السبت، 3 يناير 2015

الاحتقان فى السعودية


الاحتقان فى السعودية 

 فهمي هويدي
يعاني المجتمع من حالة احتقان طاغية وأزمات نفسية طاحنة. إذ ظهرت في المشهد ظلمات فكرية وأحكام مسبقة لا تخلو من التنابذ والقذف، وظهرت في قواميس بعض المشاركين في الردود مصطلحات مليئة بالبذاءة، كما طغت على هذه الحوارات لغة الإقصاء والإلغاء والشخصنة.
 وبرزت ألفاظ العنف الرمزي. بل إن بعضها وصل لحد التهديد بالقتل، ناهيك عن التشكيك في المعتقد لأن صاحبه خرج عن السائد والمألوف ومخالفة الواقع. وخلت المناقشات من أبجديات الحوار، وغابت وسائل الإقناع بصحة أو خطأ الآراء المطروحة وإيضاح ذلك بالحجة والأدلة..
ودفع المشهد إلى البحث عن هزة بغية الخروج من ذلك المأزق وتجاوز الأزمات الفكرية لتبديد الظلمات. من خلال مشروع يضبط الحوار ويجرم الإساءات، كما يوفر للحوار النزاهة المرجوة.

الفقرة السابقة بكاملها لا تصف مشهدا في مصر أو العراق أو الجزائر أو أي بلد آخر مما اعتدنا ان نتابع فيه حدة الصراعات وشراستها؛ لكنها نص مقتبس من تقرير عن الحوار في المملكة العربية السعودية، نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها الصادر في 25/12. 
وإذا كانت الفقرة السابقة قد وردت في مستهل التقرير ولخصت أجواءه وفكرته، فإن بقية المتن حفلت بالتفاصيل التي ترسم معالم الصراع الفكري الذي تشهده المملكة، وفى ثناياها جرى الاستشهاد بما عبر عنه ذات مرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز حين قال في كلمة له: إنني أرى أنه لا يتناسب مع قواعد الشريعة السمحة ولا من متطلبات الوحدة الوطنية أن يقوم البعض بجهل أو بسوء نية بتقسيم المواطنين إلى تصنيفات ما أنزل بها من سلطان، فهذا علماني وهذا ليبرالي، وهذا منافق وهذا إسلامي متطرف إلى غير ذلك من التسميات.
يفهم القارئ من التقرير المنشور أن الجدل اشتد بين أصحاب الاتجاهات المختلفة مع قرب انتهاء العام الميلادي واحتفال العالم برأس السنة الميلادية، بين الذين يحرمون تلك الاحتفالات وغيرهم من يشاركون فيها ويقبلون عليها. 
وقد عبر كاتب التقرير عن أسفه إزاء الجدل المثار حول الموضوع، واستشهد في ذلك بما قبلت به السعودية قبل عدة عقود، حين كان بعض السعوديين «يقيمون الاحتفالات بهاتين المناسبتين بشكل علني في منازلهم. بل ان الصحف نشرت إعلانات على مطاعم وقاعات أفراح تحيي هذه المناسبة، في حين تضطر بعض الأسر السعودية اليوم إلى السفر خارج البلاد للاحتفال بالمناسبة في الدول العربية المجاورة أو في أخرى».
وللتأكيد على ذلك نشرت الصحيفة صورة إعلان جاء في جريدة عكاظ عام 1973 يعلن عن عشاء ومفاجآت في قاعة «الكوثر» بمناسبة رأس السنة الميلادية في مطعم بالطابق الثاني عشر لإحدى بنايات مدينة جدة.
تفاجئنا الصورة التي نقلها تقرير «الشرق الأوسط»، لأنها من المرات النادرة التي تنقلها إحدى الصحف السعودية إلى العالم الخارجي، رغم اننا ظللنا نسمع كثيرا عن التجاذبات الحاصلة بين المكونات الفكرية لذلك المجتمع الذي يتصوره كثيرون ساكنا ومتناغما ومحصنا ضد الأفكار والتيارات التي تعتمل في العالم الخارجي، أغلب الظن لأن التجاذب والتلاسن فيه لم يكن مسموعا خارج حدود المملكة، لكنه ظل يدور طول الوقت تحت السطح.
 إلا أن الوضع اختلف في أجواء الربيع العربي التي كسرت حاجز الخوف والصمت. ووجد الجميع في مواقع التواصل الاجتماعي متنفسهم وفرصتهم.
ذلك انها وفرت لكل راغب منبرا وصوتا يستطيع ان يطلقه في الفضاء العام ويعممه على الكافة. وإذ فاجأتنا الصورة التي طالعناها فإنها لا تصدمنا ولا تزعجنا. بالدرجة الأولى لأنها تعنى ان المجتمع السعودي ليس استثناء في العالم العربي، وان الصراع الفكري الحاصل في مختلف الأقطار العربية له نظيره في المملكة. وكل الذي حدث أن ما لم يكن مسموعا أو معلوما في السابق، صار الآن مسموعا ومرصودا.
وإذا كانت أدوات الصراع ولغته قد اتسمت بالخشونة والحدة، فذلك بدوره أمر طبيعي ولا غرابة فيه. لأن الشعوب تربى ولا تولد كاملة الأوصاف. وحين تغيب عنها ثقافة الحوار وقيمة التسامح وفقه الاختلاف والقبول بالآخر، فلا غرابة في أن يتحول كل حوار فيها إلى تشاتم وعراك.
ومما يثير الانتباه في هذا الصدد ان السعودية تبنت الدعوة إلى تشجيع الحوار بين الأديان والحضارات وأقامت لأجل ذلك (في عام 2012) مركزا عالميا في فيينا، العاصمة النمساوية، في حين إلى فكرة الحوار وتقاليده لم تستقر بعد في داخل المملكة ذاتها.
هذا الذي حدث في السعودية له نظيره في دول الخليج الأخرى، ولكن تفاعلاته تجرى بعيدا عن الأعين وصوته غير مسموع بسبب الضغوط القوية والإجراءات القمعية التي تتخذ ضد أصحاب الآراء المغايرة.
ورغم ان تلك الإجراءات تعد من قبل محاولة إيقاف عجلة التاريخ وحركته، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة ان المياه الراكدة في تلك الأقطار بدأت تتحرك. ومن المهم للغاية ومن الحكمة وبعد النظر أيضا، أن يستقبل ذلك الحراك بتفاعل إيجابي يقوم على الترشيد والاحتواء. لأن سياسة القمع لا تشيع الخوف والتوتر فحسب، وانما تؤدى إلى اختزان المرارة والغضب، الأمر الذي يوفر بيئة مواتية لإشاعة التمرد وإطلاق شرارة العنف.
ومن المفارقات أن بعض تلك الدول تتنافس الآن في الدعوة إلى محاربة الإرهاب، في حين أنها بسياساتها القمعية تزرع بذوره وترعاها حينا بعد حين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق