الصهيوني فرصةً مواتية لتعبئة حافلات صفقة القرن بالوقود.
لا تستسلم لابتزازهم، وقل لهم: لا تفرقة في الدم، ولا فرق بين دواعش الإرهاب ودواعش الطغيان.. بل أن ما بينهما من أواصر أكبر مما تتخيّل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق