ليتهم يتعلمون من الجالية النيبالية!
شريف عبد الغني
(1)
قبل أن آتي إلى الدوحة، قابلت أحد المعارف من الجنسيات التي لجأت إلى مصر خلال السنوات الأخيرة، وجدته مهموما، سألته عن السبب، فقال إن موظفي البلدية يأتون باستمرار ويبتزونه بطلب المال، وإلا سيغلقون له المحل. وأضاف الرجل متحسرا: «ما في فايدة.. تركناهم في بلدنا وجدنا غيرهم هنا.. كلنا في الهم عرب».
(2)
قطر في اعتقادي، نموذج عربي يحتذى. دائما تجدد شباب قيادتها ومسؤوليها، فتدفع إلى شرايينها دماء جديدة حارة فوارة، على عكس الترهل وتصلب الشرايين والجمود السائد في وطننا العربي المتكلس.في 15 سنة فقط، تحولت قطر إلى بلد آخر، نهضة شاملة في كافة المسارات، بدأت الاستثمار في أرقى ما يملكه أي بلد.. الإنسان.
أرسلت البعثات التعليمية إلى أهم دول العالم، أنشأت جامعات عصرية لخلق كوادر بشرية قادرة على تنفيذ نهضة كبرى، حركة عمران في كل مكان، مشاريع اقتصادية عملاقة، دور سياسي إقليمي ودولي فاعل، صروح ثقافية باهرة، ثم تحولت الدوحة إلى عاصمة للرياضة العالمية، توجت باختيارها لاستضافة مونديال كرة القدم 2022، فضلا عن مونديالات أخرى في مختلف الألعاب.
(3)
أثق أن ما حققته قطر بداية من 1995، ليس فقط بسبب وفرة مالية. لو كان المال سببا للتقدم والنهضة لكانت «جماهيرية العقيد» -رحمها ورحمه الله- في مقدمة الأمم، ولكانت دول أخرى هنا وهناك تفوق قطر ثراء، تتسيد العالم.القصة قصة إرادة حاكم، أراد أن يُخلّد التاريخ بلده، فعل وأنجز لتدّون الأجيال اسمه في سجل العظماء، ليت كل الحكام يتعلمون ويفعلون، بدأ الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني -ولقبه الرسمي في قطر الأمير الوالد- مسيرة التنمية الكبرى، ويستكملها حاليا ويضيف إليها أمير البلاد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
(4)
شخصيا راودني كثيرا حلم أن أعيش في «دولة قانون»، في مثل هذه الدولة من الطبيعي أن تشعر بالأمان لوجود عدالة، لو كان لك حق ستحصل عليه، وإذا كان عليك التزام يجب أن تؤديه. إشارات المرور يحترمها الكبير قبل الصغير، أماكن محددة للمشاة حفاظا على سلامتهم، شوارع نظيفة، لا فوضى، لا بلطجة، شعب متحضر، وهذه هي قطر. «الدوحة» تعني «الشجرة العظيمة ذات الفروع المتشعبة» لتكون مظلة كبيرة لمن يحتمي بها، ولأن قطر معروفة تاريخيا بأنها «كعبة المضيوم» فقد كان طبيعيا أن تحتضن كل من يلجأ إليها، بغض النظر عن الدين أو الجنس أو الجنسية أو الخلفية السياسية أو المرجعية الفكرية، وذلك انطلاقا من وازع ديني وإنساني في المقام الأول.
(5)
لكن..لا يعني كل هذا أن قطر جنة الله على الأرض، طبيعي أن في كل مجتمع مشاكله، غير أن الأخطر أن أسلوب بعض الموظفين والعمال الوافدين قد يشوّه «الصورة النموذج»، التي ارتبطت في الأذهان عن هذا البلد.
من خلال تجربتي بالإقامة بقطر طوال الأسابيع الماضية، لاحظت وسمعت الكثير عن الأمور السلبية التي من الممكن أن تسيء إلى هذا البلد، خاصة في المؤسسات التي يلجأ إليها المواطن والمقيم لإنهاء بعض الأوراق والمعاملات.
من الواجب إعطاء كل ذي حق حقه، وأقول -ويشاركني هذا الرأي كثيرون- إن الجالية النيبالية هي من أكثر الجاليات انضباطا والتزاما، تعمل في صمت واجتهاد وسرعة ونظافة، وتتميز بأدب جم.
نيبال بلد بعيد بين الصين والهند، ربما لم يسمع عنه معظم العرب، ورغم انعزال نيبال جغرافيا في قلب جبال الهملايا الوعرة، وعدم وجود سواحل تربطها بالعالم الخارجي، فإن قلوب أهلها صافية، ووجوههم بشوشة سمحة، وأخلاقهم عالية.
معظم من تعاملت معهم ووجدت منهم رقيّ الأسلوب، ودقة الصنعة، وسرعة الأداء، كانوا من هذا البلد الذي من طيبة ناسه أتمنى زيارته.
في «التاكسيات» يديرون «العداد» فور جلوسك، ويبتسمون في وجهك، ويوصلونك إلى حيث تريد دون أن يفعلوا مثل بعض من يستخدمون سياراتهم الخاصة في نقل الركاب، فلا «عداد» عندهم بالطبع، وكالعادة -كما يحصل في بلدانهم- يجوبون الشوارع من طرق بعيدة عندما يعرفون أن الراكب جديد على الدوحة، لزيادة الأجرة.
أما في الفنادق والمطاعم فإن النيباليين يؤدون ما يطلبه الزبون بهدوء، ثم يمضون إلى حال سبيلهم، ولا يفعلون أبداً مثل البعض الذي يظل «يرغي» ويتطفل عليك بأسلوب بائس و»سماجة» مملة، تجعلك تندم على دخولك المكان.
هناك ثلاثة شبان لم أستطع -للأسف- حفظ أسمائهم، يعملون في متجر شهير لبيع الأغراض المنزلية، اثنان من نيبال والثالث من سريلانكا، جاؤوا إلى منزلي لتركيب بعض قطع الأثاث، الموعد الذي حددوه وصلوا فيه دون تأخير، فوجئت بهم يخلعون أحذيتهم خارج المنزل، اندهشت من فعلتهم، سألتهم، أجابوني: «حرصا على النظافة»!!
بدؤوا يفتحون «كراتين» القطع، ثم يبدؤون العمل في صمت وسرعة باهرة، أقل من ساعة أنجزوا مهمتهم، وقبل أن يخرجوا جمعوا بقايا الورق والبلاستيك، وأخذوها معهم، وتركوا المنزل نظيفا مرتبا، وانصرفوا!!
(6)
لاحظت تصرفات وسلوكيات سيئة، من عمال وموظفين نشؤوا وترعرعوا في ظل أنظمة حكم قمعية اعتمدت نهجا ثابتا بنشر ثقافة الفساد بين عموم شعبها. في بعض المؤسسات، لو وصلت الأوراق إلى موظفين بعينهم، يكون الانطباع العام أن المعاملة لن تنتهي، وما يستغرق يوما لإنجازه قد يبقى أسبوعا. وداخل بعض الجهات والشركات نوع من العاملين يعتبر أن راتبه الرسمي يحصل عليه لمجرد فقط تكرّمه بالنزول من سريره، وتفضّله بخروجه من بيته، وتعطّفه بالجلوس على مكتبه.
أما لو طلبت منه شيئا -من صميم عمله- فإنه يعتبره عملا إضافيا يجب أن يحصل على مقابل عليه. وإذا لم يدخل جيبه شيء فإنه لا «يغلب» من حيل التسويف، ويدخلك في متاهات الروتين.
للأسف لقد تربوا في ظل ثقافة الفساد.
والمؤسف أن بعضهم قد أتوا بفسادهم إلى قطر، وليتهم يتعلمون من سلوكيات الجالية النيبالية!
• shrief.abdelghany@gmail.com
@shrief_ghany
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق