الثلاثاء، 1 يوليو 2025

لا دور إقليمي ولا طريق إقليمي! ماذا تبقى من مصر؟

 لا دور إقليمي ولا طريق إقليمي! ماذا تبقى من مصر؟

يوسف الدموكي

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة



تقزّم في الخارج والداخل، لا قرار ولا سيادة، ولا كلمة ولا هيبة، ولا اسم ولا علم، ولا شيء سوى الموت على مشارف البلاد، والموت في شرايينها، بين السكوت والسكتة، شلل في الأطراف، وانخناق في الأوردة، وما بينهما جرحى عالقون على ظاهر البوابة، وجثث معلقة في مشرحة الموتى، ويقوم فوقهما “طبيب فلاسفة” كما يسمي نفسه، حيث الطب والفلسفة لا يجتمعان، فالطبيب ذو علم مرجعي، والفيلسوف ذو علم تنظيري، ومتى تدخل هذا في ذاك وجدت المشهد كما ترى، لا الفلسفة أفلحت في إنقاذ مريض، ولا الطب أفلح في الإتيان بحق، وتلك آفة العقل السقيم، والقلب الخبيث، والصدر المدهنن، والوجه الضال، والعيون الوقحة، والبطانة المنحطة.


18 فتاة ورجل، يمضون إلى الموت المؤجل، كل يوم، ينتظرون لحظة تعجله حين يقبض الأرواح دفعة واحدة، أو فرادى، المصير محتوم بالموت، لكنه على كل حال لن يكون على فراش يطل على بحر، من شرفة لمنزل كريم، ينعم بشمس وماء ولحم وحياة، سيكون الموت على متن شيء، على متن قارب في البحر التائه، على متن ميكروباص على الطريق السريع، على متن قطار يتفحم عربةً عربة، على متن ترحيلات تجرك إلى السجن جرا، على متن الهوامش تحمل المهمشين! 


سائق يحمّل سيارةً أكبر من طاقتها، طمعًا في قرشٍ جديد، ربما لن يدخل جيبه قبل أن تلهف الكارتة معظمه، وماذا يفعل إلا أن يضاعف الأجرة أو يضاعف الركاب، ومضاعفة الركاب اليوم أهون عليهم من مضاعفة ثمن أجرتهم، ثم 18 فتاة “لسن” في عمر الزهور، وإنما في أعمارهن هنّ، بلا استدعاءات تجميلية في حرم القبح الخالص، وإنما في أعمار فتيات جميلات طيبات تتراوح بين الثالثة عشرة والواحدة والعشرين، كلهن بالكاد تخرجن من المدرسة أو أوشكن في الجامعة، أو لا هذا ولا ذاك، فلا تعليم في وطن ضائع، استمعن لحكمة طبيب الفلاسفة فخرجن من التعليم وخرجن للعمل، عساهن يجدن لبيوتهن قوت أيامهنّ، وكم عادوا بالقوت ولم يعودوا بالأيام، فلم يجدوا إلا ألف موت يتقدم الموت الأخير!


موتٌ في وجوه بعضهنّ البعض، وموتٌ في وجوه أهاليهن كل صباح ومساء، وموتٌ في تروس المصانع وأشواك المزارع، وموتٌ في وجوه الضباط على الطريق، وموتٌ في كل نجاة من الموت السابق، وموتٌ في أسوار المدارس التي يعبرن بها صباحا دون أن تنادى أسماؤهن في الطابور، وموتٌ في الذكريات المكبوتة والمستقبل المجهول، وموتٌ في أجرة اليوم المخصوم، وموتٌ في أجرة اليوم المحسوب، وموتٌ في ضحكة سيادة الضحوك، وموتٌ في سماجة السائق الكبير، وموتٌ في سماحةِ سماحةِ الوزير، وموتٌ في سماجة الوزير الوزير، وموتٌ بين كل متر ومتر، وموتٌ ساقط في كل شبر، وموتٌ في البوابة، وموتٌ في الكمين، وموتٌ في أسعار الأجهزة إذا ما تمنت إحداهن -لا سمح الله- عريسا، وموتٌ في ثوب الزفاف الذي لا يبدو أنه سيأتي أبدا، وموتٌ في وجوههن الصغيرة المنحولة بالشمس والعرق، وموتٌ في قلوبهنّ الحارة من الرطوبة والحزن، وموتٌ في كل موتٍ يتنكر في شكل “معيشة” مزيفة، موتٌ في كل تقسيمة من وجهك يا أيها السافل!

ودماءٌ على الطريق، مجزرة على الإسفلت، والكثير من العناوين المكررة والديباجات المنمقة في صفحات الأخبار، قل ماشئت، صف الدماء كما تحب، اكتب أنها نهر من الغضب، أو بحر من الكاتشب، لن يراجعك أحد في أي شيء، لستَ أديبًا وليسوا نقادًا، وإنما قد يكون المعظم جبناء، تلك صفة تسع الكثيرين، من الذين لن يجرؤوا على وصف من سفك هذه الدماء ومن سحق عظام صاحباتها في عظام السيارة، من سيقول له كيف أنفقت كل موارد البلاد، وحملتها ديونا كثمن مواردها، لتتذرع ببناء الطرق، ثم تبتلعنا الطرق ذاتها بهذه الشراهة؟ أي فساد أنت لا أي فاسد، نوع جديد من القتلة، لا يتنكر في هيئة طيبة وهو مصاص دماء، وإنما هو القتل بذاته، بشحمه ولحمه، يتنكر في هيئة “إنسان قاتل”، لتبين الجريمة أقل حدة!


فتيات، كل واحدة منهنّ كانت تملك حكاية، تملك عينين لو نظرت إليهما لغرقت في بحر لُجيٍّ من ظلمات الإفقار والتجهيل والتمزيق، لعرفت حكاية الوطن السليب كلها، لقرأت فصولا من رواية القهر المصري الخالص، لعرفتَ طريق “الجلطة” التي تأخذ أبناء البلاد واحدًا تلو الآخر، مما يرى، وهو العجز لا غير الذي يمنعه عن الحركة، وهو مدركٌ بأنه عاجز، وموقن، مع أن يديه تتحركان، لكنها حجة الذي كسّروا قدميه حتى أقعدوه، فبات لا يعرف أن لليدين وظائف أخرى غير الاستناد إلى مسندَي الكرسيّ!


فتياتٌ في المنوفية، على الطريق الإقليمي، وفتاتٌ في غزة، على الطريق الدولي، من ناحية الدوار الإقليمي، لا شيء لمصر من مصر سوى حروفها الثلاثة، ولعلك لو أمعنت النظر لوجدت حروف الموت الثلاثة هي الأخرى مختبئةً خلفها، تتصيّد كل فريسة، واحدةً تلو الأخرى، والواقف على رأسها، والسفلة من حوله، ينظرون في المدى، يرون مصر غير التي نراها، يحكون عن مصر غير التي نحيكها من أوردتنا وإبر آلامنا صباح مساء، يضحكون على بكائنا المفجوع، يتفكّون على أحلامنا الضائعة، يناقشون القرض الجديد الذي سيصرف لبناء مزيد من الطرق الإقليمي، التي لا يؤدي أي واحد منها إلى شرف داخلي، ولا دور إقليمي، وماذا يفعل بالخارج من فقد عرضه بالداخل، إلا التمرغ فوق أسرّة الدائنين؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق