عمالقة في جحيم المحنة الأندلسية
ا.محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
ذكرنا في المقال السابق (عظماء المحنة الأندلسية) جانبًا من عظمة الأمة الأندلسية في زمن محاكم التفتيش بعد الاستيلاء الإسباني على الأندلس، ونقض العهود والمواثيق التي بناء عليها استسلمت غرناطة، وآثرنا أن يكون المقال السابق لجانب العظمة الذي سطرته الأمة الأندلسية عامة، فذكرنا منها أربعة جوانب:
- فشل الإسبان في تنشئة أطفال المسلمين على المسيحية برغم كل الأموال والمجهود المبذول.
- فشل الإسبان في إغراء أو ترهيب الأندلسيين للدخول في المسيحية.
- احتفاظ المسلمين بالكتب العربية وإنشاء نظام تعليم سري رغم العقوبات المشددة على الاحتفاظ بأي نص عربي.
- عودة بعض من تمكن من الهجرة إلى الأندلس ليجاهد فيها.
وفي هذه السطور – وما زلنا ننقل عن وثائق محاكم التفتيش[1] – ندخل إلى التفاصيل قليلا لنرصد مواقف شخصية لأندلسيين جاءوا بما لا يُتَصوَّر من أناس في جحيم المحنة، لا سيما وهي محنة محاكم التفتيش التي هي واحدة من أبشع وأشنع المآسي الإنسانية قاطبة، ولا يمكن تصور عظمة هؤلاء بغير تصور وحشية محاكم التفتيش وأساليب التعذيب الوحشية وأحوال وأهوال الزنازين السرية وأجواء المحارق العامة العلنية وشراسة مطاردة الإسبان لكل من يُشْتَمُّ منه رائحة التمسك بالإسلام كالتزين أو ذبح دجاج وإعداد طعام يوم الجمعة أو استعمال حنفية بناها العرب دون أخرى بناها الإسبان أو المشي في جنازة الأندلسي دون المسيحي، لقد كانت محنة هائلة! لكن تطاول الزمن والجهل بها هو ما يُنسينا إياها.
لقد مثَّل تماسك المجتمع الأندلسي الوسيلة الأهم في الحفاظ على الدين، وفي دعوة المترددين ومن قد يميل إلى الإسبان أو يتهاون في أمور يفرضها عليهم الإسبان كأكل لحم الخنزير وغيره، إلا أن المثير للدهشة أكثر أن من بين فقهاء المسلمين الأندلسيين – في كل تلك الأجواء الرهيبة – من استمر في الدعوة إلى الإسلام بين المسيحيين أنفسهم، واحتفظت سجلات محاكم التفتيش بفقيه دعا المسيحيين إلى ترك عبادة الأوثان وبيَّن لهم كيف يدخلون الإسلام[2].
وبينما كان همُّ الجميع أن يثبت أمام محاكم التفتيش أنه بريء من تهمة الإسلام وأنه قد وُشِيَ به، رصدت سجلات محكمة طليطلة حالة أندلسي أخذ يدعو إلى الإسلام وهو في السجن، كان يدعو رفقاء الحبس ويعلمهم شعائر الإسلام ويحثهم على إنقاذ أنفسهم والخروج من الظلمات إلى النور بالدخول في الإسلام[3].
ووُجِد من بين الأندلسيين من يمارس الدعوة مع عبيده وخدمه، وحوكم أحد أولئك بتهمة دعوة راعي غنمه “الشديد التعلق بالمسيحية” إلى الإسلام، وقد كان ذلك من الكثرة بحيث اضطر الإسبان إلى إصدار قانون (1560م: أي بعد سبعين سنة من سقوط غرناطة) يحرم على الأندلسيين اتخاذ عبيد، وجاء فيه “يبدو أن موريسكيين في هذه المملكة (غرناطة) قد حولوا كل العبيد السود الذين لديهم إلى عرب”[4].
بل سعى بعض الأندلسيين لإدخال القيم الإسلامية ضمن الأعمال الفنية الإسبانية، فيما يمكن أن نسميه الآن “اختراق الجهاز الإعلامي”، فقد تدخل ممثلو محاكم التفتيش لإيقاف مسرحية تعرض في مدريد يُذكر فيها معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بحثوا وتحروا حتى وصلوا إلى مؤلف المسرحية وحققوا معه فتذرع بأنها مسرحية تاريخية ليست من تأليفه وإنما نقل بعض أجزائها عن كتاب مؤرخ مسلم. والحقيقة أن مثل هذا العمل هو شجاعة كبرى لا سيما في مثل تلك الأحوال.
وتورد سجلات محاكم التفتيش اسم ثري أندلسي اسمه جوان في منطقة آراجون، وكان جوان هذا ينشر الإسلام في منطقة المانش، إلا أن الطريف في أمره أنه كان داعية ثريًّا أنفق الأموال الطائلة على تعليم الأندلسيين دينهم للحفاظ عليهم، وكان يتردد عليهم في بيوتهم وينظم اللقاءات والمجالس السرية فيقرأ عليهم القرآن والكتب الإسلامية، ثم إنه كان محاميا “بمصطلح هذه الأيام” إذ يتقدم باستشاراته للمسلمين، ويوصي الأندلسيين المشتبه بهم أو الموضوعين تحت الرقابة بأن يحفظوا الثغرات القانونية المفيدة لهم، ومنها مثلا أن البابا إدريان – وقد تولى لفترة ديوان محاكم التفتيش – صدر عنه أن القبض يكون في حالة “التلبس بالبدع”، وأن الامتناع عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ليس دليلا كافيا على البدعة.
وقد سعى جوان إلى جمع أموال لتمويل تكوين وفد يذهب إلى البابا إدريان للحصول منه على “فتوى” أو “تأكيد” على هذه التصريحات، إلا أن الوفد لم ينجح فيما يبدو أن القس قد انتبه لأغراضهم في استعمال هذه الفتوى لحماية الأندلسيين، ليس هذا فحسب، بل صار جوان مطلوبا للقبض عليه إلا أنه استطاع الهرب إلى الجزائر قبل أن تُمسك به الشرطة[5].
ونختم بواحدة من أعظم الأعمال المغمورة للأندلسيين في الدعوة إلى الإسلام، ذلك هو مجهودهم في نشر الإسلام حيث نزلوا بعد أن استطاعوا الهجرة إلى المغرب العربي، وهناك انتشروا في البلاد، فمن ذلك أن جماعة منهم وجدوا في جبال الجزائر أقواما قد تطاول عليهم الزمن وقلَّ عندهم الدعاة لما في مواقعهم من وعورة، وبحسب ما يرويه المستشرق الفرنسي تروميللي في كتابه “أولياء الإسلام” فإنه لم ينتهض لهذه المهمة إلا قوم لا يكاد يتوقعهم أحد، أولئك هم المطرودون المهجرون من الأندلس عقب سقوطها، فتجاسروا عما تكاسل عنه كثير من دعاة هذه الأنحاء، ونجحوا فيما أخفق فيه غيرهم، فلقد وجههم شيخ من هذه الأنحاء إلى دعوة تلك القبائل، وجاء في حديثه لهم: “إنه لواجب قد ألقي على عاتقنا أن نحمل مشعل الإسلام إلى تلك الأصقاع التي ضيعت ما ورثته من بركات هذا الدين، ذلك أن هذه القبائل البائسةلم تزود مطلقًا بالمدارس، وليس لديهم شيخ يعلم أبناءهم مبادئ الأخلاق وفضائل الإسلام، لهذا فهم يعيشون كالحيوان الأعجم لا يعرفون إلهًا ولا دينًا.
ولكي تنزع عنهم هذه الشقاوات، عقدت النية على أن أناشد غيرتكم الدينية وهدايتكم. لا تَدَعوا بعد اليوم سكان هذه الجبال غارقين في حالة يرثي لها من الجهل بحقائق ديننا العظمى؛ انطلقوا وانفخوا في نيران دينهم الزائلة، وأعيدوا إنارة جذوتها الخامدة. طهروهم مما يظل عالقًا بهم من أثر من آثام اعتقادهم القديم في النصرانية. فطّنوهم إلى أن الله لا يقبل الرجس في دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما لا يقبله في النصرانية[6].
إنني لا أخفي عنكم أن مهمتكم محفوفة بالصعاب، ولكن ما اتصفتم به من غيرة لا تقاوم وحماسة من أجل دينكم، سيمكنكم بعون الله من تذليل كل الصعاب. انطلقوا يا أبنائي وأعيدوا إلى الله ورسوله مرة أخرى هذا الشعب الشقي المنغمر في حمأة الجهالة والكفر. انطلقوا يا أبنائي واحملوا رسالة الخلاص أيدكم الله ووفقكم”.
وبالفعل، خرجت مجموعات الدعاة إلى هذه الأنحاء، وأثاروا بزهدهم وتعبدهم شغف أهل الجبال، ولم يلبث أن نشروا فيهم الدين وذكروهم ما كان قد اندرس وأزالوا ما علق بأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم من النصرانية، بل ونشروا بينهم العلوم والصناعات التي كانت مزدهرة في الأندلس فصارت تلك المناطق زاخرة بمراكز تعليمية مشرقة، فجذبت الشباب – في أول الأمر – ثم صار هؤلاء الشباب طليعة لأقوامهم ومن ورائهم القبائل التي تسكن صحراء الجزائر[7].
في المقال القادم إن شاء الله تعالى نروي الوجه الآخر من هذه الصورة، فالله المستعان.
[1] ونعتمد على دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك “الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية”، وهي منشورة ومتاحة على الإنترنت.
[2] لوي كاردياك ص77.
[3] لوي كاردياك ص79.
[4] لوي كاردياك ص79.
[5] لوي كاردياك ص78، 79.
[6] وهنا يعلق توماس أرنولد في كتابه “الدعوة إلى الإسلام” بقوله: قارن هذا بالمواد التي نشرها المجلس الذي عقد في مدريد سنة 1566م, وهو يتعلق بتنصير المسلمين المقيمين في أسبانيا (أي بعد زوال الحكم العربي منها), ومنها مادة تقول: “لا يسمح مطلقًا لهم ولا لنسائهم ولا لأي فرد آخر أن يغتسلوا أو يستحموا في منازلهم أو في أي مكان آخر, كما يجب أن تهدم وتخرب حماماتهم كلها”.
[7] نقلا عن: توماس أرنولد: الدعوة إلى السلام ص151 وما بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق