السبت، 3 يناير 2015

سياسة شرق السويس البريطانية الجديدة

سياسة شرق السويس البريطانية الجديدة

 عبد الله الأشعل
في الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول 2014 أعلنت بريطانيا أنها أقامت قاعدة بحرية عسكرية في البحرين، حتى تبدأ مرحلة جديدة من العودة النشيطة إلى الاهتمام بقضايا المنطقة، وقد أطلقت الصحف البريطانية على هذه السياسة الجديدة سياسة شرق السويس الجديدة.

فما هي سياسة شرق السويس القديمة باعتبار أنها جزء أساسي من التاريخ الحديث للمنطقة العربية، وحدود المقارنة بين سياسة شرق السويس في الحالتين؟
ومدى جدواها في ظروف تحول النظام الدولي، وظهور قوى إقليمية جديدة؟ بعبارة أخرى كيف نقرأ البيئة السياسية الجديدة في المنطقة من المنظور الجيوسياسي؟

سياسة شرق السويس هي السياسة التي اتبعتها بريطانيا عندما كانت قناة السويس هي الحد الفاصل بين الممتلكات البريطانية في الهند وبين أوروبا، حيث كان حفر قناة السويس قد أحدث نقلة هائلة في الإستراتيجية الدولية من النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية والتجارية.

ويكفي أن نشير إلى أن بريطانيا عندما ظفرت من محمد علي باشا بامتياز البوسطة الخديوية عبر بورسعيد قبل حفر القناة، فقد منحت الملكة البريطانية لمحمد علي هدايا قيمة من المجوهرات ورسالة نادرة تقديراً لامتنانها لهذه الخدمة الكبرى، ولذلك عندما افتتحت قناة السويس بادرت بريطانيا إلى شراء الجزء الأكبر من أسهمها، بل إن بريطانيا أقنعت الخديوي إسماعيل بأن يبيع حصة مصر من أسهم القناة لبريطانيا، مما أوغر صدر فرنسا فلجأت إلى التحكيم، وكان المحكم الوحيد الذي اختاره الخديوي إسماعيل هو إمبراطور فرنسا صديقه نابليون الثالث، الذي قضى بتعويض فرنسا بملايين الفرنكات الفرنسية، والتي أسهمت في تفاقم الديون المصرية التي استخدمت ذريعة لاحتلال مصر، ثم إن بريطانيا احتلت مصر لأسباب كثيرة، من أهمها السيطرة على قناة السويس، حتى تضمن انسياب مصالحها في شرق القناة وفي غربها.
"سياسة شرق السويس هي السياسة التي اتبعتها بريطانيا عندما كانت قناة السويس هي الحد الفاصل بين الممتلكات البريطانية في الهند وبين أوروبا، حيث كان حفر قناة السويس قد أحدث نقلة هائلة في الإستراتيجية الدولية من النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية والتجارية"
وقد أدت الحرب العالمية الثانية إلى انكشاف الأسد البريطاني والإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فأصبحت بريطانيا العظمى عاجزة عن الإنفاق على شبكة المصالح البريطانية والترتيبات الدفاعية شرق قناة السويس، وظلت تكابر لأكثر من عقدين، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت قد بدأت سياسة رسمية للحلول محل الإمبراطوريات الأوروبية الفانية.

وكانت الحلقة الأخيرة من تصفية الممتلكات البريطانية خارج الجزر البريطانية هي الانسحاب من منطقة الخليج، حيث كانت تهيمن هيمنة كاملة على مقدرات هذه المشيخات من مضيق هرمز جنوباً إلى العراق ثم الأردن وفلسطين ومصر وليبيا والممتلكات الأفريقية، وذلك ابتداء من عام 1819.

وفي 16 يناير/كانون الثاني 1968 أعلنت حكومة العمال البريطانية سياسة جديدة في شرق السويس، وهي الانسحاب الكامل منها خلال ثلاث سنوات، وأشاعت الكتابات الغربية في ذلك الوقت أن الفراغ الذي تتركه بريطانيا لابد من شغله عن طريق الولايات المتحدة، وبالفعل أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي في ذلك الوقت هنري كيسنجر في صيف 1968 ما تسمى بالخطة الكبرى (grand design)، وبموجب هذه الخطة تشرف واشنطن على الخليج لكي تحمي المصالح البترولية والإستراتيجية وأمن دوله العربية الجديدة، ضد ما كان يسمى حين ذاك التسلل الشيوعي إلى الخليج.

وللخطة ثلاثة أضلع، ضلع تتولاه السعودية يمثل الجانب العربي بعد هزيمة مصر الفادحة عام 1967، حيث تحدثت السعودية باسم العالم العربي منذ ذلك الوقت وحتى الآن، ليس فقط في الخليج وإنما في كل القضايا. 
والضلع الثاني تمثله إيران الشاه الذي عُين شرطياً على الخليج. والضلع الثالث هو الولايات المتحدة، وهذا الترتيب الذي أغفل العراق أدى إلى الصدامات المتتالية بين العراق وإيران ثم قامت الثورة الإسلامية في إيران، وغيرت المبادئ الجيوسياسية للمنطقة وأنهت الخطة الكبرى التي وضعها كيسنجر.

والمعلوم أن سياسة شرق السويس التي انتهت بالانسحاب البريطاني من الخليج في نهاية عام 1970، حيث اتفقت بريطانيا وإيران سراً على أن تسلم بريطانيا لإيران جزيرتي طنب الصغرى والكبرى مقابل تخلي إيران عن دعواها في البحرين، وهو الأمر الذي تم في استفتاء نظمته الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 1970 ، حيث اختار شعب البحرين الاستقلال.

أما على المستوى الخليجي فقد كان رد الفعل مختلفاً حيث جددت إيران دعواها على البحرين التي استمرت أكثر من قرن ونصف القرن. وكانت بريطانيا هي التي تصدت لإيران في هذه القضية على النحو الذي سجلت كتب التاريخ تفاصيله، بل إن بريطانيا اقتسمت إيران مع الإمبراطورية الروسية منذ عام 1907، بعد هزيمة روسيا أمام اليابان، وهذه الهزيمة هي التي أدت في النهاية إلى تعملق اليابان، الذي فوجئت به واشنطن في مؤتمر القوى البحرية في واشنطن عام 1922، وما تبع ذلك من الصدام المروع بين اليابان والولايات المتحدة في بيرل هاربر 1941.

أما الجانب العربي، فقد حاول أن يشكل تكتلاً من المشيخات التي احتلتها بريطانيا وانسحبت منها، وهي قطر والبحرين والإمارات المتصالحة على ساحل عمان، أي الإمارات المكونة الآن لدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث كانت الكويت قد استقلت عن بريطانيا مبكراً منذ عام 1961، وكانت تلك بداية سياسة شرق السويس الجديدة في ذلك الوقت.
"المهمة الجديدة تأتي في إطار ترتيب الأوضاع في الخليج عندما تصبح إيران في علاقة طبيعية مع الغرب، أما إذا فشل الاتفاق مع إيران فإن وجود بريطانيا لا يعني سوى تسليح الخليج، حتى يصبح خطاً متقدماً في حالة الصدام العسكري مع إيران"
بدأت محاولات التكتل الخليجي بإنشاء اتحاد بين دبي وأبو ظبي يوم 18 فبراير/شباط 1968، أي بعد إعلان بريطانيا الانسحاب من المنطقة بشهر واحد، ثم بدأت الإمارات التسع مشروع اتحاد الإمارات العربية الذي انهار في اجتماع المجلس الأعلى في أكتوبر/تشرين الأول 1970.

وكان الموضوع هو أطروحتي لدرجة الماجستير، وكنت أتمنى أن ينجح، ولكن فشله قد أسرع الخطى لإنهاء الرسالة، وتقديمها للمناقشة والتي تصدر قريبا في كتاب بعنوان الإمارات العربية التسع من التبعية إلى الاستقلال، حيث استقلت عمان هي الأخرى من بريطانيا عام 1970 وخلافة السلطان قابوس بن سعيد والده في حكم البلاد.

وإذا كانت سياسة شرق السويس الأولى تعني التخفف من التزامات بريطانيا في كل المنطقة الواقعة شرق قناة السويس وخاصة في الخليج، رغم أن بريطانيا العظمى كانت تهيمن هيمنة مطلقة على مقدرات الخليج وعلى بتروله منذ أبرمت مع هذه المشيخات بما فيها الكويت، ما تسمى تاريخياً بالاتفاقيات المانعة منذ عام 1892، التي جعلت التصرف في أمور الخليج حكراً على بريطانيا العظمى، 
فإن سياسة شرق السويس الجديدة تتسم بثلاث خصائص.

الخصيصة الأولى أنها عودة لتحمل مسؤوليات الدفاع عن دول الخليج ضد إيران الإسلامية وليس ضد الشيوعية، كما كان الأمر في الخمسينيات والستينيات.

الخصيصة الثانية، أن سياسة شرق السويس القديمة كانت تعني التخفف من الالتزامات الدفاعية والمالية والسياسية، أما شرق السويس الجديدة فتعني العكس، مع ملاحظة أنه كان يمكن لبريطانيا أن تنفق على هذه الالتزامات من دخول المستعمرات الأخرى، حيث لم يكن في الخليج سوى البترول المنخفض الثمن.

الخصيصة الثالثة، هي أن رحيل بريطانيا كان إيذانا بشيخوختها وحلول القوة الفتية الأميركية الجديدة محلها، أما الآن فإن بريطانيا تحاول أن تعوض انسحاب الولايات المتحدة الجزئي من الشرق الأوسط بأكمله إلى آسيا والمحيط الهادي.

هذه المهمة الجديدة تأتي في إطار ترتيب الأوضاع في الخليج عندما تصبح إيران في علاقة طبيعية مع الغرب، أما إذا فشل الاتفاق مع إيران فإن وجود بريطانيا لا يعني سوى تسليح الخليج، حتى يصبح خطاً متقدماً في حالة الصدام العسكري مع إيران.
ومن شأن هذه السياسة الجديدة التي لم تتبلور تماماً إثارة شكوك إيران ومخاوفها، وارتفاع وتيرة العداء بينها وبين دول الخليج.
المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق