د.عبدالعزيز بن ندى العتيبي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعدُ: ان شعور الضعف والخنوع طبع لا تقره النفوس الأبية، وان رؤوس الرجال لتأبى الخضوع الا لخالقها، القائل عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2]، والقائل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، الله وحده لا شريك له، فالهامات العزيزة تأبى الانحناء كما تأبى الجبال الميل والانحناء، وان نفوساً جُبلت على العزة والكرامة، فلا يراهِنَنَّ أحدٌ على أنها ستقبل يوماً حياة الذلِّ والهوان، ولو لم تجد قوتاً ليومها أو حتى حبة شعير تسد الرمق، فانها ليست أنعاماً ترضى بالهون وملء البطون، بل تلك أمة خلقت ليكون الايمان روحاً لها وحياة.
ولله دره العبسي، عنترة بن شداد، القائل:
ولقد أَبِيتُ على الطَّوَى وأظَلُّه
حتى أنال به كريم المأكلِ
قسمة باطلة ومراتب عاطلة
في الأزمان المتأخرة كثرت دندنة الأشقياء في الغرب خاصة على قسمة الناس الى قسمة مقصومة، فلم نجدها تركن الى حجة وبرهان، أو كلام وتركيب تقبله عقول الأصحاء وأهل البيان، رفعوا شعاراً يكشف خزياً وعاراً، وأبانوا أمراضاً يعانيها بعض الناس، قد استشرت في مجتمعات تسير بلا هدف ولا هوية، قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، يلاحقها شبح الهزيمة في كل مكان، وحالة الفوضى والاضطراب، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]، وسعياً للخلاص من تلك المعاناة، وهذه الآلام، ذهبوا لمعالجة أمرهم، باختراع قسمة لعلها تنزل بالسعداء من العلياء، وتقلل شأنهم وتفتح باب الأحزان أمامهم، فجعلوا أنفسهم في المقدمة، وتسمّوا بالعالم الأول (الدول المتقدمة) ليشهد المسمّى زوراً بأنهم أصحاء، وتكون حياتهم أحلاماً تبعد كابوس التعاسة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَانَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه: 124]
وأما غيرهم فهو العالم الثالث المتخلف، فمن أجل الخروج من مجرى الانتكاسة وعالم التعاسة، قاموا بأمرين:
أولهما: زيّنوا عالمهم الْمُشوّه وَوَسَموه بالعالم المتقدم المتحضر.
والأمر الثاني: تسمية الآخرين تشفياً، بالعالم الثالث، وهي منزلة في نظرهم دون العالم الأول بمراحل، ويحلو لَهم تسميته بالنامي والمتخلف، وذلك لايجاد مسافة شاسعة بينهم وبين الآخرين، والنظر من بُعدٍ بعين الاستخفاف والاحتقار، اشعاراً لغيرهم بالنقص.
رسالة الى العالم المتقدم وكل مدعٍ للرقي والتحضر
يا دعاة التقدم! لقد ان نقد هذه التقاسيم وكشف زيفها، التي جعلت شعوباً كثيرة رهينةً للضّعفِ، وحبيسةً لَهذا التصنيف دهراً من الزمن، فانقادت مصدقة خلف من صنفها، ووصفها بالتأخر والتخلف منزوعة الارادة، مسلوبة الْهُوية.
يا دعاة التقدم! لم ينفع الساحر فعله، فلابد من المبادرة لكشف الوجه القبيح لهذا القسمة (شعوب متقدمة وشعوب متأخرة) وبيان نكارتها الجاثمة على صدور الشعوب زمناً، فشلّت بها العقول، وسُلِبت بِها الحقوق.
-1 انكم في لعب وشغب بهذه التقاسيم المادية البحتة، والمراتب المحدثة طمعاً وتحكماً بالخيرات والمصالح، يدفعكم هوس السيطرة على الدول والشعوب المغلوبة من دولٍ تدّعي التَّقدم والتَّحضُّر، وتحمل لواءه خيانة وترفع شعاره كذباً وزوراً.
-2 ان قسمة الدول الى عالم متقدم وعالم ثالث متخلف، لا تقوم على الاحسان وكرامة الانسان، بل على الاساءة واهانة الحيوان، تقسيم يسعى لانتزاع الثقة والعزة والكرامة، انتزاعاً يصعب علاجه، وزراعة الضعف بديلاً للثقة والكرامة، وغرس الذل بديلاً للعزة، وجعل التبعية بديلا للاستقلالية في كثير من الشعوب – خاصة الدول والشعوب المسلمة – كي تُروّض، فلا ترفع رأساً، ولا تعرف بأساً، وتعيش انقياداً مطلقاً.
-3 حتى أصبح الخطام ضرورة، وشعار المرحلة، وتبع لهذه القسمة، فتقاد به الشعوب.
والعالم المتقدم – زعموا- يقود العالم الذي روّضه واستضعفه، وجعله يدور في فلك الضعف والحاجة، فأصبح كالبهيمة لا يهتدي الى شأنه، ولا يستطيع السير الا بخطام يُقاد به، طرفه ينتهي بيد مدّعي التّقدّم والتّحضُّر.
اسمعوا وعوا يا دعاة التقدم
أيها التقدميون! من القائل والمنشئ لهذه الشعب وتلك القسمة – عالم تَقَدُّمي، وعالم ثالث أو شعوب مُتحضّرة وشعوب نامية ومتخلّفة-؟ من قائلها؟ وما قدره؟ وما قيمته؟
هل هو نبي أو رسول من عند رب العالمين، أم انسان جهول؟! ان مثل هذه التقاسيم لا يقول بها عاقل، فضلاً عن نسبة مصدرها الى أفاضل خلق الله من الأنبياء والمرسلين بوحي من رب العالمين.
فكيف تم التعاون مع الشيطان يا دعاة التقدم؟
دعاة التقدم! من الشريك المبتدع لهذا النوع من التقاسيم؟
ومتى نشأَت صورة وفكرة هذا الاذلال للشعوب؟!
الحقُّ يقابله الباطل، والايمان يقابله الكفر والاسلام يقابله الشرك،
وغير ذلك لغوٌ يتَزَيّنُ به المفلسون
[أيها التقدميون في كل مكان]:
اعلموا جيداً ان القسمة المقررة المعهودة من لدن آدم حتى يومنا هذا، هي الحقُّ الذي يقابله الباطل، والايمان ويقابله الكفر والاسلام ويقابله الشرك، وغير ذلك لغوٌ يتَزَيّنُ به المفلسون.
فمن كان مع الحق فهو المتقدم الراقي، ومن كان مع الباطل فهو غارق في بحر التخلف.
ومن كان على الاسلام، مسلماً وفي عداد المسلمين، فانه يتصدر الشعوب مرتبة وخلقاً ورقياً وتقدماً، وأما من كان على الكفر وفي عداد الكافرين، فانه يعاني التخلف والانحراف والضياع.
ومن كان على الايمان وفي زمرة المؤمنين فهؤلاء كالمسك بين الأمم، وزبدة العالم المتقدم، ومن كان على الشرك، فانه هالك في عالم التخلف، وخارج دائرة الفضيلة بالكلية، فكيف يجرؤ أمثال هؤلاء في الغرب والشرق على ادعاء التقدم والرقي، وهل بلغ الاستخفاف بالعقول هذا المبلغ؟! أم قُلبت الحقائق بما يملكون من آلة اعلامية، وأبواق سرقت العقل وصادرت خلاياه.
{انَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ان اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
اسمعوا يا دعاة التقدم! ان المراتب وقسمة الأمم والشعوب والقبائل وفضلها وكرمها وتقدمها وعلو منزلتها، هو بحسب تقوى الله وعبادته وحده لا شريك له، فان أكرمكم عند الله أتقاكم له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ انَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ان أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ان اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]
وروى البخاري (4689)، ومسلم (2378) في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم ».
وروى أحمد في المسند (411/5) باسناد صحيح من طريق أبي نضرة حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: «يا أيها الناس ألا ان ربكم واحد، وان أباكم واحد، ألا، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، الا بالتقوى».
وقد ذُكر اسم الصحابي المبهم في رواية أبي نعيم في «الحلية» (100/3)، والبيهقي في «شعب الايمان» (289/4)، فقال: عن أبي نضرة عن جابر بن عبدالله.
وبهذا يتبين ان الذي لا تقوى معه فلا كرامة له، بل حظه التخلف والضياع لشؤم المعاصي ومخالفة خالقة، ولا يحق له ان يدعي لنفسه فضلاً وتقدماً ورقياً، بل ليس أهلاً لتصنيف الآخرين مطلقاً، وان المضحك ان يضع نفسه ومن شاكله في رتبة العالم المتقدم، ويجعل أقواماً يفوقونه فضلاً ورقياً تحت مسمى العالم الثالث النامي، وكيف له ان يصف ويسمي غيره بالشعوب المتخلفة بزعمه؟
عالم السعداء وعالم الأشقياء
والحقيقة ان العالم منقسم الى: عالم السعداء وعالم الأشقياء.
أين السعادة ومن يملكها؟ الذي يملك السعادة أهل الحق والاسلام والايمان، وهذا هو عالم السعداء حقاً.
وأين الشقاء والتعاسة ولمن تكون؟ ان التعاسة والشقاء يكون ملازم للذي على الباطل والكفر والشرك، قال تعالى:﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ الا الضَّلاَلُ﴾[يونس: 32]، ومن كان على الكفر والشرك فلن يجد الا الشقاء والتعاسة، وهذا هو عالم الأشقياء حقاً.
الأشقياء خدم في الدنيا للسعداء
أيها التقدميون! ألا تعلمون ان الله جعلكم خدم في الدنيا، ولذا جعلكم مهرة في تأمين الحاجيات، ومعرفة الصناعات، وجعلها شغلكم الشاغل، بحرصكم وبدعائكم، قال تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 200-201]، لقد سخر الله أناساً، عمالاً للدنيا يوفرون جميع حاجيات الدنيا، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، واستعمل الله أناساً، لتعمير الآخرة، واستغلال الأوقات للطاعات، وسخر لمن يعمرون أوقاتهم ارضاء لوجه الله، وشغلوا أنفسهم بعبادته آناء الليل وأطراف النهار، يعملون لنيل الجنان، وأما التقدميون فيعملون ليل نهار لتأمين حاجيات أولئك المتخلفين بزعمهم.
رسالة الى كل مدعٍ للتقدم والرقي والتحضر
ان الدار الآخرة والعمل لَها، مقياس مُغيب عن تفاضل الأمم والشعوب والأفراد في الدنيا، فلماذا؟ أهو الجهل من بعض الناس أم العمد، قال تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الانْسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَانَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَانَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات 41-35]، ان الجنة والنار هما الفيصل فيمن هو الأرقى والْمُتَخَلّف في الدنيا والآخرة، ومن سعى لدخول الجنة فهو المتقدم الفاضل، ودخول الجنة دليل تقدمه وفضله وعلوه على غيره، ومن لا يسعى لدخول الجنة، ولا يبالي مآله الى جنة أو الى نار، فهي علامة فارقة على جهله وتخلفه، فأي تقدم يدّعي ومآله الى جهنم وبئس المصير؟! وفي النهاية كفر زائد دولار يساوي تخلف اسلام زائد فقر أو غنى يساوي تقدماً فقد ورد في الصحيحين ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما لفقر أخشى عليكم» والحمد لله رب العالمين.
د.عبدالعزيز بن ندى العتيبي
www.ahlalthar.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق