الاثنين، 14 يوليو 2025

قاعدة «الجوهر والأطراف».. كيف تُدير «إسرائيل» مشروع تفكيك الأمة؟

قاعدة «الجوهر والأطراف»..

كيف تُدير «إسرائيل» مشروع تفكيك الأمة؟

أدهم أبو سلمية

منذ أن أعلنت العصابات الصهيونية قيام ما يُعرف بدولة «إسرائيل» عام 1948م، كان السؤال المركزي في العقل الصهيوني: كيف يمكن لدولة صغيرة الحجم وقليلة السكان أن تبقى وسط بحر عربي معادٍ؟!

لم يكن الهدف لديها مجرد السيطرة على الأرض، بل إعادة هندسة الجغرافيا السياسية من حولها، كانت تعلم أن البقاء وسط محيط عربي كثيف؛ قومي وديني وثقافي، لن يتحقق فقط بالردع النووي أو الدعم الغربي الأمريكي، بل عبر تفكيك المحيط نفسه، وزرع الفوضى في الجوهر وبناء التحالفات مع الأطراف.

هذه الرؤية بدأت في عقل ديفيد بن غوريون، الذي أرسى الأساس الفكري لمعادلة أمن الكيان الصهيوني عبر تحييد الكتل العربية المركزية، ولم يكن حديثه عن تفوق النوع لا الكم موجّهًا فقط للجيش، بل كان يعكس فهمًا عميقًا بأن عمق الخطر الحقيقي يكمن في التماسك العربي، لا في عدده.

تلميذه العسكري موشيه دايان ترجم هذا المفهوم إلى عقيدة هجومية؛ ضرب القلب وتحييد الهامش، أما شمعون بيريز، فحوّلها إلى دبلوماسية تحالفات مع تركيا الكمالية، وإيران الشاه، وإثيوبيا المسيحية، وكان يفاخر في مذكراته بأنه بنى جسرًا غير مرئي حول «إسرائيل»، واستكمل إحكامه عبر ضربات عسكرية متلاحقة كانت كلها تهدف لخلق ردع متراكم يوصل العرب لحالة شعورية بأن «إسرائيل» الصغيرة لا يمكن هزيمتها، وبذلك لم تعد بحاجة للاشتباك المباشر مع الجيوش العربية.

وثيقة ينون

لكن هذه الرؤية الإستراتيجية وجدت بلورتها الكاملة في وثيقةٍ نُشرت عام 1982م في مجلة «كيفونيم»، التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية، كتبها محلل صهيوني اسمه أوديد ينون الذي قال فيها: العراق وسورية كيانان مصطنعان، وتفكيكهما على أسس طائفية السبيل الوحيد لضمان استقرار «إسرائيل» لعقود.
إذاً، فالوثيقة ليست مجرد تحليل سياسي، بل خارطة تفكيك واضحة المعالم؛ العراق يجب أن يُقسم إلى شيعة وسُنة وأكراد، وسورية إلى علوية وسُنية ودرزية وكردية، ومصر إلى دولة قبطية وأخرى سُنية، ولبنان إلى كانتونات طائفية، والسودان إلى شمال وجنوب ودارفور، وفلسطين إلى غزة وأرخبيل كانتونات ضفة.
هذه الوثيقة التي ترجمها المفكر المعارض إسرائيل شاحاك، لم تكن عبثية، بعد عام من نشرها اجتاحت «إسرائيل» بيروت، ثم لاحقًا دعمت أكراد العراق، وسرّعت دعمها للتمرد في جنوب السودان حتى انفصاله، وكانت أول من اعترف به دولةً مستقلة، ووسّعت شبكاتها في إثيوبيا عند منابع النيل.

والأكثر إثارة أن معظم ما ورد في الوثيقة تحقّق لاحقًا؛ سقط العراق تحت الاحتلال الأمريكي، وانفصل جنوب السودان، وتحوّلت ليبيا إلى فسيفساء مليشيات، واليمن إلى ساحات تنازع أهلي، واليوم يبرز التحذير من محاولات لإثارة الأقليات في سورية بهدف إضعاف مركزية الدولة الجديدة عبر إعلان «إسرائيل» بوضوح دعمها للأكراد في الشمال والدروز في الجنوب.

هذه العقيدة الصهيونية القائمة على ضرب الجوهر ممثلاً بدول الطوق حول فلسطين المحتلة عبر بناء تحالفات مع دول في محيط المنطقة العربية أو عبر تعزيز العلاقات مع الأقليات داخلها يتماهى مع الخطاب الأمريكي نفسه، عندما قالت كوندوليزا رايس، خلال حرب يوليو 2006م، في بيروت نفسها: إننا نشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد، لم يكن كلامها استعارة، بل كان يتردد صداه في صفحات وثيقة ينون حرفيًا، أطلقت لاحقًا مصطلح الفوضى الخلّاقة، وهو تعبير لا يُمكن فصله عن تصور «إسرائيل» لبناء شرق أوسط مفكك، متناحر، خاضع للهيمنة.

خرائط التفكيك

اليوم، وبعد زلزال معركة «طوفان الأقصى» التي وضعت ولأول مرة «إسرائيل» أمام تحدٍّ يتعلق بأصل وجودها وما أعقبه من جنون صهيوني، عاد بنيامين نتنياهو ليكرر هذه المعزوفة بشكل فجّ، حين قال في أحد خطاباته: إن ما يحدث يعيد رسم خريطة المنطقة، وكأن القتال في غزة ولبنان وإيران وغيرها ليس فقط على حدودها، بل على الخرائط التي وضعت منذ «سايكس بيكو».

المفارقة أن الحديث عن شرق أوسط جديد عاد أيضًا على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، عندما قال: إن رفع العقوبات عن سورية جاء بطلب من دول في الجوار، بما فيهم «إسرائيل»! فكيف لدولة تقصف سورية أسبوعيًا، وتدعم الدروز والأكراد علنًا، أن تسعى لتخفيف العقوبات عنها؟! إنها ببساطة لعبة العصا والجزرة؛ تقويض النظام من الداخل، ثم فتح نافذة دبلوماسية بهدف تحييده، أو إعادة تشكيله ليتناسب مع التصور «الإسرائيلي» لسورية جديدة، منزوعة السلاح، مفككة البنية، مشلولة القرار السيادي.

وهنا تتضح الإستراتيجية الصهيونية التي عبر عنها بوضوح موشيه ديان حين قال: الشرق الأوسط لا يفهم إلا منطق القوة والاختراق، وإذا أردنا البقاء، فعلينا أن نلعب على تناقضاته، إذاً لا حاجة لاحتلال الدول العربية، بل يكفي تفكيكها إلى وحدات متصارعة، واستثمار خطاب حقوق الأقليات والنزعات الطائفية، وتعظيم الأنا القومية كسلاح ناعم.

إنها نفس المعادلة التي لعبت بها «إسرائيل» في السودان، فقد دعمت الحركة الشعبية منذ الستينيات، وسرّعت الاعتراف بجنوب السودان في اللحظة التي انفصل فيها، ثم فوجئ المراقبون بتوقيع السودان على اتفاق التطبيع عام 2020م، وكأن الدولة التي شُرِّحت بفعل السكين الصهيونية قررت أن تصافح الجزار.

لكن حين نُمعن النظر، نفهم أن التطبيع مع السودان لم يكن استثمارًا في قوته، بل في ضعفه، «إسرائيل» لا تريد دولة موحدة في الخرطوم، بل شبكة من السلطات المحلية المتنازعة، تفتح لها باب البحر الأحمر من دون تكلفة أمنية، والمشهد نفسه تكرر سابقاً مع منظمة التحرير حين مد الراحل ياسر عرفات يده للسلام مع «إسرائيل»، وتخلى عن الكفاح المسلح مقابل دولة فلسطينية، فكانت النتيجة سلطة ضعيفة تستقوي على شعبها بلا دولة وبلا أرض، وهو مشهد يُخشى أن يتكرر اليوم في سورية وسط تحذيرات من خطورة العلاقة مع احتلال يحتل أكثر من 9 آلاف كيلومتر من جنوب سورية.

وفي المشهد العام، قد تظهر بعض الأنظمة تبدو في كثير من الأحيان كمن يُوظف ضمن السياق ذاته، سواء عن قصد أو عن توافق موضوعي، عبر دعم حفتر في ليبيا، أو قوات «الدعم السريع» في السودان، فإن النتيجة واحدة؛ تفريغ الدولة الوطنية من مضمونها، وتحويلها إلى كيان إداري هش قابل للتوظيف، لكن المهم ألا نُشتت البوصلة؛ «إسرائيل» هي المستفيد الأكبر، سواء تحركت عبر الضغوط المباشرة، أو عبر حلفاء بالوكالة.

وبعد أكثر من 40 عامًا على نشر وثيقة ينون، يمكن القول: إن عقيدة الأطراف نجحت في تفتيت الجبهة العربية المركزية، وهو ما يتجلى في العجز العربي الرسمي تجاه الإبادة الجماعية في غزة، كما يبرز في حالة التيه العام الذي تعيشه النخب والشعوب وهي تراقب التغول الصهيوني في 4 دول عربية، بالإضافة لإيران، دون القدرة على الفعل الحقيقي، بل ما زال البعض يغرق في النقاشات الجانبية عديمة التأثير أمام مقصلة «إسرائيل» التي تستهدف الجميع، ومع ذلك فإن هذه الإستراتيجية الصهيونية لم تنجح في محو جذوة الوعي.

الشعوب لم تستسلم، والمقاومة لم تُهزم، والعدو الذي أراد شرقًا أوسط جديدًا على مقاسه، بدأ يُدرك أن الفوضى التي صنعها قد تبتلعه، فالمنطقة وإن كانت مفككة ضعيفة فإن ضعفها يجعل سلوكها وسلوك الجماعات والأفراد فيها غير متوقع، ويراكم التحديات الأمنية أمام خصومها.

ختاماً، إذا كانت «إسرائيل» وضعت إستراتيجيتها لتفكيك المنطقة بأدوات السيطرة والتحكم التي تملكها، فإننا مدعوون اليوم لأن نكتب نحن وثيقتنا، وثيقة الأمة الواحدة في مواجهة كل أشكال الهيمنة والمشاريع المستوردة، وثيقة تصالح بين الجوهر والأطراف، بين الدولة والمقاومة، بين الذاكرة والمستقبل، وثيقة لا تُصالح على الأرض، بل تُحرر الوعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق