الأربعاء، 14 يناير 2015

أنا لست تشارلي. أنا أحمد ومحمد


أنا لست تشارلي. أنا أحمد ومحمد
أحمد بن راشد بن سعيّد

فظيع جهل ما يجري، وأفظع منه أن تدري.
 بيت للشاعر اليمني عبد الله البردوني يساعدنا في فهم التناول الإخباري السائد للهجوم على المجلة الفرنسية «الساخرة» تشارلي إيبدو.
ما حصل في باريس لم يكن «اعتداءً»، بل «اعتداءات» بحسب «جمع» قناة العربية التي مردت على وصف الحملات العدوانية الصهيونية على غزة بالهجمات والغارات.
تدنيس الأقصى مراراً وقتل الركّع السّجود فيه ليس إلا «اقتحامات» في الرؤية الكونية لقناة العربية وجريدة «الشرق الأوسط» اللتين تمثلان الخط اليميني المتصهين في العالم العربي. 
العدوان الفرنسي على مالي ليس إلا «حرباً على الإرهاب» بحسب هذا الخط الذي بلغ في الفجور ما لم تبلغه تشارلي إيبدو ولا غيرها من الصحافة المتطرفة التي تستبد بها «الإسلاموفوبيا».
أنا لست تشارلي إيبدو.أنا أحمد ومحمد. أنا من أرضه في فلسطين تُغتصب منذ قرن من الزمان، ويُشرّد في المنافي، ويُقتل بالرصاص والقنابل والصواريخ والجوع والحصار والإذلال على المعابر.
أنا من يُستباح في الشام منذ أربع سنوات، وتُدمّر مدني وقُراي، وتُحرق بساتيني، ويُباد أهلي في بيوتهم بالبراميل المتفجرة، ويموتون جوعاً وبرداً في مخيمات الشتات، وقهراً وعذاباً في معسكرات الاعتقال.
أنا من يُسلب حقي الانتخابي الديموقراطي، ويُزجّ بي في «مُحتشدات» في الصحراء، ويُضرب علي الحصار بسبب اختياري الحر، وأقُتل حرقاً وأنا أصلي الفجر لأنني اعترضت سلمياً على سلب صوتي.
 أنا لست تشارلي. أنا أحمد ومحمد.
الصحافة العربية والخليجية السائدة والمختطفة استجابت لهجوم تشارلي إيبدو بالصراخ ضد «الإرهاب» من دون إشارة إلى سياق أو تاريخ، بل حرصت على «إلجام» من يسبر غور القصة.
نظرة سريعة إلى بعض الكتابات تشهد بهذه الصفاقة والديماغوجية واحتقار العقول، وسأستشهد بعناوين اختارها موقع العربية نت الذي يحتضن عادة كل ما يكرّس صورة المسلم القبيح.
مقال لعمرو الشوبكي حمل العنوان: «إرهاب ونقطة» (يعني لا تفسر ولا تحلل، قل: إرهاب واسكت)؛
ومقال لديانا مقلد بعنوان: «مجزرة تشارلي إيبدو و الـ «لكن» الخبيثة»،
ومقال لخير الله خير الله بعنوان: «مع الإرهاب لا مجال لكلمة: ولكن» (رددوا المعنى نفسه بعد 9/11؛ لم تتحمل فاشيتهم حتى حرف استدراك يتيم)،ومقال بعنوان: «جريمة باريس والحجج السقيمة» لحازم صاغيّة، ومقال عنوانه «المسلم المكروه» ليوسف الكويليت (وهو، ويا للغرابة، كلمة جريدة الرياض)، و»تشارلي إيبدو مرحلة جديدة» لوليد شقير (يريد أنها ستكون مفصلية في التاريخ كهجمات 9/11).
عبد الرحمن الراشد لام في عموده بجريدة «الشرق الأوسط» (12 كانون الثاني/يناير 2015) المسلمين على «الإرهاب»، مقتبساً في عنوانه قول رجل الأعمال الأسترالي (الصهيوني) روبرت مردوخ: «المسلمون يتحملون مسؤولية الإرهاب».
ينتقد الراشد المثقفين المسلمين الذين يحاولون قراءة الهجوم وسبر أغواره زاعماً أنهم يبررون الجريمة، بل «لا يقلون إجراماً عن مرتكبيها».
ويبدو أن حادثة المجلة الفرنسية قد نجحت في إخراج الراشد من هدوئه المصطنع، فانفجر زاعقاً: «ما نراه اليوم فاشية ترتدي الثوب الإسلامي..وسيعلو صوت الأغلبية التي تطالب بتأديب المسلمين حكومات ومنظمات وأفرادا».
ويهاجم الراشد المسلمين، ويا للهول، لعدم خروجهم في تظاهرات ضد الهجوم تجوب العواصم الإسلامية، زاعماً أن باريس ليست مكاناً للتظاهرات، «لأن المسلمين هم المتهمون...والمتوقع منهم أن يعلنوا براءتهم...من جريمة باريس ومن التطرف الإسلامي» (مدهش؛ الراشد يدعو إلى التظاهر!). 
وتبلغ كراهية الإسلام والمسلمين أوجها في نفس الراشد عندما يقول: «فالتطرف بدأت حكايته من مجتمعاتهم»؛ عبارة شبيهة بعنوان له سابق في الجريدة عينها (4 أيلول/سبتمبر 2004): «كل الإرهابيين مسلمون».
لكن للحقيقة أنصارها رغم محاولات التشويه والاختطاف. الصحافي البريطاني روبرت فيسك كتب في «الإندبندنت» أن هجوم الأخوين كواشي (فرنسيان من أصل جزائري) على مجلة تشارلي إيبدو يمكن النظر إليه في إطار الحرب الفرنسية على الجزائر التي لقي فيها مليون ونصف مليون عربي ومسلم حتفهم؛ تلك الحرب هي «الجرح ما بعد الكولونيالي الذي مافتىء ينزف في فرنسا»، والذي «يقدّم سياقاً مخيفاً لكل عمل عربي عنيف ضد فرنسا».
وبالرغم من رفض فيسك تبرير الهجوم، إلا أنه يذكّرنا بتقاليد الصحافة العريقة قائلاً: «ينبغي على كل تقارير الصحف والتلفزيون أن تتضمن «زاوية تاريخية»؛ تذكيراً صغيراً بأنه لا شيء (لا شيء ألبتة) يحدث من دون ماض. المجازر، سفك الدماء، السخط، الأسى، مطاردات الشرطة...تستولي على العناوين. دائماً (نرى) «من» و «كيف»، وقلّما (نرى) «لماذا»...ثمة سياق مهم جرى تجاهله هذا الأسبوع: «الزاوية التاريخية»...؛الكفاح الدموي من عام1954-62 الذي خاضه شعب بأسره من أجل الحرية ضد نظام إمبريالي متوحش..».
بينما يحفر روبرت فيسك تحت السطح بحثاً عن تفسيرات لحادثة تشارلي إيبدو، يزعق عبد الرحمن الراشد على السطح مدافعاً عن فرنسا التي تمثل، بحسب مرافعته، «آخر القلاع الغربية التي تدافع وتتعاطف مع القضايا العربية...والتي وقفت ضد نظام بشار الأسد و «حزب الله» عندما اغتيل رفيق الحريري، وهي الوحيدة التي دعمت وأيدت بقوة (لاحظ بقوة) الثورة السورية».
ويعود الراشد إلى التاريخ، ولكن بطريقته، قائلاً: «وما حادثة المجلة الفرنسية وقبلها مقتل ثلاثة آلاف إنسان (في 9/11) إلا محطات ستقود للمواجهة الكبرى لاحقاً» (يقصد حرباً صليبية مشروعة تستأصل شأفتنا نحن المسلمين).
طبعاً لا يمكن مقارنة فيسك بالراشد، البون شاسع في الأخلاق والمهنية والتاريخ أيضاً.
دفاع الراشد والتيار الموالي للصهيونية في الخليج عن «حرية التعبير» لا معنى له؛ لأن هذا التيار أثبت مراراً أنه في الخندق المعادي للحريات في المنطقة العربية، مرتكباً خطايا كبيرة في تلميع الاستبداد وإجهاض الديموقراطية.
الكاتب الأميركي، ديفيد بروكس، كان أشرف من هؤلاء (أفعل التفضيل هنا ظلم) عندما كتب في النيويورك تايمز: «الصحافيون في تشارلي إيبدو يُحتفى بهم الآن، بجدراة، بوصفهم شهداء ممثلين لحرية التعبير، لكن (لاحظ «لكن») دعونا نواجه الأمر: لو أنهم حاولوا نشر صحيفتهم الساخرة في حرم أي جامعة أميركية خلال العقدين الماضيين، ما كانت لتبقى 30 ثانية. مجموعات الطلاب والمدرّسين كانت ستتهمهم بخطاب الكراهية، والإدارة كانت ستقطع تمويلهم وتوقفهم».
في التناول الإخباري ثمة نوعان من التأطير (framing): مشهدي (episodic)، وموضوعي (thematic).
خبر مثل: «فجر فتى فلسطيني نفسه في حافلة ركاب في العفولة شمال «إسرائيل»، فأوقع عدداً من القتلى والجرحى، وقد استنكرت واشنطن ودول عربية الهجوم الانتحاري» 
مثال للتأطير المشهدي الذي يتجاهل التفاصيل والجذور.
التأطير الموضوعي (في المثال السابق) يتضمن القول مثلاً: «من الجدير بالذكر أن الفتى من مخيم الشاطىء في غزة، وقد قتلت إسرائيل جميع أفراد عائلته في غارة شنتها على منزله في شهر آب (أغسطس) الماضي».
ربط الخبر بسياقه محاولة لرسم الصورة كاملة، حرصاً على «حق الجمهور في المعرفة».
الاكتفاء بالتناول السطحي للأخبار (لاسيما المتعلقة بأحداث العنف والحروب والانقلابات) يصب فقط في خدمة الدعاية.
هجوم تشارلي إيبدو أظهر ركام النفاق على هذه الأرض: زعماء وساسة مشهورون بجرائم إرهاب، وانتهاك واسع لحقوق الإنسان، وقتل واعتقال للصحافيين، شاركوا في مسيرة باريس.
 أبرز هؤلاء نتنياهو الذي قتل كثيراً من الصحافيين (17 خلال العدوان الأخير على غزة وحده).
الهجوم تذكير آخر لنا بالمقاربة الشهيرة في الاتصال الجماهيري: ترتيب الأولويات. الوكالات والمنظمات الإخبارية السائدة أجمعت تقريباً من خلال الاهتمام الطاغي بالحادثة على أنها «الأهم». الفرق أن الوسائط الاجتماعية صنعت ترتيباً موازياً للأولويات يتحدى الأجندة السائدة.
 شعار «أنا تشارلي» الذي رفعه المدافعون عن حرية التعبير (بزعمهم) قابله ناشطو الوسائط الجديدة بشعار «أنا لست تشارلي». أنا لست تشارلي؛ أنا أحمد ومحمد.

• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق