الأربعاء، 3 أبريل 2013

سبل تيسير العسير


سبل تيسير العسير
لا أحد منا إلا وقد رأى نفسه يوماً من دهره في مفترق طرق وقد التُبست عليه السبل ولم يعد يدري أيها يوصله إلى هدفه!
ولا أحد منا إلا وقد رأى نفسه يوماً من دهره في منتصف الطريق وقد أضناه التعب وحال النصب بينه وبين مواصلة المسير، فلم يبلغ غايته المقصودة، ولم يظفر بضالته المنشودة!
ولا أحد منا إلا وقد رأى نفسه يوماً من دهره وقد تكاثرت عليه الهموم حتى كأنها طوق حول رقبته فلا يتنفس إلا من أضيق من سم الخياط!
ولا أحد منا إلا وقد رأى نفسه يوماً من دهره وقد تحوّلت مشاكله إلى قيود تعجزه عن كل شيء حتى عن مجرد التفكير!
فإذا كنتَ يوماً من دهرك أحد أولئك الذين ذُكروا؛ فلا عليك إلا أن تستبشر بأن الذي نالك قد نال الأنبياء الذين قدَّر الله برحمته 
أن يكونوا بشراً مثلنا لحكمٍ إلهية؛ منها أن يكونوا قدوة لنا في حياتنا، وفي مواجهة ما يعنّ لنا فيها من المحن والملمات.
فمن ذلك ما حكاه ربنا - سبحانه وتعالى - عن كليمه موسى، إذ يقول: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا 
هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]. قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ المَكَانَ الَّذِي أُمِرَ 
بِهِ»[1].
قال ابن المنير الإسكندري: «فلعل الحكمة في إنساء يوشع أن يتيقظ موسى - عليه السلام - لمنةِ الله تعالى على المسافر 
في طاعةٍ وطلبِ علمٍ؛ بالتيسير عليه، وحمل الأعباء عنه.
وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات، أن ييسرها، ويحمل عنه مؤونتها، ويتكفل به ما دام 
على تلك الحالة.
وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته، بوناً بيّناً، والله أعلم.
وإن كان موسى - عليه السلام - متيقظاً لذلك!
فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذا قص عليهم القصة.
فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمّر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها، عاجلاً وآجلاً. والله أعلم»[2].
فهذا موسى - عليه السلام - أمره الله - عز وجل - أن يذهب إلى الخضر ليرى معه عِلماً لم يعلمه الله له؛ فيزداد تواضعه لله - 
سبحانه وتعالى -، وجعل الله له علامة للمكان الذي فيه الخضر، وهي أن يفقد الحوت الذي معه، وعندما نزل الحوت البحر كان 
موسى - عليه السلام - نائماً فاستحى يوشع أن يوقظه، فلما استيقظ نسي يوشعُ أن يخبره، فسارا معاً، وتجاوزا الموضع 
الذي نزل فيه الحوتُ إلى البحر، فلم يلبث أن شعر موسى - عليه السلام - بالنصب الذي لم يشعر به طوال الرحلة! فطلب 
الغداء من يوشع، وحينئذٍ تذكر يوشع أنه فقد الحوت! وقد أراد الله من وراء ذلك أن يعلمنا درساً من خلال المقارنة بين الحالتين:
الأولى: سفر موسى - عليه السلام - إلى الموضع الذي أمره الله بالسفر إليه.
الثانية: سفر موسى - عليه السلام - بعد تجاوزه الموضع الذي أمره الله بالسفر إليه نسياناً وخطأً، لا عمداً وقصداً.
فلماذا لم يشعر موسى - عليه السلام - بالنصب والتعب في الحالة الأولى مع طولها، وشعر بالنصب والإرهاق في الحالة 
الثانية مع قصرها؟! لأنه في السفر الأول كان في الطريق الذي أمره الله بالسير فيه، وهو طلب العلم، بينما في الحالة الثانية 
فقد تجاوز الموضع الذي أمره الله به عن غير قصد ولا تعمد؛ فكان في الحالة الأولى مستوجباً لعنايةِ اللهِ وتيسيره له عناية لا 
يجد معها مساً من النصب ولا نوعاً من الإرهاق! وهذا ليس خاصاً بموسى - عليه السلام -، بل هو عام لكل من سلك طريق العلم، أو أي طاعة أخرى، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ»[3]
ومن ثم؛ فمتى وجد أحدُنا تعسراً في طريقه فليراجعن نفسه لينظر قدر حيودها عن الطريق الذي رسمه الله لها، وقدر 
تجاوزها الهدف الذي وضعه الله لها، فمتى ارتد إلى الهدف الإلهي واستقام على الطريق الرباني؛ كان مستوجباً للعناية 
الإلهية، مستأهلاً للتيسير الرباني! وحينئذٍ يتيسر عليه باستقامته وانضباطه ما كان متعسراً عليه بحيوده وتجاوزه!
وقد تكرر الدرس مع موسى - عليه السلام - مراراً! فمن ذلك عندما ضلّ الطريق مع بني إسرائيل لما خرجوا من مصر، فعجب 
قائلاً: ما هذا؟! فأجاب علماؤهم: لقد عهد إلينا يوسف أن لا نخرج من مصر إلا بعظامه! فلما اجتهد موسى تنفيذاً للوصية 
وأخرج عظام يوسف - عليه السلام - وحملها؛ «أَصْبَحَ الطَّرِيقُ مِثْلَ ضَوْءِ النَّهَارِ»[4]. فتأمل حال موسى وقومه إذ تاهوا في 
الطريق فراجَعَ نفسه وقومه حتى علموا أنهم مقصرون في أمرٍ أُمروا به، وهو العمل بوصية يوسف، فلما أطاعوا الله - عز وجل - ونفذوا الوصية، اتضح لهم من الطريق ما كان خافياً عليهم بسبب تقصيرهم في تنفيذ الوصية.
فإذا التُبِسَت على أحدنا السبل، ولم يدرِ أيها يوصله إلى الهدف؛ فليراجعن نفسه، ويرمم ما انثلم من عبادته لربه.. فمتى 
أقام المائل من نفسه، ورمم الثُّلْمَةَ من الطاعة؛ استبان له بتقويمه وترميمه ما كان خافياً عليه بميله وَثَلْمِه! وقمينٌ بالذكر أن 
نعلم أن هذا التيسير الإلهي على العبد ليس خاصاً بأنبيائه، بل هو عام على كل من سار في طريق الله - عز وجل -. وتأمل 
حال الخضر إذ قال الله فيه: {فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا} [الكهف: 
71][5].
 قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ، فَنَزَعَهُ»[6].
 فنَزْعُ لوحٍ من السفينة يحتاج إلى آلات، ومعاناة، ومشقة، ووقت! لكنه لما كان يفعل ذلك عن أمر الله - عز وجل - له يسره الله عليه فنزعه بغير آلة، ولا مشقة، ولا وقت!
وكذلك في قتله الغلام، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «فَأَخَذَ الخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ»[7].
 قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: «فَتَنَاوَلَ رَأْسَ الْغُلَامِ بِثَلَاثةِ أَصَابِعٍ: الْإِبْهَامِ، وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهَا»[8].
 فمن ذا يستطيع أن يقتلع رأس غلام بثلاثة أصابع؟! فلولا أنه كان قاتلاً له بأمر الله - عز وجل - ما تيسر عليه! وكذا في بنائه للجدار، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: 
«قَالَ الخَضِرُ: بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ»[9].
 فبناء الجدار يحتاج إلى آلات بناء، وجهد، وعناء، ووقت! لكنه لما أقامه طاعة لله - عز وجل - يسره الله عليه.
ومن أمثلة التيسير الإلهي على من سار في طاعته، ولا هَمَّ له إلا مرضاته؛ ما رواه زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ 
صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ. قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَاب. قَالَ زَيْدُ: مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ 
عَشْرَةَ لَيْلَةً؛ حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ»[10].
 فتعلّمُ لغةٍ جديدةٍ على الإنسان يحتاج إلى زمن طويل، وحذقها وإتقانها يحتاج إلى زمن أطول. وما يَسَّر اللهُ على زيد هذا 
التيسير العجيب إلا لأنه ما أراد بتعلم تلك اللغة الجديدة مالاً، ولا جاهاً، ولا منصباً، ولا كبراً على المسلمين؛ لكن تعلمها لله، 
وليسد ثغراً من ثغور الإسلام، وليخدم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صحت نيته لله - عز وجل -، صح عون الله - عز 
وجل - له، ورضي الله عن عمر إذ يقول: «فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَمَنْ تَزَّيَّنَ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِهِ شَانَهُ اللَّهُ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعِبَادِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا»[11].
وهذا عين ما حدَثَ لحذيفة، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب إلى المشركين ليأتي بخبرهم. وكانت الليلة فيها ريح شديدة، وبرد قارس. قال حذيفة: «فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ؛ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ»[12].
ثم قضى الْمَهَمَّةَ التي كلفه بها النبي صلى الله عليه وسلم، ورجع. قال حذيفة: «فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ»[13].
 فتأمل حال حذيفة إذ كان في أداء الْمَهَمَّةِ الشرعية! لقد كان يسير في يوم شديد البرد جداً لا طاقة لأحد به، فلما سار يريد 
طاعة الله ورسوله سار كأنه يسير في حمام! والحمام عند العرب مكان يغتسل فيه الناس وتكون الحرارة فيه مرتفعة، مثل 
«الساونا» في عصرنا. وكان في هذا الدفء الإلهي طول أداء الرحلة الربانية، فما لبث أن انتهى من مَهَمَّتِه التي كلفه بها 
النبي صلى الله عليه وسلم حتى شعر بالبرد الشديد كما قال: «فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ».
قُرِرْتُ: أصابني البرد الشديد! فمن الذي أدفأه في الرحلة؟! ولماذا أدفأه؟! إن الذي أدفأه في الرحلة هو الله لأنه كان مشغولاً بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهكذا.. فإن أحببت أن تكون دائماً في حماية الله ورعايته، وأن تكون مستأهلاً لتيسيره ما تعسر عليك، قميناً بتسهيله ما صعب عليك، مستوجباً لمعونته؛ فلا تبرح طاعته، ولا تحد عن طريقه، ولا تجاوز حدوده التي رسمها لك.. كن كما يحب الله لكأن تكون له، يكن لك الله كما تحب أن يكون لك!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
محمد فريد فرج فراج 
[1] (صحيحأخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380).
[2] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/732).
[3] (حسن) أخرجه الإمام أحمد (21715)، أبو داود (3641)، والترمذي (2682).
[4] أخرجه أبو يعلى الموصلي (7254)، وابن حبان (723)، والحاكم (7088).
[5] (الكهف: 71).
[6] (صحيح) أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380).
[7] (صحيح) أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380).
[8] تفسير عبد الرزاق: (1705).
[9] (صحيح) أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380).
[10] (صحيح) أخرجه الإمام أحمد (21618)، أبو داود (3645)، والترمذي (2715).
[11] إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/68).
[12] (صحيح) أخرجه مسلم (1788).
[13] (صحيح) أخرجه مسلم (1788).









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق