من يتعلم الدرس
لقد شغلنا منذ قامت الثورة بمطالبات التوظف وتحسين أوضاع وأجور العاملين، وغير ذلك مما اعتبر حقوقا ومظالم ينبغي أن تعالج، لكننا لا نكاد نسمع مطالبات مماثلة بما يقابل ذلك من واجبات ينبغي أداؤها لتحسين الأداء والارتقاء به. وكانت النتيجة أن صوت المطالبات صار عاليا وصاخبا، في حين أن أحدا لم يتطرق إلى الواجبات التي بقيت ساحة مسكوتا عليها، الأمر الذى أبقى على كل مظاهر الفساد المتراكم كما هي، كما كانت عليه قبل الثورة.
لا أستطيع أن أقلل من أهمية توفير الحقوق للعاملين في القطاع الحكومي، الا اننى أزعم ان استحقاقات تلك الخطوة تحمل موازنة الدولة في الغالب بأعباء مادية قد لا تكون قادرة على احتمالها في الوقت الراهن؛ بسبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. مع ذلك فان انتهاج سياسة تتدرج في تحقيق ذلك الهدف حسب الامكانيات المتاحة يعد أمرا لازما لطمأنة العاملين إلى ان أملهم في تحسين أوضاعهم قائم وفي الحسبان. في ذات الوقت فإن فرصة تحسين أداء الواجبات تظل أفضل، من حيث أنها تكاد تحمل الموازنة الحد الأدنى من الأعباء.
على الأقل فذلك ما توحي به خبرات دول أخرى حققت ذلك الهدف، في المقدمة منها تركيا وماليزيا، وقد تلقيت رسالة في هذا الصدد من الدكتورة رشا ماضي خبير تنمية الموارد البشرية وتطوير المؤسسات في أدنبرة ببريطانيا.
ذكرت فيها ان البلدين عالجا تدهور الإدارة في الأجهزة الحكومية من خلال إنشاء أقسام جديدة لمكافحة الفساد الإداري داخل كل مؤسسة، ودربت موظفيها على استخدام الأدوات الحديثة لقياس الموارد والأصول وتقليل الفاقد والمهدر، وتفعيل قوانين عدم تضارب المصالح. والتزاما بالشفافية حددت الحكومتان في البلدين معايير جودة خدمات المواطنين على كل موقع مؤسس إلكتروني، وووفرت أدوات تقييم لمحاسبة الموظفين على الالتزام بها. الأمر الذى استدعى تخصيص أقسام في داخل كل مؤسسة تعمل على متابعة تطبيق معايير جودة الأداء.
بإنشاء أقسام جديدة وثقافة جديدة وتوفير دورات تدريبية للعاملين انخفضت معدلات البطالة بصورة نسبية، جراء ما تطلبته تلك الأقسام من تعيينات بمهارات جديدة. وكان ذلك وراء آليات التطوير وارتفاع معدلات التنمية في كل من تركيا وماليزيا، خصوصا انه تمت مراعاة مبدأ التخصصية، بحيث لم يعد يعمل في أي مجال من لا يفهم فيه. بالدراسة أو بالخبرة، مع توفير التدريب التحويلي لكل من أراد العمل بمجال جديد.
لقد عالج البلدان مشكلة المطالبات والمظاهرات الفئوية من خلال مراجعة هيكل الأجور لكل مؤسسة، لتقليل الفجوات بما يتناسب مع موارد المؤسسة وطبيعة الوظيفة، إلى جانب اتباع سياسات مالية خصصت جزءا من الحوافز لتحسين الأهداف الوظيفية.
إذ ارتبط جزء من الزيادات بالإنتاجية وتحسين الأداء، وذلك حفز العاملين على الانضمام إلى منظومة التطوير والإقبال على الدورات التدريبية.وهو ما ترتب عليه تحسن الأداء الاقتصادي وتحسن معه المستوى المعيشي للمواطن التركي والماليزي.
بالتوازي مع كل ذلك فان الخطاب الجماهيري لكل من طيب أردوغان ومهاتير محمد ابتعد تماما عن الصيغ الانشائية، وركز على صياغة الأهداف ووضوحها، وتم ذلك باسلوب علمي يحدد أهدافا اقتصادية تنموية رقمية يمكن قياسها، وتحديد الإطار الزمني لتحقيقها وكيفية تطبيقها وتقييمها.
فعلتها تركيا وماليزيا، ليس بتغيير الإدارات والوجوه، ولكن بإدارة التغيير في ظل وضوح الرؤية وتحديد الأهداف، وفي ذلك قدم البلدان درسا بليغا وقدما نموذجا للتغيير يمكن ان يستلهمه كل بلد جاد في الخلاص من التخلف واللحاق بالعصر وبمسيرة التقدم ــ لكن السؤال هو: من يعي الدرس ويتعلم منه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق