من سريبرينيتسا إلى غزة.. الإبادة تتكرر و"العدالة" تغض البصر
في الذكرى الـ 30 لمذبحة سريبرينيتسا، التي راح ضحيتها أكثر من ثمانية آلاف مسلم بوسني في يوليو/ تموز 1995، وجدتُ نفسي أسير في ممرات الذاكرة المغمّسة بالدم، متنقلًا بين نفق الحياة الذي حفره أهالي سراييفو تحت الحصار، والمقابر البيضاء الممتدة كشهادة دائمة على وحشية المجازر وصمت العالم.
كانت تلك الزيارة للبوسنة والهرسك -في لحظة متزامنة مع الإبادة الجارية في غزة- أكثر من رحلة تأمل؛ كانت اختبارًا للتاريخ.. اختبارًا لذاكرة العدالة. وللأسف، رسبت فيه الأمم المتحدة، والمنظومة الدولية التي لم تتعلّم شيئًا، بل -على العكس- سقطت أخلاقيًّا مرة أخرى، لكن هذه المرة أمام كاميرات مفتوحة في قطاع غزة.
3 عقود مرت، والضحايا ما زالوا يُكتشفون، وأسرهم ما زالت تدفنهم، والمجتمع الدولي يكتفي بتقديم الزهور في يوليو/ تموز من كل عام، بينما يُسلَّم القاتل السياسي في كل مرة بندقيته لإدارة الجريمة
الإبادة لا تُنسى.. لكنها تتكرّر
سريبرينيتسا لم تكن مجرد مذبحة في قرية بوسنية صغيرة، بل لحظة عار في جبين "الأسرة الدولية"، كما وصفها الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان. لقد وُصفت المجزرة في تقارير المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) بأنها “إبادة جماعية مكتملة الأركان”، وتمّت إدانتُها من قِبل محكمة العدل الدولية كذلك عام 2007. ولكن، ماذا بعد؟
3 عقود مرت، والضحايا ما زالوا يُكتشفون، وأسرهم ما زالت تدفنهم، والمجتمع الدولي يكتفي بتقديم الزهور في يوليو/ تموز من كل عام، بينما يُسلَّم القاتل السياسي في كل مرة بندقيته لإدارة الجريمة.
من النفق إلى النفق.. والعدو واحد
في سراييفو، رأيت نفق “الحياة” الذي حفره المقاومون تحت الأرض عام 1993م لربط العاصمة المحاصرة بالعالم الخارجي.. نفق لا يتعدى عرضه المترين، وارتفاعه بالكاد يسمح بالوقوف، لكنه أنقذ مدينة كاملة من الموت.
حين وقفت في بدايته، تذكرت أنفاق غزة.. أنفاق المقاومة، التي لا تنقل الخبز، بل تحمل إرادة شعب بأكمله، يرفض الاستسلام.
في سراييفو، سمعت شهادات الأحياء، وقرأت في المتحف عبارة تقول: "كل ما نريده عالم ضد الحرب، وكل ما نحتاجه فرصة للسلام". لكن الحقيقة التي تنطق بها المقابر، أن السلام لم يأتِ من المناشدات، بل من مقاومة من رفضوا أن يُذبحوا في الصمت.
اللافتات التي رأيتها في متاحف البوسنة تلخص كل شيء، تلك التي كُتب عليها: "UN = United Nothing"، في اختصار لثلاثين عامًا من الفشل، إن لم يكن التواطؤ
غزة اليوم.. سريبرينيتسا بلا أقنعة
القاتل اليوم لا يختبئ، ولا ينكر الجريمة! في غزة، يُقتل الأطفال بالكاميرا البطيئة، ويُدفن الآباء والأبناء تحت سقف واحد… هناك أكثر من 56 ألف شهيد، وقرابة 120 ألف جريح، ثلثاهم من النساء والأطفال، وفق تقارير وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع. ومع ذلك، لا تسري على ذلك توصيفات “الإبادة” في عُرف المؤسسات الدولية، لا لشيء سوى أن القاتل حليف غربي، والضحية فلسطيني.
لم يعد العالم بحاجة إلى لجان تحقيق كالتي أُنشئت بعد البوسنة، ولا إلى أدلة جنائية… الأدلة حية، متلفزة، محمولة على أكتاف الأطفال في مخيمات رفح وخانيونس وجباليا.
الأمم المتحدة.. من "شاهد زور" إلى شريك فاعل؟
في سريبرينيتسا، كانت القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة تحرس المدينة، ثم سلّمتها بهدوء لقوات راتكو ملاديتش، القائد الصربي المتهم بجرائم الإبادة. واليوم، تُمنع نفس المنظمة من التصويت على وقف فوري لإطلاق النار في مجلس الأمن، ويُمنع موظفوها من إدخال المساعدات دون إذن الدولة التي ترتكب المجزرة.
بل إن اللافتات التي رأيتها في متاحف البوسنة تلخص كل شيء، تلك التي كُتب عليها: "UN = United Nothing"، في اختصار لثلاثين عامًا من الفشل، إن لم يكن التواطؤ.
30 عامًا بين سريبرينيتسا وغزة لم تُبدّل شيئًا في مواقف الغرب، لكنها بدّلت الكثير في وعي الشعوب. اليوم، لم يعد الضحية وحده يعرف الجاني، بل باتت الشعوب ترى، وتحاكم، وتوثق
دروس البوسنة.. وصوت غزة
حين سألت شابًّا بوسنيًّا عن معنى بقاء بلده بعد كل هذا الموت، قال لي: “لولا من قاتلوا لما كنا هنا، ولما رُفع الأذان فوق مآذن سراييفو من جديد”! وفي ذلك أسمع صوت غزة.. المقاومة التي تقاوم الإبادة من أن تصبح طي النسيان، وتُبقي فلسطين على الخارطة، لا كذكرى بل كقضية حيّة.
فالبوسنة اليوم تُعلّمنا:
- لا تثقوا بوعود الغرب حين يتعلق الأمر بمذابح المسلمين.
- لا تضعوا سلاحكم، لأن العدالة لا تأتي إلا بعد أن تتوقف الجريمة.
- لا تنسوا الإبادة، فالمجرمون لا ينسون، بل يعيدون الكرة حين نغفل.
30 عامًا بين سريبرينيتسا وغزة لم تُبدّل شيئًا في مواقف الغرب، لكنها بدّلت الكثير في وعي الشعوب. اليوم، لم يعد الضحية وحده يعرف الجاني، بل باتت الشعوب ترى، وتحاكم، وتوثق. ولعلّ أقسى ما رأيت في متحف الإبادة في سراييفو، صورة كُتب أسفلها: “خوفي من النسيان، أكبر من خوفي من أن أتذكر كثيرًا”.
فالحذر الحذر من أن ننسى أو أن نستكين؛ فالتاريخ لا يُكتَب بالدمع، بل بالمقاومة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق