النيل ماجاشي..خيانة العصر
النيل ماجاشي..خيانة العصر
د.محمد محسوب
المياه بقيمة الدم، وأحياناً - كما في مصر - أغلى من الدم؛ لأنها مصدر وجودها. وعندما أهدر السيسي دماء مواطنيه أدركت دول الجوار أن تفريطه في المياه أيسر.
لا يمكن أن تخفي لغة النفاق والعجز التي تليق بالمرحلة حجم كارثة ضربت بلداً هو أعرق من التاريخ ذاته.
فالاستخفاف بحجم الكارثة خيانة، فمصر ستحتاج ابتداءً من سنة 2017 إلى 86.2 مليار متر مكعب من المياه، ومن ثمّ لم تعد حصتنا الحالية التي جرى المساس بها فعلاً تكفي، فهي لا تتجاوز 55.5 مليار متر مكعب، وفي ظل هذه الحصة تبقى مصر في إطار خطّ الفقر المائي الذي يتحدد على أساس 1000 متر مكعب سنوياً للفرد، بينما يبلغ نصيب المصري حالياً 860 متراً مكعباً.
إن تراجع حصة مصر لأي مدى زمني عن هذا المستوى هو تهديد لمصر في وجودها، كما أن تخويل الغير حق التحكم في مقدار ما يتدفق من مياه لمجرى النيل ليس إلا تسليماً لمصر على المفتاح لمن يشاء التحكم في حياتها وفي قرارها.
لم يكن توقيع السيسي على وثيقة سد النهضة سوى تسليمٍ لمصر وتدميرٍ لكل أساس قانوني يضمن حقها، ويكفل لها استخدام كل وسائل الدفاع عن النفس لمنع المساس بحصتها في النيل.
بل ولم تكن لإثيوبيا هذه الجُرأة على تحويل مياه النيل ليمر عبر السد دون هذه الوثيقة، فكل الأعمال التحضيرية والدراسات وطرح المناقصات وإقامة إنشاءات لا قيمة لها طالما لم يمس مجرى النيل؛ فما يمنعه القانون الدولي - كما سنرى - هو تغيير مسار المياه والتحكم في تدفقها إضراراً بدول تقع على حوضه.
وإذا ألقينا نظرة على وضعنا القانوني الراسخ قبل توقيع السيسي وثيقة سد النهضة فسنكتشف أن ما يحكم مياه النيل ليست فقط اتفاقات بين دول حوض النيل، خصوصاً اتفاقية 1929 و1959، وإنما معاهدات دولية متعاقبة منها، على سبيل المثال، اتفاقية روما لسنة 1891 بين بريطانيا التي كانت تحتل مصر، وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا والحبشة؛ ثم اتفاقية أديس أبابا لسنة 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، واتفاقية لندن لسنة 1906 بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، ثم اتفاقية روما لسنة 1925.
ومحور تلك الاتفاقات دون استثناء هو عدم المساس بحصة مصر التاريخية والقانونية في النيل، وامتناع كل الدول عن القيام بأي مشروعات على حوض النهر إذا كان من شأنها أن تؤدي للخلل في مياه النيل التي تصل لمصر أو الإنقاص من كميتها، أخذاً في الاعتبار أن مصر هي الدولة الوحيدة التي تعتمد اعتماداً كاملاً في وجودها ومعاشها على النيل، ومن ثم فإن مفهوم الأمن المائي لمصر لا يتحقق إلا بالتزام الجميع بالامتناع عن أي إجراءات أحادية تتعلق بحوض النيل دون موافقة مصر.
ثم جاءت اتفاقية 1929 لتتناغم مع ذلك التراث التشريعي الدولي، فقررت حق مصر التاريخي والطبيعي في مياه النيل بالمقادير التي تصلها في المواعيد الطبيعية لها وعدم جواز إقامة أية مشروعات أو أعمال ري أو كهرومائية أو غير ذلك على النيل أو فروعه أو على البحيرات التي ينبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية، والتي من شأنها إنقاص مقدار المياه التي تصل مصر أو تعدل من تاريخ وصولها أو تخفض منسوبه.
وأخيراً جاءت اتفاقية 1959 لتحدد مقدار تلك الحصة بمقدار 55.5 مليار متر مكعب، مكملة نصوص اتفاقية 1929 وما سابقها وليست لاغية لها.
والأهم من كل ما تقدم أن القانون الدولي جعل اتفاقيات تنظيم إدارة الأنهار بمكانة اتفاقيات الحدود، ويساوي في القيمة بين حقوق الدول الناتجة عن تلك الاتفاقات وحقوقها السيادية على أراضيها.
وعلى هذا الأساس قضت محكمة العدل الدولية سنة 1999 بأن اتفاقات المياه شأنها شأن اتفاقات الحدود لا يجوز تعديلها، لأنه يفتح الباب لنزاعات مسلحة لا تنتهي.
وفي محاولة للالتفاف على هذا الأساس القانوني طرح بعض الأكاديميين الإثيوبيين تصوراً لإعادة اقتسام مياه النيل وفقاً للحاجة لا وفقاً للحقوق التاريخية، زاعماً أن الحاجة لا تعني فقط الحاجة الحالية وإنما الحاجة المتطورة بتطور الزيادة السكانية والتمدد العمراني، كما لا تعني الحاجة للمياه كمادة وإنما أيضاً كوسيلة لتوليد الطاقة.
وبالطبع فإن تلك الآراء مردود عليها بأن الاتفاقات الدولية، بما فيها تلك التي أبرمت إبان الاحتلال هي ملزمة لأطرافها، استناداً لقاعدة توارث الالتزامات والمعاهدات الدولية، وأن غير ذلك يعني انهيار معاهدات ترسيم الحدود وليس تقسيم المياه فقط، ومن ثمّ فتح الباب واسعاً لحروب لا نهاية لها.
كما أن إعادة تقسيم مياه النيل على أساس الحاجة ربما لن يغير الوضع أبداً، على أساس أن الحاجة المصرية لمياه النيل مصيرية ولا يمكن مقارنتها بغيرها من دول حوض النيل.
أما حجة إعادة تعريف الحاجة لتشمل استخدامات المياه كوسيلة لتوليد الطاقة فإنها لن تصمد فيما لو تصادمت مع الاستخدام الأصيل للمياه في الري والشرب والمعاش.
أما بشأن "الاتفاقية الإطارية الشاملة" CFA التي تم توقيعها سنة 2010 من بعض دول المنبع؛ فأهم ما اشتملت عليه هو تغيير مفهوم الأمن المائي، ليصبح مجرد تعهد (وليس التزاماً) على عاتق على دول المنبع في السعي لضمانه، دون التزام بالامتناع أو حتى الاتفاق المسبق بشأن أية مشروعات ترغب أي دولة من دول المنبع في إقامتها على حوض النيل، ودون أي التزام بأن لا تؤثر مثل تلك المشروعات سلباً على الاستخدامات الحالية وحقوق دولتي المصب.
وظلت الاتفاقية الإطارية بغير قيمة قانونية حقيقية؛ لأن مصر ليست طرفاً فيها ولا يمكن فرضها على مصر خلافاً لأحكام القانون الدولي، بينما انحصر أثرها في محاولة تشكيل تحالف مائي - إن صح التعبير - ضد مصالح مصر المائية، وهو ما كان يحتاج جهداً دبلوماسياً واقتصادياً لمواجهته، مع استبعاد تحوّله رغم إرادة مصر لعمل على الأرض، لأنه سيكون اعتداءً بمنطق القانون الدولي يُبرر استعمال كل وسائل القوة لمواجهته.
أما بعد توقيع السيسي على وثيقة سد النهضة فإن الوضع القانوني تغيّر جذرياً - فيما لو سلمنا بشرعية توقيعه - فقد نقل أي إجراءات تتبناها إثيوبيا من شأنها التأثير على حصة مصر من خانة العمل العدائي الذي يجرمه القانون الدولي إلى خانة اجتهادات في تفسير الوثيقة، وحتى لو ثبت مخالفة إثيوبيا فإن الجزاء لا يتجاوز التزامها بالتعويض وليس بإزالة المنشأة أو بالتراجع عن مشروعها وفقاً لنصوص الوثيقة ذاتها.
ومن ثمّ يُصبح أي إجراء دفاعي لمصر في خانة الاعتداء، بينما أي إجراء تقوم به إثيوبيا في خانة الحق أو الخطأ في تفسير نص تعاقدي بين دولتين!
نحن في كارثة لا حل لها سوى التمسك بعدم شرعية مَنْ وقع الوثيقة، وهو غير كافٍ بذاته للخروج من المأزق، وإنما يجب أن يتبع رحيله انعقاد برلمان شرعي وطني لرفضها على أساس قانوني واضح، وهو مخالفتها المادة 151 من الدستور المصري التي تحظر إبرام أي اتفاقات تمسّ حقوق السيادة، ومخالفتها للقانون الدولي كما أشار قضاء محكمة العدل الدولية سنة 1999 الذي أشرت إليه.
أتذكر كلمات أمير الشعراء:
النيل نجاشي .. حلاوة أسمر .. عجب للونه دهب ومرمر .. أرغوله في إيده .. يسبح لسيده .. حياة بلدنا .. يا رب ديمه..
وأحسب أنه - رحمه الله - لو كان بيننا لبكى حُرقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق