السبت، 2 أغسطس 2014

تريد عيشا؟! (2) حكومات العسكر بين التأميم والخصخصة


تريد عيشا؟! (2)
حكومات العسكر بين التأميم والخصخصة
د . محمد محسوب


حكومات العسكر بين التأميم والخصخصة
التأميم حق لكل دولة في مواجهة مشروعات تمثل خطرا على سيادتها أو سياستها أو استقلالها الاقتصادي أو تمثل احتكارا لنشاط معين أو غيره من الأسباب الكبرى التي دفعت احيانا دولة رأسمالية كبرى كانجلترا إلى تأميم بعض المشروعات التي تمثل أهمية للشعب الانجليزي وكانت على شفا الإفلاس فتدخلت لانقاذها بتأميمها أو تضخمت لدرجة هددت باحتكار نشاط اقتصادي كامل فتدخلت بتقسيمها أو تأميمها كليا أو جزئيا..
يحدث قريبا من ذلك حتى في الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر رأسمالية سواء فعلته الحكومة أو كان بتدخلا قضائيا.. لكنه شديد الندرة لأن مثل هذه المخاطر نادرة أيضا ولأن التأميم بطبعه يضرب التناغم الاقتصادي ويدفع الحكومة للعمل بالسوق كبقال أو تاجر فتنسى مهمتها كموجه وحارس..
وأيضا تمثل الخصخصة أداة تتبناها بعض الحكومات حتى الاشتراكية منها لإقامة مشروعات استراتيجية وخطرة يتجنبها رأس المال الخاص الذي يبتعد عن المخاطر بطبعه ، ثم ترى تلك الحكومات أن تتخلص من ملكية المشروع بعد أن وقف على قدميه وأصبح مغريا للجمهور ليسهم في ملكيته..
لكن لدينا في المحروسة قصة أخرى..
العسكر لدينا لم يؤمموا مشروعا أو مشروعين أو مائة خلال حمأة التأميمات في 1961 حتى 1963 وإنما أمموا النشاط الاقتصادي كاملا.. فصدرت قوانين من سطر واحد ملحق بها المشروعات المراد تأميمها فإذا هي بالآلاف.. من مصانع الحديد والمعدات وشركات نقل الأفراد والبضائع حتى مصانع السكر والأطعمة إلى الفنادق والموتيلات الصغيرة حتى مصانع الحلويات والشاي إلى المنازل والمقاهي ومحالات الجيلاتي والأفران..
فجأة انتقلت مصر من 1959 إلى 1963 من منظومة اقتصادية متراكمة متناغمة ومتماسكة إلى نشاط اقتصادي مملوكا كاملا للدولة وإن قالت القوانين أنها كانت مملوكة للشعب.. لكن الشعب لم يرها حتى الآن..!!
البعض يدافع عن حملة التخريب الاقتصادي تلك بعناوين وهمية وحجج يصيغها في عبارات عامة لا معنى لها كالتي استعملها العسكر عند التأميم مثل تحقيق ملكية الشعب لأدوات الإنتاج أو توزيع عادل للثروة وإنهاء الطبقية أو غير ذلك منقولا من معجم المصطلحات الاشتراكية اللينينة.. دون حتى تطبيق مدرك لها..!!
لكني أفضل أن أصطحب القارئ في رحلة قصيرة عبر عملية تأميم واحدة من تلك التي حصلت سنة 1961.. تأميم شركة كوكا كولا المصرية..
الشركة مصرية مملوكة لعائلة مصرية اصيلة في الحوامدية.. ورأس العائلة رجل مصري أصيل من الطبقة المتوسطة وليس باشا أو بيه ولا من أصل تركي أو غربي.. اشترى الشركة سنة 1961 من مالكيها الأمريكان (عائلة باتي) ودفع 50% من الثمن على أن يدفع الباقي خلال سنة.. بعد سبعة أشهر أممت حكومة العسكر الشركة ضمن مئات المشروعات التي تأممت... ثمّ فجأة أبرمت نفس الحكومة اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية لتعويض رعايها ممن تضرروا من التأميم وضمنهم جرى تعويض عائلة باتي الكريمة عن كامل المشروع وليس نصفه باعتبار أن العائلة قبضت النصف من العائلة المصرية..
وتقرر أيضا تعويضا تافها للعائلة المصرية الحوامدية غير إن لجنة تقدير التعويض رأت أنها لا تستحق التعويض لأنه دُفع تعويضا للأمريكان.. بمعنى أن الأمريكان تلقوا نصف ثمن الشركة من المشترين المصريين أولا.. ثم كامل قمية الشركة تعويضا من الحكومة المصرية السخية التي ترفع راية الاستقلال وعدم التبعية.. ثم بالتالي لم يجر تعويض المصريين عن الشركة أو رد نصف الثمن الذي دفعوه.. بل جرى مصادرة أموال أخرى لديهم تسديدا لدينهم في تعويض عائلة باتي الأمريكية المحصنة بالاتفاقية التي أبرمها العسكر..
كل ذلك ليس مهما.. فبعد 20 سنة رأت حكومة أخرى ضمن حكومات يعينها العسكر ويقيلها أن تقوم بخصخصة الشركات والمشروعات التي جرى تأميمها من مالكيها المصريين..
وفي حالتنا جرى خصخصة شركة كوكاكولا مصر وبيعها لمساهمين أهمهم شركة أمريكية كبرى..!!! يعني عادت الشركة مرة أخرى لملكية أهلها !!!! ولم ير الشعب المصري حتى الآن كيف جرى تأميم هذه الشركة أو آلافا غيرها.. وكيف جرى إعادة خصخصتها وآلافا مثلها.. كما لم يرو نتيجة للإيرادات التي حققتها تلك الحكومة (الغير مراقبة لأنها حكومات يضمن العسكر أنها شريفة وطاهرة اليد !!!) من تأميم الشركات أولا ثم إعادة خصخصتها ثانيا.. وإنما رأت كروشا انتفشت حتى الثمالة وشعبا تقشف حتى الجوع..
ثم أنشأ العسكر لنا نخبة ذكية انقسمت.. بعضهم ليبراليون يقولون: نعم الخصخصة هي مدخل لتوسيع قاعدة الملكية وفتح الباب أمام بناء اقتصاد حر.. لكننا نرى أنه كلما تحرر اقتصادنا كلما جرى تقييد الشعب وتجويعه.. وتجربة الخصخصة منذ 1989 حتى اليوم ليست سوى قصة تخريب وفساد تحتاج روايتها ضمن حكاوات ألف ليلة وليلة..
بينما فريق آخر من نخبتهم يقول" لا بل كان التأميم لترويق الفقراء ورفع شأنهم وتحقيق العدالة الاجتماعية.. لكن الفقراء استمروا فقراء بل ازدادوا فقرا.. بينما العدالة الاجتماعية لاتزال الغائب الأكبر في دولتنا المحروسة.. بينما تحققت طبقية غير مسبوقة في تاريخ مصر من تركيز للثراء بيد 5% من الشعب المكلوم إلى توريث للوظائف (قضاء وجيش وشرطة وأجهزة مهمة...) بينما وُضع الفقراء في دائرة مغلقة من الفقر وعدم القدرة على تحسين أوضاعهم الاقتصادية سوى بالعمل بالخدمة ضمن دول الكفالة في الخليج... فتحول الشعب المصري بين التأميم والخصخصة إلى التشتت في أنحاء الأرض بحثا عن لقمة عيش حتى ولو ركب سفينة متهالكة أملا في أن تقله إلى إيطاليا أو فرنسا ليعمل في جمع العنب بعشرين يورو يوميا أو يعمل في أسواق باريس أو أعمال النقاشة التي لا يقبلها سوى رعايا الدول المحكوم عليهم بالمعاناة مقابل 50 يورو في اليوم.. هذا إن وجد عملا.. وربما اشتغل يوما وفقد العمل شهرا.. أو لا قدر الله غرق بالبحر أثناء هجرته بحثا عن رزق.
القضية إذا ليس في أن تدفع رجال الأعمال إلى التبرع ثم تهددهم بالمصادرة وربما إعادة سيرة التأميم مرة أخرى.. لأن هذا كله لا يهم شعبنا الذي رأي نفس السيناريو سابقا وأدرك أنه نزاع بين سلطة تريد أن تجمع إلى سلطتها التحكم في الثروة وبين رجال أعمال هي أنتجتهم وكبرتهم ووسعت عليهم سابقا من خيرات الشعب الذي لا يرى ولا يعرف خيراته إلا وهي بيد الغير..
والقضية ليست اقتصادا حرا أو موجها أو خصخصة وتوسيع قاعد الملكية التي توسعت دون أن يجد المصري فيها مكانا له ليكون مالكا لخيراته..
إنما القضية هي الحرية التي تجعل الشعب يختار حكامه (حلوين أو وحشين) ثم يبدلهم إن بدا له ذلك في الانتخابات.. 

فيُفرض على الحكام والحكومات أن تكون أعمالهم مُراقبة من نواب مختارين بحرية.. ويُفرض على الهيئات والمؤسسات أن تنشر إيراداتها ومصروفاتها بشفافية فيراها الشعب.. ويجلس خلف مكاتب الصحافة والإعلام أوفياء للشعب ومخلصين لضمائرهم يتتبعون الفساد سواء كان فساد سلطة أو فساد أشخاص.. وتنشأ منظومة واسعة من المؤسسات الحكومية والمدنية التي تضمن شفافية الإيرادات والمصوفات وتكافح الفساد الإداري والمالي...
وهذا لا ينشأ إلى في حرية..
ربما تعرف الآن لما تمثل الحرية أهم عدو للعسكر..
ولما هي أول طريق لتحقيق عدالة اجتماعية وسيطرة الشعب على مقدراته..
لا تدعوهم يلعبون مرة أخرى لعبة التبرع ثم التأميم ؛ ومن ثم العودة للعبة توسيع قاعدة الملكية والخصخصة.. لأن كل ذلك ما هو إلى تدوير لأموال الشعب وأصول الدولة بيد العسكر لتدر عليهم أموالا يتحكمون بها في الشعب..
وإلى الحلقة القادمة..
‫#‏استمارة_جوَّعْتونا‬






تريد عيشا؟! (1) علاقات غير مشروعة : العيش والذل- الفساد والحرية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق