الأحد، 27 ديسمبر 2015

حتمية التغيير داخل "الإخوان المسلمين"

حتمية التغيير داخل "الإخوان المسلمين"


د. عصام عبد الشافي

ترددت في الكتابة عن حتمية التغيير داخل جماعة الإخوان المسلمين، أو حتى الانخراط في الجدل بين عدد من قياداتها، بصورة أصبحت أقرب إلى صراعات الأجنحة، فيما المفروض أن الجميع من رافضي الحكم العسكري في مصر ومقاوميه يحشدون الجهود والطاقات، استعداداً لإحياء الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير.

سبب التردد
ليس الخوف من الاتهام بالتحيز لطرف دون آخر، فهذا لا يعنيني، فانحيازي دائماً لصالح قضايا وليس لجماعات أو أحزاب أو تيارات أو أشخاص، السبب الرئيس محاولة بذل كل الجهود الممكنة لاحتواء أية صراعات أو خلافاتٍ، من شأن تسليط الضوء عليها أن تتفاقم، في ظل ترقب وتحفز من معسكر الثورة المضادة والانقلاب العسكري، للنيل من القوى الثورية، وبذل كل الجهود لتفكيكها وتدميرها.
وتصورت أن هذا الصمت قد يكون مقبولاً في حالاتٍ كثيرة، إذا كان هناك همٌ أكبر تتراجع في مواجهته الهموم الأخرى.

أما وقد حدث ما توقعته، وما حذرت منه سراً وعلناً، منذ سنوات، إلى درجة دفعتني في وقتٍ لنشر مقالة بعنوان "حل جماعة الإخوان المسلمين"، وهل هذا الحل يمكن أن يشكل خياراً محتملاً في ظل التحولات التي تشهدها ليس فقط الجماعة، ولكن المنطقة بأسرها.

وفي العامين الماضيين، أُتيحت لي الفرصة، عشرات المرات، للقاء عديدين محسوبين على الجماعة، وفي كل مرة، كانت تتأكد لدي فرضية التغيير، ليس من باب احتمالية الحدوث، ولكن من باب حتمية الوقوع، فقد كشفت اللقاءات عن فجوة جيلية، من الصعب أن تصمد أمامها أية شخصيات أو قيادات أو كيانات، فجوة رسختها ممارسات هذه القيادات، سواء في إدارتها المشهد السياسي قبل الانقلاب العسكري، في 3 يوليو/تموز 2013، أو بعده، فجوة رسختها هوة سحيقة بين تطلعاتٍ وتوقعاتٍ في مقابل مظلوميات وانكسارات، ففي وقتٍ تصاعدت فيه التوقعات بين شباب الجماعة بأن الدرس الدامي الذي تعرضت له بعد الانقلاب كان كفيلاً بحدوث تغيير جذري في المرجعيات والهيكليات والقيادات والممارسات، وجدوا أن ما يعايشونه بعد الانقلاب أسوأ من الوضع قبله.
من هنا، أجد أن حتمية التغيير داخل جماعة الإخوان المسلمين، مردها عوامل واعتبارات عديدة، لعل في مقدمتها:
أولاً، السنّة الكونية: فالتغيير أحد السنن الكونية، في التجربة البشرية التي لم تقف خلال عشرات العقود على دين واحد أو نبي واحد أو كتاب مقدس واحد أو إمبراطورية واحدة أو كيان واحد أو تنظيم واحد أو قائد واحد، مهما كان حجم هؤلاء أو وزنهم. ومن هنا، تقتضي المنطقية والعقلانية والرشادة الأخذ بأسباب التغيير، وليس قمع التغيير والتصدي له، والوقوف أمام دعاته كأنهم مارقون كافرون فاسدون.
ثانياً، الظرفية التاريخية: ما تشهده المنطقة العربية، بل والعالم الإسلامي، يتجاوز الجميع، دولاً وشعوباً، جماعات ومنظمات، فما بالنا بالزعامات والقيادات أيضاً، مهما كان حجمها ووزنها، من دون نيل أو تقليل أو تشويه أو تحقير من أي دولة أو شعب أو جماعة أو تنظيم أو شخصية، لكنها الظرفية التي تتطلب أيضاً الرشادة والعقلانية في التعاطي معها، بدلاً من السحق تحت أقدام من يحركونها.
ثالثاً، الثورة التقنية: فارق كبير بل هائل في الأدوات والتقنيات، لن أقول بين القرنين، العشرين والحادي والعشرين، بل بين العامين، الماضي والحالي، وليست الكيانات والشخصيات على القدرة نفسها على التعاطي مع هذه الثو  رة التقنية وإدارتها، بما يضمن حسن الاستفادة منها. ولذا، يكون منطقياً أن من نشأ وتربى في إطار هذه الثورة هو الأكثر قدرة على التعاطي معها وإدارتها، بما يضمن تحقيق الأهداف الكبرى منها.
رابعاً، الممارسة السياسية: كشفت السنوات الخمس منذ 25 يناير 2011 عن "كوارث حقيقية"، في الممارسة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، سواء في ظل مرحلة المجلس العسكري الأولى (بين 11 فبراير/شباط 2011 و30 يونيو/حزيران 2012)، أو خلال عام حكم رئيسنا الشرعي محمد مرسي (30 يونيو 2012 و3 يوليو/تموز 2013) أو بعد انقلاب 3 يوليو 2013. ولم تقف هذه الكوارث عند الممارسة السياسية، بل امتدت إلى الممارسات الإعلامية والميدانية والحقوقية، وفي المجمل، الثورية للتحولات التاريخية، ليس فقط للدولة المصرية، ولكن للعالمين العربي والإسلامي.
خامساً، جوهر النهضة: مجرد الحديث عن النهضة ووضع برنامج لها، اعتراف صريح بأن ما 
قبل البرنامج كان فيه اختلالات عديدة، وهناك عشرات الشهادات التاريخية، من قيادات الجماعة أنفسهم، وعشرات الممارسات الفعلية التي رسختها الوقائع، أن حديث النهضة لم يكن يستهدف فقط الدولة المصرية، بعدما تولى "الإخوان" قيادتها، وإنما يستهدف، أساساً، الجماعة وقيادتها، وإلا كيف لمن لا يؤمنون بفكر النهضة وجوهر التغيير أن يحققوا نهضة أو يقودوا تغييراً.
لذلك، لم أقف كثيراً أمام عشرات النداءات التي طالبت الجماعة بـ"العودة إلى الخلف"، أو التنحي جانباً، أو تجنب المشهد، أو الفصل بين مقوماتها، لأن النهضة الحقيقية تتطلب التقدم إلى الأمام، تتطلب تولي زمام القيادة، تتطلب الإقدام والمبادرة، تتطلب التكاملية والشمولية بين الفكر والحركة، بين الدعوة والسياسة، بين الماضي والحاضر، في إطار من رؤية واضحة للمستقبل.
سادساً، الفجوات الميدانية:
أكدت السنوات الخمس الماضية أن هناك فجوات ميدانية حقيقية داخل الجماعة، وبين مكوناتها المختلفة، فشبابها كانوا في مقدمة الصفوف في 25 يناير، فيما كان بعض قادتها ورموزها مترددين، وكان شبابها في مقدمة الصفوف في واقعتي شارع محمد محمود الأولى والثانية، في وقت كان التردد، بل والتخاذل أيضاً، قائماً بين بعض قادتها ورموزها. وبعد الانقلاب، كان الإقدام وإعلام التحدي وإبداع المقاومة حاضراً مزدهراً في نفوس كثيرين من شبابها، في وقت كان فكر المظلومية وفقه الصبر على المحن الحاكم لبعض رموزها وقياداته.
لا يعني هذا تجاهل المظالم التي تعرّضت له الجماعة وأبناؤها، قيادات وغير قيادات، أو التشويه من قيمة الصبر وعظمته. ولكن، لكل حدث حديث، وحديث الثورة جوهره الإقدام والإبداع، وردّ الصاع بالصاع، وصون الحقوق والحريات والكرامات، ودفع الأذى عن المقدسات، والقصاص لحقوق الشهداء والمعتقلين والمشردين في مواجهة نظام فاشي، تدعمه منظومة فاسدة داخلياً وخارجياً.
سابعاً، فجوة التوقعات:
إذا كانت الثورات الشعبية تصاحبها ثورتان، ثورة مضادة تحاول النيل منها والقضاء عليها، وثورة توقعات تفجّرها الآمال والطموحات، فإن ما شهدته الجماعة في السنوات الخمس الماضية كشف عن فجوة كبيرة في التوقعات، فهناك ثورة حقيقية في الآمال والطموحات والرهانات بين شباب الجماعة، في مقابل هرمية وتقليدية وروتينية وتراتبية كبيرة بين كثيرين من قادتها وشخصياتها، وكانت الغلبة ميدانياً للشباب وللقواعد الذين أصبحوا أقرب إلى السيوف المسلطة على رقاب كثيرين، إذا وجدوا فيهم تخاذلاً أو تقاعساً أو تراجعاً عن مسارٍ رسمه الشباب لأنفسهم، في ظل ثورة توقعاتهم من جماعتهم وتنظيمهم.
ثامناً، المستقبل:
عشت حياتي أراهن على المستقبل، مع تقدير كامل للماضي، لأنه يشكل الأسس والجذور والأعمدة التي نرتكز عليها في حركتنا، ومع إدراك كامل للحاضر، بكل مصادر قوته وضعفه، بكل فرصه وتحدياته، والرهان على المستقبل لن يكون إلا بإعداد حقيقي وتأهيل متميز للشباب، وهو رهان على الشباب، على قدراتهم، على طموحاتهم، على إبداعاتهم، وإذا لم يُحسن شيوخ الماضي وقادة الحاضر إعداد قادة المستقبل وتربيتهم وتأهيلهم قادة، سيكون الانهيار حتمياً.
وبعد، قبل ثورة يناير 2011، كانت رهاناتي كبيرة على جماعة الإخوان المسلمين، لما تملكه من مصادر كبيرة للقوة، أن تقود عملية التغيير، ليس فقط في مصر، ولكن في العالمين العربي والإسلامي، وتعزّزت هذه الرهانات بعد ثورة يناير، ولكن، في قلبها يبقى الرهان الأكبر، بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، على شباب الجماعة، لأنهم روحها النابض، لأنهم مفجرو ثورتها الحقيقية، لأنهم، حقاً وصدقاً، نواتها الصلبة فكراً وحركة، إدارة وتنظيماً، ساحة وميداناً. وهنا يكون النداء لهؤلاء الشباب أن يكونوا أهلا للتحدي، أهلا للرهان عليهم، أهلًا للثقة فيهم، أهلاً للمنشود منهم.
وفي مقابل الرهان على الشباب، يبقى الرهان على القادة والرموز، على الكيانات والتنظيمات، أن تعي وتدرك هذه الحتمية وأبعادها، وإلا فلا يلومون إلا أنفسهم، فالزمان سيتجاوز جميع من يقف ضد سننه، ضد كل من لا يتسلح بجوهر التغيير الحقيقي في زمن الثورات، نعم في زمن الثورات، وضع تحت هذه الكلمة عشرات، بل مئات، الخطوط الحمراء.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق