الجمعة، 18 ديسمبر 2015

إحساس بالألم



إحساس بالألم


د. سلمان بن فهد العودة

يتشكى كثيرًا من توالي المصائب عليه، ويلخص حياته بأنها سلسلة متصلة الحلقات من الآلام والمحن، يخرج من حفرة ليقع في جرف، الحظ لا يبتسم له إلا نادرًا.

ليست هذه المشكلة فحسب؛ إحساسه الدائم بأنها عقوبات إلهية على أخطاء ارتكبها وذنوب قارفها في لحظه طيش غاب عنها الشعور بالرقيب الإيماني، يضاعف إحساسه بالألم، ويحول المعاناة المادية الحسيَّة إلى عذاب نفسي، ويضعف قدرته على الصبر والمقاومة.

جميل أن يكون لديك رهافة إحساس ويقظة ضمير حتى لا ترى نفسك مطهَّرًا بريئًا، على أن اعتبار المصيبة عقوبة مرتَّبة على ذنب سابق من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.

والنصوص صريحة في أن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، إن كان في إيمان الإنسان صلابة اشتدَّ عليه البلاء، وإن كان في إيمانه ضَعْف خُفِّف عنه.

عن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياءُ، ثم الصالحونَ، ثم الأَمْثَلُ، فالأَمْثَلُ من الناس، يُبْتَلَى الرجلُ على حَسَب دينه، فإن كان في دينه صلابةٌ زيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رِقَّةٌ خُفِّفَ عنه، وما يزالُ البلاءُ بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئةٌ». (أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي).

وعن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: «وإن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضا، ومَن سخط فله السُّخط» (أخرجه الترمذي، وصححه الألباني).

فجعل العقوبة على عدم الصبر، ولم يجعل المرض أو الحزن ذاته عقوبة.

وحتى في الحال التي يُظن أن الابتلاء عقوبة، ويكون ناجمًا عن مباشرة فعل هو سبب المصيبة؛ كمن يبتلى بالإيدز- مثلًا- بسبب علاقة محرَّمة، مما يُرجِّح أن يكون الأمر ابتلاء، فهذا ينبغي أن يخفف من ألمه؛ لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة والعقاب، هنا تطهير للروح ورحمة للعبد، وقد يعود بعد التوبة خيرًا منه قبل الذنب، وأقرب إلى الله وأنقى وأتقى.

وفي حديث أنس رضي الله عنه السابق قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد اللهُ بعبده الخير عجَّلَ له العقوبةَ في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشَّرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يوفى به يوم القيامة». (أخرجه الترمذي).

فجعل تعجيل العقوبة من إرادة الله الخير بعبده، ولم يجعله علامة غضب أو مقت.

والمرض أو الفشل له أسبابه المادية الواضحة، والتي تكون معلومة في أحيانٍ كثيرة، وتجري نواميسها على البَرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر، وكل الناس يُبتلون بالأمراض والحوادث والكوارث، ويزيد ذلك أو ينقص بحسب الاحتياط والانضباط، وفعل الأسباب أو إهمالها والغفلة عنها.

ولكنه يكون للمؤمن تكفيرًا وتطهيرًا في حالات، ويكون رفعة درجات وزلفى في حالات أخرى.

ويقظة ضمير المؤمن تجعله يرجو ويخاف، حتى الأنبياء- عليهم السلام- كانوا كذلك.

كيف نُفرِّق بين الابتلاء وبين العقاب أو البلاء؟

الأصل في التفريق إنما هو بالنظر إلى ما بعد المصيبة، وليس ما قبلها؛ فإذا صبر وتجلَّد، ورضي بما كتب الله، واستغفر لذنبه؛ فهي علامة رفعة الدرجات وتكفير الذنوب، وإذا جزع، وتذمَّر، وتسخَّط، واستسلم للشر؛ فهي علامة الخسار والحرمان.

فكِّر بالمستقبل وكيف تكون إيجابيًّا في التعامل مع المصيبة، وليس في الماضي فحسب، فلست قادرًا على تغيير الماضي مهما يكن أسود كالحًا.

حاذر اللغة السلبية التي تبعدك عن الله ولا تقل: حتى ربي يكرهني!

البلاء خير بشرط أن تعتبره خيرًا.

أن تصبر وتستعين بالله، وفي الحديث مرفوعًا: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَه كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إِلَّا للمؤمنِ، إنْ أصابَتْهُ سرَّاءُ، شكرَ فكان خيرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضرَّاءُ، صبرَ فكان خيرًا له». (أخرجه مسلم).

الغموم والهموم تَحَدٍّ يواجهك، ويستفز طاقاتك، ويحرِّك مكامن القوة في نفسك؛ شرط أَلَّا تستسلم لليأس والقنوط، ولا تسمح للوساوس أن تستحوذ عليك، وبذكر الله تطمئن القلوب.

وليس أحد قط إلا وهو مبتلى وإن تنوَّعت الصيغة، ولذا قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد: 31).

الروح المؤمنة الموصولة بخالقها سبب في التكيُّف مع الظروف مهما كانت صعبة ومفاجئة أحيانًا {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11)، وهي سبب للشفاء والعافية، والاستجابة للعلاج المادي والنفسي.

قدْ يُنعِمُ اللهُ بالبلوَى وإنْ عظُمتْ ... ويبتَلِي اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعمِ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق