الاثنين، 14 يوليو 2025

معبد الإلحاد يهتز.. تفكيك الأصنام العقلية وهدم أساطير الإلحاد المعاصر (1)

 معبد الإلحاد يهتز.. تفكيك الأصنام العقلية وهدم أساطير الإلحاد المعاصر (1)

هل خلقنا الله لأنه مجبر على الخلق؟!


تستهدف هذه السلسلة الرد على شبهات الملحدين المنتشرة عبر منصات مثل «تيك توك»، و«يوتيوب»، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تُوجَّه بشكل متعمد للشباب والفتيات وصغار السن الذين قد ينقصهم العمق في المعرفة الشرعية أو مهارة الرد على بهتان ومغالطات الملحدين.

نتناول في هذه الحلقة شبهة «لماذا خلقنا الله؟» التي تدعي وجود تناقض في كمال الإرادة الإلهية، مستخدمة حججًا تبدو عقلية لكنها تعج بمغالطات كبيرة ومتهافتة.. سنثبت بطلان هذه الشبهة، مؤكدين أنَّ خلق الله عزَّ وجل قائم على الحكمة والكمال، لا الحاجة أو العبث كما يزعم الملحدون.

نص الشبهة:

«لماذا خلقنا الله؟ والجواب التقليدي لأن مِن صفاته الخلق فخلقنا.
وهنا نسأل هل صفة الخلق هي عين الذات الإلهية قديمة كقدمه ملازمة لكيانه؟ أم هي صفة حادثة اختارها في وقتٍ ما؟ إن كانت صفة الخلق قديمة، فالله يخلق لأنه لا يستطيع إلا أن يخلق، كما يبلغ الإنسان لأن البلوغ طبع فيه ليس له فيه خيار، وفي هذه الحالة، الله مجبر على الخلق بطبعه لا بإرادته، أما إن كانت صفة الخلق حادثة فقد اختارها لحكمة، والحكمة تقتضي لحاجة، فهو محتاج وبذلك نقص كماله.
وإن اختار الخلق دون حاجة، فهذا عبث، والعبث يُنافي الحكمة، ففي كل الأحوال نصل إلى نقص في مفهوم كمال الإله». ا.هـ.

تفنيد الشبهة:


1- خطأ التشبيه بين الخالق والمخلوق:

منطلق الشبهة باطل لأنه يقيس الخالق بـ«المخلوق»، الله سبحانه وتعالى لا يُقاس بخلقه، لأن القياس يفترض تشابهًا في الطبيعة والحدود، والله عزَّ وجل يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11)، القول بأنَّ صفة الخلق فيه تعني أنه مجبر على الخلق، كبلوغ الإنسان، فيه تجسيد وتشبيه مرفوض عقلاً ونقلاً.

الشبهة تقع في مغالطة القياس الخاطئ (False Analogy)، حيث تفترض أن القوانين التي تحكم المخلوقات المحدودة -مثل الإنسان الذي يبلغ بفعل طبيعته المادية- تنطبق على الله عزَّ وجل المتعالي عن الزمان والمكان والجسم والمثيل والشبيه والند.. هذا الافتراض غير صحيح، لأنَّ الله تعالى ليس كائنًا ماديًا يخضع للضرورات البيولوجية أو الفيزيائية؛ على سبيل المثال، إذا قال شخص: إنَّ المهندس «مجبرٌ» على بناء جسر لأنه يملك مهارة الهندسة، فهذا استدلال باطل لأن المهارة لا تُلزم صاحبها بالفعل، كذلك، صفة الخلق الإلهية لا تعني الإجبار، بل هي تعبير عن القدرة المطلقة التي تتجلى بإرادة حرة.

2- الفرق بين «الصفة» و«فعل الصفة»:

صفة الخلق قديمة أزلية، وهي من صفات القدرة، ولكن أفعالها تتعلق بالمشيئة؛ بمعنى: الله سبحانه وتعالى خالقٌ منذ الأزل بالصفة، لكنه يخلق إذا شاء ومتى شاء وبما شاء وحيثما شاء، كما أن الإنسان عنده صفة «التكلم»، لكنه لا يتكلم طوال الوقت، بل وقت الحاجة، فهل يُقال: إنه صامت مجبرًا لأنه لا يتكلم دائمًا؟! يقول ابن تيمية: «والله متصف بصفاتٍ أزلية قائمةٍ بذاته، وأفعالُهُ حادثةٌ تتعلق بمشيئته».
وهذا التمييز بين الصفة وفعلها يحل الإشكال بشكل واضح، صفة الخلق تشبه قدرة الإنسان على الكتابة؛ فالإنسان يملك هذه القدرة دائمًا، لكنه يكتب فقط عندما يريد وبما يريد، لو افترضنا أن امتلاك القدرة يعني الإجبار على استخدامها دائمًا، لكان ذلك تناقضًا مع الحرية، كذلك، الله عزَّ وجل يملك صفة الخلق أزليًا، لكنه يفعّلها بحرية مطلقة وفق مشيئته، مما يظهر كماله لا ينقصه، وهذا يدحض فكرة الإجبار، إذ إن الإجبار ينطبق على كائنات محدودة، لا على إله مطلق القدرة.

3- هل الله محتاج إلى الخلق؟!

الله جل جلاله خلق العالم لا لحاجة إليه، بل لإظهار كمال أسمائه وصفاته، كالخالق، الرازق، الرحمن، الرحيم، العدل، الغفور، الودود الوهاب.. هذه الصفات لا تظهر إلا في عالم مخلوق، فلو لم يخلق، لما تجلت هذه الأسماء، وليس هذا نقصًا، بل كمالٌ يتجلى في الفعل عدم الفعل.. وقيام الله عزَّ وجل بالخلق ليس لأن ذاته ناقصة فتكتمل بالخلق، بل لأن كماله يفيض بالخلق؛ كالشمس، فإنها تُشرق لا لحاجة، بل لأن الضياء من طبيعتها، وكذا الله عزّ وجل يفيض مِن كماله على الوجود لا لحاجة، بل لحكمة.

فالكمال المطلق يقتضي الإبداع والتجلي، ولو لم يخلق الله، لكان ذلك سكونًا يتنافى مع طبيعة الكمال؛ على سبيل المثال -ولله المثل الأعلى- الفنان الذي يرسم لوحة لا يفعل ذلك لأنه «يحتاج» إلى اللوحة، بل ليعبر عن إبداعه، كذلك، الله سبحانه وتعالى يخلق ليظهر صفاته مثل الرحمة والقدرة، وهذا ليس حاجة، وإنما تعبير عن كماله المطلق، والشبهة تفترض أنَّ الفعل يعني الحاجة، لكن هذا افتراض خاطئ، إذ يمكن للكامل أن يفعل دون أي حاجةٍ، بل لإظهار كماله، كما نرى في نظام الكون المعقد الذي يحوي تريليونات المجرات والنجوم والأقمار والشموس والكواكب والعناقيد المجرية.

4- العبثية في الفعل تُنسَب لمن لا يعلم.. أما العليم 

الحكيم فلا يَفعل إلا لحكمة:

الله سبحانه وتعالى لم يخلق عبثًا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: 115)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ {16} لَوْ

 أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ)

 (الأنبياء)، فلو كانت الأفعال بلا غاية لقلنا بالعبث،

 لكننا نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لغاية عظيمة وهي عبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).

والشبهة تقع في مغالطة «رجل القش»

 (Strawman)، إذ تفترض أنّ الخلق إما ناتج عن

 حاجة أو عبث، متجاهلة الخيار الثالث؛ الحكمة،

 فالحكمة الإلهية تعني أن كل فعل له غاية، حتى لو لم

 ندركها بالكامل بسبب محدودية عقولنا؛ على سبيل

 المثال، التوازن البيئي في الطبيعة، من دورة الأنهار

 والبحار والمحيطات إلى التنوع الحيوي، ومن خلق

 الإنسان إلى خلق الطيور يعكس تصميمًا حكيمًا، ولو

 كان الخلق عبثًا، لما رأينا هذا النظام الدقيق المُحكم في

 الكون، مما يدحض فكرة العبثية ويؤكد وجود غاية

 عليا وإرادة إلهية.

ثانيًا: القرآن الكريم:

الله سبحانه وتعالى غني عن خلقه: (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت: 6)، (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: 15).

صفة الخلق من صفات الله القديمة التي تتعلق بالمشيئة: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (الحجر: 86).

والخلق قائم على الحكمة: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: 88)، (وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٞ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَٰهٞۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡعَلِيمُ) (الزخرف: 84).

القرآن الكريم يؤكد أن الخلق ليس فعلًا عشوائيًا، بل

 نظامًا متكاملًا يعكس علم الله وحكمته، وقوله

 تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ) (الملك: 3) يبرز الإتقان في

 الخلق، مما ينفي العبثية، كما أن تكرار وصف الله

 بـ«العليم» و«الحكيم» في القرآن الكريم يؤكد أن كل

 فعل إلهي مرتبط بحكمة شاملة، سواء أدركناها أم لا.


ثالثًا: أقوال العلماء والمفسرين:

يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين: «الله لم

 يخلق الخلق لحاجةٍ إليهم، بل ليُظهر قدرته وعلمه،

 ويُوصل رحمته وعدله، ويُبْلِيَهم بالخير والشر ليعودوا

 إليه، ويُجازيهم بإحسانه وعدله».

ويقول ابن القيم: «صفات الكمال الإلهي تقتضي

 آثارها، كما أن صفة الرحمة تقتضي الإنعام، وصفة

 القدرة تقتضي الخلق، وصفة الحكمة تقتضي وضع

 كل شيء في موضعه».

هذه الأقوال تتماشى مع مبدأ «الاقتصاد في التفسير»

 (Occam’s Razor)، أو ما يُعرف بـ«نصل أوكام»

 الذي يُفضِّل التفسير الأبسط والأكثر تماسكًا، بدلاً من

 افتراض حاجة أو عبث في الخلق، يقدم العلماء تفسيرًا

 منطقيًا: الخلق تعبير عن الكمال الإلهي.

على سبيل المثال، نظام الجاذبية أو التوازن في النظام

 الشمسي يعكسان حكمة واضحة؛ ما يدعم أن الخلق

 ليس عشوائيًا، بل مقصودًا لغاية سامية.

الرد على الملحد

والسؤال للملحد الرعديد: هل تعتقد أن الله عزَّ وجل

 الكامل يجب ألا يخلق حتى لا يُتهم بـ«الحاجة»؟! أم

 أن الكمال هو في الخلق بالحكمة، والإفاضة بالعدل

 والرحمة، كما فعل سبحانه وتعالى؟ إنَّ وجودك ذاته

 هو دليل على الكمال الإلهي لا على النقص، لأنك لم

 تُوجد صدفة، بل خُلقت بإرادة، وعلى صورةٍ فطرية

 تدرك بها الحق من الباطل، ولذا يقول الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53).

لو كان الكمال يعني عدم الخلق، لكان ذلك تناقضًا، إذ

 يعني أن القدرة الإلهية عاجزة عن الإبداع، لكن العقل

 يقضي بأن الكمال يتجلى في القدرة على خلق نظام

 معقد ومتناسق ولا نهائي كالكون، ووجود الإنسان،

 بقدرته على التفكير والتساؤل، دليل على إرادة

 حكيمة، ولنتأمل في الدماغ البشري، بتعقيده الهائل، لا

 يمكن -على الإطلاق- أن يكون نتيجة صدفة أو عبث..

 بل يشير إلى تصميم مقصود يعكس حكمة الخالق جل

 جلاله.

إنَّ الله سبحانه وتعالى خالق أزلي بصفاته، يخلق

 بمشيئته لحكمة بالغة، لا لحاجة أو عبث.. والشبهة هنا

 تنطلق من مغالطات منطقية كالقياس الخاطئ وتجاهل

 الحكمة.. وتنهار أمام الأدلة العقلية والشرعية.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق