الثلاثاء، 8 يوليو 2025

هجرة الأمة الواجبة من التفرق إلى الوحدة

 هجرة الأمة الواجبة من التفرق إلى الوحدة



رسمت الهجرة المباركة طريق وحدة الأمة المؤمنة

 الموَحِّدة بالله تعالى وله، وخطت طريق التوحيد

 وحددت معالمه الكبرى في أن طريق التوحيد الإلهي

 ونبذ الشرك والوثنية وحياة الجاهلية، إنما يتحقق

 بوحدة هذه الأمة المؤمنة التي هاجرت من مكة

 (المكان والمعنى ورمزية الوثنية آنذاك) إلى المدينة

 (المأوى الإيماني، والتقاء شطر الأمة الثاني ورمزية

 الإيمان آنذاك).

فكان التقاء جسد الأمة الموَحِّدة على الأرض آنذاك

 عن طريق الهجرة والسير من مكة إلى المدينة،

 ولذلك اعتبرت الهجرة في وقتها ليست فقط إيمانًا،

 وإنما نسب ووراثة كبديل لنسب الجاهلية وورثتها.

وكان التشريع آنذاك واضحًا في جعل الهجرة ميزان الولاية والنسب والتوريث دون القرابة والرحم؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا) (الأنفال: 72)، فكانت الهجرة بذلك تخطيطًا كاملًا لبناء هوية المجتمع المؤمن

 الجديد؛ مجتمع الوحدة والتوحيد.

بيان لآيتي «أمة واحدة»

وجه القرآن إلى وَحدة الأمة في موضعين واضحين، ولكل منهما دلالته ومعناه الذي يجب أن تنتبه إليه أمة التوحيد في ذكرى الهجرة المباركة، الموضع الأول في سورة «الأنبياء» قال تعالى: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، والموضع الثاني في سورة «المؤمنون»: (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52).

من دلالات قوله: (أُمَّةً وَاحِدَةً) في سورة «الأنبياء»، أن دعوة الأنبياء جميعًا دعوة واحدة وهي دعوة التوحيد، ومن ثمة فإن المتبعين للأنبياء، من لدن آدم عليه السلام وحتى محمد صلى الله عليه وسلم، جميعًا أمة واحدة في المقصد والطريق والغاية حتى وإن تباعد بينهم الزمن، وأن مسار هذه الدعوة يجمعها خط الأنبياء جميعًا كما أوضحه القرآن الحكيم في ذكر نماذج شاملة وجامعة لخط دعوة التوحيد وهو ما يعرف بتاريخ الأنبياء في القرآن.

وأن على الأمم الموحدة اللاحقة أن تنظر في خط سير

 أمم التوحيد السابقة بالاعتبار والتبصر والاستفادة

 والتدبير لدعوتها الحاضرة والواقعة في زمانها

 ومكانها، وأن القرآن الحكيم لم يذكر سير الأنبياء

 وجهادهم مع أقوامهم من باب التسلية أو الإعجاز في

 الإخبار بالغيب الذي لم يشهده النبي صلى الله عليه 

وسلم، وإنما كان القصد من تسجيل حركة الأنبياء مع 

أقوامهم في أحوالهم المختلفة والمتعددة تسجيلاً 

لحركة التوحيد في الأرض ومسارات عملها والعوائق

 التي واجهتها من أجل الفحص والتنقيب عن العبر

 والاعتبارات الواجبة الأخذ بها لدى أمة التوحيد

 الخاتمة.

وبهذا، جاء وصف القرآن لهذا التسجيل بأنه جاء

 بالتفصيل لحركة التوحيد وسيرها وصولًا إلى النبوة

 الخاتمة كي يكون اعتبارًا لأمة التوحيد الخاتمة

 ويرحمها من مشقات الطريق بأن تتعرف عليه كي

 تجهز وتخطط وتعد العدة الصحيحة والواضحة

 واللازمة لطريق التوحيد.

قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111)، وفي هذا الاعتبار معانٍ كثيرة يجب أن يلتفت إليها الباحثون في علم الاجتماع الإسلامي وعلم اجتماع الدعوة.

ومن دلالات موضع قوله تعالى: (أُمَّةً وَاحِدَةً) في سورة «الأنبياء» أيضًا أنه ختم الآية بالحث على عبادة الله تعالى، والربط بين وَحدة أمم التوحيد عبر الزمان والعبادة، فجوهر التوحيد هو الولاية الكاملة لله تعالى وتوجيه العبادة له في المنشط والمكره لا غيره، وهو ما يجب أن تهيئ أمة التوحيد البيئة المناسبة إلى تحقيق الولاية لله الكاملة، وأن تدفع بوحدتها كل ما يحرف وينحرف بتلك الولاية إلى غير وجهتها (مثل التفرق والتشرذم).

كما أن تفحص سير الأنبياء الذي سجله القرآن في

 مواضع كثيرة يظهر بوضوح قيمة الولاية وارتباطها

 بقيمة العبادة أو العبودية، فالإنسان يتوجه بالعبودية

 لمن يعتقد أنه ينصره، ولهذا جاء أمر القرآن الدائم

 والوحيد في هذه القضية بالتوجيه إلى عبادة الله تعالى وولايته وحده وبإخلاص؛ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة: 9).

دلالة قوله تعالى: (أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ في سورة «المؤمنون»

إذا اعتبرنا الموضع الأول لقوله تعالى (أُمَّةً وَاحِدَةً) هو الالتزام بخط الوحدة الرأسي بين اتباع

 دعوة التوحيد منذ الخليقة إلى النبوة الخاتمة، وكل

 ما يستدعي ذلك من قيم العبودية وما يرتبط بها

 واستحقاقاتها كما أظهرتها حركة الأنبياء في التاريخ

 من المدافعة والمجاهدة لإقرار التوحيد الكامل

 والخالص لله تعالى في الأرض.

فإن هذا الموضع لقوله تعالى: (أُمَّةً وَاحِدَةً) في

 سورة «المؤمنون» يتعلق بوحدة المجتمع الإسلامي

 الخاتم، وهو ما يظهر من اسم السورة الوارد فيها

 هذا القول «المؤمنون».

فالمؤمنون هنا مجتمع الإيمان القائم والخاتم إلى يوم

 القيامة الذي اجتمع فيه الزمان والمكان والمعنى

 والمبنى والدعوة والمدافعة والخصوصية والعالمية

 لدعوة التوحيد، حيث ورثت أمة النبوة الخاتمة كل

 ميراث الأنبياء السابقين ووصيتهم لأنبيائهم،

 واتخذت على عاتقها مسؤولية تحقيق هذه الدعوة

 فيما بينها أولًا وفي أجيالها ومستقبلها، وفي واقع

 الإنسان والعالم عامة بدعوتهم إلى التوحيد عبر بيان

 قيمة هذه الدعوة في الإنسان، وتجسيد ذلك في

 الزمان والمكان المستمرين والدائمين لوجود هذه

 الأمة.

ورغم أن سورة «المؤمنون» من السور المكية،

 فإنها توحي بأن الإسلام وإن بدا فرديًا في أول الأمر

 في مكة، إلا أن ذلك ليس مصيره ولا حالته الحقيقية،

 لأن حالة الإسلام الحقيقية إنما هي في الصورة

 الجماعية والجمعية للمؤمنين الذي افتتحت به هذه السورة الكريمة بقولها: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 1)؛ وهي إشارة إلى أن الإسلام منذ نزوله دين أمتي جماعي لا فردي أو انعزالي؛ لذلك ذم

 القرآن الرهبنة والانعزال في كل صورهما، ثم جاءت الآية: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِتوجه إلى أن أمة المؤمنين واحدة، وأنه

 تعالى يحذر أمة المؤمنين أن تنفك عرى هذه الوحدة؛ لذلك أردف قوله تعالى: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)؛ أي فاحذروا أن تفرقوا هذه الأمة وتضيعوا بهذا التفرق

 معنى العبادة وقيمتها على الأرض، لأن التفرق يتعلق

 بالفشل في أداء واجبات الإسلام والاستخلاف الذي

 حملته أمة محمد كأمانة ووراثة لأمم التوحيد

 السابقة، فكانت الأمة الخاتمة كما كان نبيها النبي

 الخاتم، فلا ينبغي لهذا أن تفشل في المحافظة على

 الوحدة لأن ذلك ينعكس بأخطاره على التوحيد وعلى

 استحقاقاته في واقع الأمة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق