الاثنين، 12 يناير 2015

إدانة لا تلزمنا بالاعتذار لأي أحد


إدانة لا تلزمنا بالاعتذار لأي أحد

فهمي هويدي
كاتب وصحفي مصري

إدانة الجريمة مفروغ منها، كما أننا لا نتردد في مشاطرة الفرنسيين شعورهم بالحزن لمقتل فريق مجلتهم الساخرة، إلا أننا لسنا مطالبين بالاعتذار عما وقع، لا لهم ولا لغيرهم.
(1)
حين قــُتل الاثنا عشر صحفيا ورساما فرنسيا في السابع من يناير/كانون الثاني الحالي؛ فإن الخبر احتل العنوان الرئيسي لأغلب الصحف العربية، وإذ صادف وقوعه في نفس اليوم مقتل أكثر من 40 يمنيا وجرح أكثر من سبعين أمام كلية الشرطة في صنعاء، فإن الخبر الأخير وُضع في ذيل الصحف العربية اللندنية، وأخذ مكانه في الصفحات الداخلية للصحف المصرية.
وشاءت المقادير أن يعلن في اليوم ذاته تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان حصيلة حملة القتل الدائرة بسوريا في شهر ديسمبر/كانون الأول، الذي أشار إلى أن قتلى الشهر وصل عددهم إلى 4358 بمعدل 150 شخصا يوميا، إلا أن خلاصة التقرير تاهت وسط زحام الأخبار العربية والعالمية الأخرى. فذكرته بعض الصحف المصرية وتجاهلته صحف أخرى.
وما لاحظناه في أداء الصحف المنشورة لم يختلف كثيرا عما شاهدناه على شاشة التليفزيون. إذ ظل خبر مقتل الفرنسيين الاثني عشر هو الأول، أما أخبار قتل العشرات في اليمن وسوريا فإنها احتلت رتبة متأخرة، وتراجعت إلى المركز الثالث أو الرابع. كأنما صار قتل العرب -حتى في وعينا- خبرا عاديا، في حين غدا استهداف الأوروبيين هو الجريمة والصدمة.
لم تتجلّ صدمة وسائل الإعلام العربية فقط في التركيز على حادث قتل الفرنسيين وعدم الاكتراث بمسلسل القتل اليومي للأعداد الكبيرة نسبيا من العرب، ولكنها تجلت أيضا في حملة التضامن مع مجلة "شارلي إيبدو"، حتى إن اللافتة التي رفعها البعض في باريس وكتبت عليها عبارة "أنا شارلي"، كانت ذاتها عنوانا لإحدى الصحف اليومية المصرية.
وبلغ التماهي مع المشاعر المعادية للإسلام والمسلمين -التي تصاعدت في فرنسا- حدًّا دفع أحد رسامي الكاريكاتير المصريين لأن يقدم رسما في اليوم الأول مصحوبا بتعليق يقول: "مذبحة إسلامية للصحفيين والرسامين في باريس"، وفي اليوم التالي قدم رسما آخر مع تعليق يقول: "إسلاميون يغتالون حرية الرأي في فرنسا".
(2)
في حين كان السمت الأبرز لأداء الإعلام العربي في أغلب منابره معبرا عن الشعور بالدونية من ناحية وبالتسطيح والخفة من ناحية ثانية؛ لوحظ أن الأصداء أصبحت خلال الأيام التالية أكثر توازنا ونضجا في أوساط المثقفين والإعلاميين الغربيين، إذ ظلت إدانة الجريمة وحق كل صاحب رأي مخالف في الاحترام فضلا عن الحياة أمرا متفقا عليه، ولكن مواقف المجلة التي اتسمت بالغلو وازدواج المعايير لم تحظ بنفس القدر من الاتفاق.
كما ظهرت أصوات نزيهة رفضت الغمز في الإسلام كما رفضت إلصاق التهمة بالمسلمين وتعميمها عليهم. وكانت الرسالة التي بلورتها تلك الآراء تقول بصريح العبارة: نحن ضد القتل ومع حرية الرأي، لكننا أيضا ضد الموقف الذي تبنته مجلة "شارلي إيبدو" إزاء الإسلام والمسلمين.
ولا ينفي ذلك أن مؤشر العداء للاثنين قد تعاظم بشكل سريع في أعقاب وقوع الحادث في فرنسا التي كانت أجواؤها مهيأة لذلك لأسباب عدة، أحدثها ظهور كتاب "الاستسلام" الذي خوّف الفرنسيين من التداعيات المترتبة على فوز مفترض لأحد المسلمين الفرنسيين بالرئاسة في انتخابات عام 2022.
وهو ما استثمرته بسرعة الجماعات اليمينية والفاشية التي تثبت حضورا متزايدا في أنحاء القارة. وهي الأحزاب التي علا صوتها بوجه أخص في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وباتت ترفع شعار "بيجيدا" الذي يرمز إلى عبارة "وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب".
وبطبيعة الحال، لم يخل الأمر من محاولات الصيد في الماء العكر. وهو ما لجأ إليه بسذاجة تدعو إلى الرثاء بعض الإعلاميين المصريين حين عبر بعضهم عن الشماتة في الحكومة الفرنسية لأنها لم تسر على نهج الحكومة المصرية في مواجهة الإرهاب، ومنهم من استخدم عبارة "يستاهلوا".
"في حين كان السمت الأبرز لأداء الإعلام العربي في أغلب منابره معبرا عن الشعور بالدونية من ناحية وبالتسطيح والخفة من ناحية ثانية؛ لوحظ أن الأصداء أصبحت خلال الأيام التالية أكثر توازنا ونضجا في أوساط المثقفين والإعلاميين الغربيين"
إلا أن أخبث تلك المحاولات هي التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي شارك في المسيرة الباريسية لمناهضة الإرهاب، رغم أن يديه لا تزالان ملطختين بدماء طرية لألفي فلسطيني قتلهم جيشه بقطاع غزة في صيف العام الماضي (2014). إذ اخترق الصفوف وتصدر المسيرة وكأنه قائدها ومحفزها، في مشهد مبتذل بدا مسكونا بالزيف والنفاق.
بوادر الإفاقة ظهرت في تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي التي تحفظت على شعار "أنا شارلي"، وقد رُفع في باريس وجرى تعميمه على مختلف وسائل الإعلام بعد ساعات من وقوع الحادث.
وإذ انتشر الشعار بسرعة البرق في أجواء الصدمة؛ فإن بعض الأصوات المحدودة خرجت معلنة التضامن مع الضحايا وليس مع المجلة، وكان في مقدمة هؤلاء ناشط وكاتب لبناني يرأس الرابطة العربية الأوروبية في بلجيكا هو دياب أبو جهجة، الذي كتب "أنا أحمد" وليس شارلي. وكان يشير بذلك إلى أحمد مرابط الشرطي الفرنسي من أصل جزائري الذي قتل في الحادث وهو يدافع عن مجلة دأبت على إهانة ثقافته ودينه.
وقد جسد بذلك مقولة فولتير الشهيرة "قد أختلف معك في الرأي، لكني مستعد لأن أموت دفاعا عن رأيك"، وهو ما يجعل رمزيته أهم وأكثر موضوعية ونزاهة من رمزية التضامن مع المجلة ذاتها. وكأنما أطلق صاحبنا الشرارة فظهرت بعد ذلك مدوِّنة فرنسية اسمها كريستين جيلبرت معلنة تدشين حملة شعارها "لست شارلي ولكنني أحمد".
وقالت جيلبرت في تبرير ذلك أن أحمد هو الشرطي المسلم الذي قتل أثناء دفاعه عن حق المجلة في التعبير بحرية. وانتقدت تجاهل رمزية التضحية التي قام بها ذلك الجندي المسلم الشجاع، كما انتقدت استخدام الحادث لمعاداة الإسلام أو التنديد بالمسلمين والدعوة إلى طردهم، قائلة: دعونا نحكم على بعضنا البعض وفقا لأعمالنا الفردية وليس من خلال لون بشرتنا أو معتقداتنا.
هذه النقلة في الخطاب -التي عبرت عنها بعض الكتابات العربية الاستثنائية للأسف- أثارت الانتباه في وسائل الإعلام الغربية. فتحدثت عنها صحيفة "ذا أتلانتيك" الأميركية قائلة إن مقتل أحمد مرابط يوفر شرحا للهجوم، لأنه قتل دفاعا عن القوانين التي تسمح للآخرين بالسخرية من دينه. وهو ذات الموقف الذي عبرت عنه صحيفتا ديلي ميل والغارديان البريطانية.
(3)
في أجواء الإفاقة تعددت التعليقات والتحليلات، سواء منها ما أدان فكرة تعميم الاتهام على المسلمين، أو ما سلط الأضواء على مواقف مجلة "شارلي" بغلوها وتحيزاتها ضد الإسلام والمسلمين بوجه أخص، الأمر الذي أثار قضية المسؤولية في ممارسة حرية التعبير.
"في أجواء الإفاقة تعددت التعليقات والتحليلات، سواء منها ما أدان فكرة تعميم الاتهام على المسلمين، أو ما سلط الأضواء على مواقف مجلة "شارلي" بغلوها وتحيزاتها ضد الإسلام والمسلمين بوجه أخص، الأمر الذي أثار قضية المسؤولية في ممارسة حرية التعبير"
تعميم الاتهام على المسلمين شاركت فيه أصوات عدة، كان بينها روبرت ميردوخ وهو أحد أباطرة عالم الصحافة خصوصا في بريطانيا، إذ كتب يقول إنه ربما كان أغلب المسلمين سلميين، ولكنهم ما لم ينجحوا في القضاء على سرطان الجهاديين فإننا لا نستطيع أن نبرئهم أو نعفيهم من المسؤولية. إلا أن كثيرين سارعوا إلى رد مقولته وكان من أبرزهم الروائية البريطانية الشهيرة جي. كي رولينغ (صاحبة قصص "هاري بوتر").
إذ كتبت قائلة: لقد ولدت مسيحية، وإذا أراد ميردوخ أن يحملني المسؤولية عن فظائع محاكم التفتيش، فإن الخروج من الملة يصبح خيارا أفضل من الاستمرار في العيش بتلك الوصمة. بل إن أحد قيادات الرابطة الكاثوليكية وهو بيل دونوهو أبدى تفهما لملابسات الجريمة قال فيه إن القتل مرفوض يقينا لكن من حق المسلمين أن يغضبوا من موقف المجلة، ولا مفر من الاعتراف بأن أداء محرريها ورساميها الضحايا كان له إسهامه في تحريض الجناة على الإقدام على فعلتهم.
مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" البريطانية المحترمة نشرت في 9 يناير/كانون الثاني الحالي مقالة كتبها آدم شاتز كان عنوانها "الوضوح الأخلاقي"، وانتقد فيها المواقف الغربية المتسرعة التي ترتبت على الحدث، كما تطرق إلى الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها المسلمون المهاجرون إلى فرنسا.
وقد ذهب شاتز إلى أن الذين روجوا لشعار "أنا شارلي" تبنوا موقفا دفاعيا أرادوا به أن يغسلوا ضمائر الغربيين من آثار الجرائم العديدة التي ارتكبها الغرب بحق المسلمين. وأضاف أن الأخوين كواشي اللذين قاما بالهجوم على المجلة هما نتاج طبيعي للمعاملة التي يلقاها المسلمون المهاجرون في المجتمعات الغربية التي فشلت في استيعابهم، لا بل حرصت على أن تذكرهم دائما بأنهم مجرد مهاجرين وافدين.
ولذلك فإن شعورهم بالاغتراب يلاحقهم طول الوقت. وبسبب ذلك فإن التحاقهم بالإسلام الراديكالي يوفر لهم الشعور بالقوة وبالقدرة على التأثير في محيطهم. ولم يفت الكاتب أن ينبه إلى أن الدعوة للنظر إلى الظروف التي أفرزتهم لا ينبغي أن تعفيهم من المسؤولية عما فعلوه، ولكنها من مستلزمات الوضوح الأخلاقي المطلوب لفهم خلفيات ودوافع سلوكهم.
مجلة دير شبيغل الألمانية نشرت تقريرا ذكّرتنا به السيدة رولينغ أورد خلاصة تقرير مثير أعده مركز مواجهة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية في نيويورك، وذكر أن معاناة المسلمين من الإرهاب أكثر بكثير من معاناة غير المسلمين، ودلل على ذلك بأنه خلال الفترة بين عاميْ 2004 و2008 كان ضحايا المسلمين الذين قضوا بسبب الإرهاب ضعفَ الضحايا من غير المسلمين ثماني مرات.
وخلال تلك الفترة شن تنظيم القاعدة 313 هجوما مما أدى إلى مقتل 3010 أشخاص، ومن هؤلاء القتلى كان عدد غير المسلمين 371 شخصا. وأضاف التقرير أنه بين عاميْ 2006 و2008 كان القتلى من غير الغربيين 38 ضعفَ القتلى الغربيين، مما يعني أنه أمام كل مواطن غربي قتل 38 مواطنا آخر من المسلمين.
وفي مقالة كتبتها روائية مغربية مقيمة في الولايات المتحدة هي ليلى لالامي، أفاضت الكاتبة في شرح البيئة التي خرج منها الشابان اللذان ارتكبا الجريمة، وبينت أن تدهور أوضاع المهاجرين ينتج سلوكيات منحرفة، وقالت إن البطالة بين المهاجرين ضعف نظيرتها بين المواطنين الفرنسيين العاديين، وإن حظوظهم في التعليم أقل من حظوظ أقرانهم الفرنسيين.
ولفتت الانتباه إلى أن مجلة "شارلي إيبدو" كانت تنتقد الجميع حقا لكن نقدها للمسلمين كان أشد وأكثر غلوا. ثم إن رئاسة التحرير فصلت أحد محرريها البارزين (موريس سينيه) واتهمته بمعاداة السامية لمجرد أنه غمز في ابن الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي، وتنبأ له بمستقبل مالي مشرق بعد زواجه من يهودية. إضافة إلى أن أي نقد تمارسه المجلة أو غيرها من المجلات الأخرى لم يكن ليجرؤ على المساس بالهولوكوست، الذي يعتبر اليهود أن وثائقه وأرقامه "مقدسات" لا يجوز المساس بها.
(4)
"لا مفر من الاعتراف بأن العالم العربي الإسلامي -بقادته وأغلب نخبه ومنابره الإعلامية- واجه الحدث بمسلك اتسم بدونية مستهجنة، حيث عبر هؤلاء عن أساهم لمقتل الاثني عشر فرنسيا، ولم يظهروا ذلك الشعور بالأسى لمقتل آلاف العرب والمسلمين"
أوقفوا مطالبة المسلمين بإدانة الإرهاب، فذلك نوع من الابتزاز بالتعصب وبكراهية المسلمين (الإسلاموفوبيا). هذا النداء لم يطلقه أحد في عواصم العرب أو المسلمين، ولكنه عنوان مقالة كتبها صحفي أميركي اسمه ماكس فيشر ونشرها أحد المواقع البارزة في الولايات المتحدة، وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي طوال اليومين الماضيين.
وإذ أعبر عن تضامني مع تلك الدعوة مضيفا أننا لسنا مدينين بالاعتذار لأي أحد عما جرى في باريس، وفي الوقت الذي نرفضه ونستنكره، فإننا لسنا مضطرين لأن ندين أي اعتداء أو جريمة يرتكبها أي مسلم، لأن كل واحد ينبغي أن يحاسَب على ما اقترفته يداه، وليس مطلوبا من المسلمين أجمعين أن يدفعوا ثمن كل وزر يرتكبه مسلم.
وفي هذا الصدد، لا مفر من الاعتراف بأن العالم العربي الإسلامي -بقادته وأغلب نخبه ومنابره الإعلامية- واجه الحدث بمسلك اتسم بدونية مستهجَنة، حيث عبر هؤلاء عن أساهم لمقتل الاثني عشر فرنسيا، ولم يظهروا ذلك الشعور بالأسى لمقتل آلاف العرب والمسلمين سواء على أيدى الجماعات الإرهابية، أو بالصواريخ الإسرائيلية والأميركية، أو ببراميل البارود والمتفجرات التي يلقيها نظام الأسد يوميا على مواطنيه.
وكما أننا لا نحمّل شعوب الغرب المسؤولية عن الجرائم التاريخية التي يرتكبها قادتهم بحق شعوبنا، فمن حقنا أن نأبى أي اعتذار أو ندم، تاركين لحكوماتهم أن تحاسب كل من ارتكب جرما على فعلته، ليس فقط لأن ذلك شأنهم الذي لا دخل لنا فيه، ولكن أيضا لأن فينا ما يكفينا. إن السؤال الذي يستحق مناقشة جادة هو: لماذا اختفت الموضوعية وسادت الخفة مع الانفعال وتصفية الحسابات تعليقاتنا على الموضوع؟

المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق