الحريّة تستحقّ الفرار... من وحي المقامة المضيرية للهمذاني
أحمد بن راشد بن سعيّد
اتفقَ لي أنْ زرتُ المزاحميّة، وبيني وبين أهلها مودّة حميمية، ولما دلفتُ إلى سوقِها، وقد آذنت الشمسُ بشروقِها، استقبلني رجلٌ لوذعي، بدا لي أنه فضوليٌ وألمعي، وأخذ يُعرِّفني بالسوق وتجارِّها، ويروي لي طرفاً من أخبارِها، لكنه أفاض في الشرحْ، حتى كاد أن يمسّنيَ القرحْ، ثم قال: من أين الرجل؟
قلتُ: من الحلوة..
قال: سبحان الله..من تلك الديرة الحلوة؟ لها والله من اسمها نصيبْ، كم لي فيها من صديقٍ وحبيبْ، ما رأيك أن أجمعَك بواحدٍ من أهلِها، طالما شدَّه الحنينُ إلى ظلِّها، ورتَعَ في نجدِها وسهلِها،
قلتُ: لا بأس، وركبتُ معه على دابتِه،
ثم قال: ترى هذه الدابَّة؟ اشتريتُها قبل عامين بالتقسيطْ، فلله ذاك البائعُ من عبيطْ، وهي الآن تعدلُ سعرَها جديدة، فسبحان من رزقني وكنتُ على الحديدة، تأملْ يا سيدي مشهدَها، وتحسسْ بأناملك مِقودَها، وبدِّلْ ناقلَ حركتِها، فهو والله سرُّ بركتِها، وافتحْ بهدوءٍ سقفَها، وانظرْ أمامَها وخلفَها، سترى والله ما يُثلجُ الصدرْ، فلا يُوجدُ مثلُها إلا في الندْرْ، هل تعلمُ أنك لو سُقتَها في طريقٍ حُرَّة، متّقياً ذلك الساهرَ وشرَّه، والمطبّاتِ التي تأخذُك على حين غِرَّة، لاستمتعتَ بهذه الجزيرة، كما استمتع أهلُ طنجة بالحريرة، وأهل صقلّية بالفطيرة، والإنسانُ على نفسه بصيرة، ومن سعادة المرء أن يُرزقَ دابةً ينجذبُ إليها، ويرتاحُ إذا استوى عليها، فيردِّدُ وهو بها مفتونْ، «إنّا إلى ربنا لمنقلبونْ»، بل ربما أشعرتْك الدابةُ بالفحولة، وأثارتْ في أعماقك الإحساسَ بالبطولة، ثم إنها ميمونةُ الناصية، مهديةٌ وهادية، مطيعةٌ لا عاصية، جرَّبها أخي بنفسِه، وأقلَّ فيها زوجتَه ليلة عُرسِه، ومن بعدها أدمنا الكسلْ، وغاصا في العسلْ.
قال سهم بن كنانة: وصدَّعني بصفات دابته، ولم يقطعْ ذلك إلا مطبٌ اصطناعي، كان ضرباً من العقاب الجماعي، حيث سقطتْ عمامتي، وكادتْ أن تَنْدَّقَ هامتي، وعندها قهقه الرجلُ ساخراً وقال: إنها رياضة، وإن كانت لا تخلو من فظاظة، لا تفاجئني هذه المطباتُ قطْ، وإن كان تصميمُها عينَ الغلطْ، سألتُه: أين صاحبُك؟
قال: قريبٌ من قريبْ، وإنَّ أمرَه يا سيدي لعجيبْ، ليتك تَعلمُ قصتَّه، حتى تأمنَ الدهرَ وغُصَّتَه، لقد آتاه الله المهابة، وجعله واحدَ دهره في الخطابة، طالما سلَّ على العامية حُسامَه، ورفعَ على هامة الفصحى أعلامَه، وأماط عن اللحن في الإعراب لثامَه، ولم يبقَ إلا أن ينشرَ إعلامَه، ويُنتجَ أفلامَه، وهو بفضل الله على الصراط المسجدي، والطريق المحمدي، ذو كفٍّ ندي، وينتمي إلى مَحتِدي، وقد ربيتُه على يدي، وأعُدُّه كولدي، يُحبُّ الأدبْ، ويُطوقُك بمواهبه من كل حَدَبْ، وأكثرُ ما يُجيدُه النقدْ، من غير تحاملٍ ولا حقدْ،
قلتُ: فكم بقيَ على لقائه، ومتى سننيخُ راحلتنا بفِنَائه؟
قال: القليل.. القليلْ، حسبنا الله ونعم الوكيلْ، وعلم الله أني أحِبُّ مجلسَه، لولا ما يُصيبُه أحياناً من الوسوسة، وأهوى تغنّيه بالقصيدْ، وهو باسطٌ ذراعيه بالوصيدْ، وتعجبُني فيه روحُ الدُّعابة، لولا ما في طبعه من الغرابة، قلتُ: كم بقي من الوقتْ، فإن التأخرَّ منذرٌ بالمقتْ،
قال: دقائقُ معدودة، وفراسخُ محدودة، ثم إن الرجلَ بارعٌ في السياسة، مشهورٌ بالكياسة، جامعٌ بين اللطف والشراسة، بيد أنَّ قلةً من الناس تفهمُ إحساسه، كأنه بين الخلق ماسة، طيَّبَ الله أنفاسَه، وزبرق أعراسَه، لطالما قبَّلتُ راسَه، مع أنه يزعلُ لو أحدٌ باسه،
قلت: يبدو أنه بقي الكثير؟
قال: لا لا..ولكن لا بد من هذا التعريفْ، قبل أن أجمعك بذلك الظريفْ، قلت: أخبرني إذن باسمِه، لا حرمك الله من رسمِه،
قال: تبَّاً للشيطانْ، وسُحقاً للنسيانْ، كيف لم أخبرْك باسمِه، زاده الله بسطةً في جسمِه، وجعل قَسْمي أفضلَ من قَسْمِه، إنه العزّازُ أبو نصرْ، رجلٌ أدمنَ الجمعَ والقصرْ، لكثرة ما يُقطِّع أيامَه بالأسفارْ، وما يذرعُ من مهامِهَ وقفارْ، لو رأيتَه يا سيدي لعرفتَ كم هو فَهيمْ، ولصرتَ بمورده تَهيمْ، ولشربتَ منه شُرب الهيمْ.
قال سهم بن كنانة: وازداد ضيقي، وأحسستُ بجفاف ريقي، فقلت للرجل: أين نحن الآن؟
قال: ها قد دخلنا محلّتَه، وهي أشرفُ محالِّ المزاحمية، وأطيبُها هواء، وأعذبُها ماء، وأسرعُها نماء، لا يعرفُها الذبابْ، وليس فيها عُزّابْ، ولم تُصبْها آفةُ الإرهابْ، لا تَسْكنُها الهوامْ، ولا يَقرَبُها العوامْ، غير أنها كثيرةُ القططْ، تلك هي مشكلتُها فقطْ، ليتك تراها في شهر شباطْ، وهي في شوقٍ واغتباطْ، تحت العرباتِ وفوق السطوحْ، كلٌّ بمشاعره يبوحْ، لكن الأمرَ أكثرُ من مُواءْ، والعشقُ كما علمتَ داءٌ ودواءْ، وكنتُ ولا أزال أعجبُ من الإناث الصارخاتْ، لماذا لا يهربْن إنْ كنَّ صادقاتْ، أم يتمنَّعنَ وهنَّ الراغباتْ، وقهقه طويلاً حتى خشيتُ أن تَعظُمَ بليّتُه، وتعثرَ مطيّتُه،
قلت: لم أحسبْ حسابَ القططْ، فأقلعْ عن هذا الشططْ،
قال: هَبْكَ الآن في عُطلة، واستمتعْ بالتنزّه في هذه المحلة، ألا يروقك نخيلُها وتمرُها، تخيّلْ لو كانت عروساً كم سيصبحُ مهرُها، وقديماً قال أبو فراسْ، وكان من أشعر الناسْ: «ومنْ يخطب الحسناءَ لم يُغْلِها المهرُ»، ولعلك تذكرُ الجاريةَ اعتمادْ، التي فُتِنَ بها ابنُ عبّادْ، ووقع على جلالته في أسرِها، فأمهرها إشبيلية بأسرِها، أرجعِ البصرَ كرّتينْ، سَلِمتَ من السحر والعينْ، قلْ لي بربك كم تستحقُّ من الصَّداقْ، لقاءَ ما فيها من نبعٍ دفَّاقْ، وإحساسٍ راقْ، وتمرٍ حلو المذاقْ، قدِّرْه على سبيل التخمينْ، إنْ لم تعرفْه على وجه اليقينْ، استروحْ عبقَها وظلَّها، هل رأيتَ بالله مثلَها،
قلت: فأين الرجل؟
قال: إنه في الطرف الشمالي من المحلّة، ولا ريب أنه الآن يجني الغلّة، وبعدها سيُبَهِّر الدلّة، وأبشرْ فأمتُنا ستبرأ من العلّة، وستنفضُ عنها الذلّة، وغداً تقومُ لنا دولة، على ثرى فلسطين المحتلة، وينتصر الربيع العربي، ويحتفل الشامي والحلبي، بقوة الله ثم بنصرتك، وليت الناسَ كلَّهم مثلُ حضرتك، والشمالُ في الغالب سُكنى الأغنياءْ، ومهوى الأصفياءْ، ماؤُه نميرْ، وأرضُه عبيرْ، وجوُّه رومانسيٌ مثيرْ، بخلاف الجنوبْ، الذي يكسوه الشُّحوبْ، وتجفوه القلوبْ، وتنتشرُ بين أهله الخرافة، حتى رفعوا شعار «العلمُ آفة».
قال سهم بن كنانة: وطمَّ عليَّ الأمرُ، فصحتُ بالرجل: ها قد دخل وقتُ العصرْ، فمتى نرى أبا نصرْ،
قال: الصبر يابن كنانة الصبرْ، ستراه الساعة، لكن لا تَغُرنَّكَ فصاحةُ لسانِه، ولا حلاوةُ بيانِه، فربما غلبتْه السَّجْعة، فأبعدَ بسببها النُّجْعة، وضلَّ طريقَ الرجْعة، استأنسْ بأفكاره، واقرأ ما بين أسطاره، والحمدُ لله إذ كلامُه في العادة قصيرْ، فارشفْه رشفَ العصيرْ، واطوِه طيَّ الحصيرْ، وهكذا الاستماعُ يصيرْ، وإلى الله المصيرْ، وما للظالمين من نصيرْ، ولا تَسَلْ يا سهمُ عن كتابته، كأنما السحرُ ينبُعُ من راحته، غير أني أجتهدُ في تنقيح إنتاجِه، كما يجتهدُ الحكيمُ في طبِّه وعلاجِه، كم مرةً طعّمتُه بالدليلْ، وبهّرتُه بالتأويلْ، وبعثتُ فيه من نَفَسي العليلْ، ونشرتُ عليه ظلّي الظليلْ، فإذا أعجبك بيانُه، أو داعبَ شغافَك بنانُه، واستهواك بحرُ طباقِه، وجذبك جذباً إلى أعماقِه، فاستشعرْ إحساسي، واستروحْ أنفاسي، فربما بزَّ المراجعُ المؤلفْ، وعزَّ المترجمُ المُصنِّفْ.
قال سهم بن كنانة: وطاشتْ نفسي وقلت: كيف سيكونُ أبو نصرْ، إلا كتلةً من هَذْرْ، وكومةً من بَعْرْ، فربما غَلَبَ المُريدْ، فصار كالشيطان المَرِيدْ، وأقسمتُ ألا أراه، ولو جفّت في عروقيَ الحياة، فاحتلتُ على الرجل وطلبت منه إيقاف الدابة لأقضيَ حاجةً لي،
فقال: أعرفُ مكاناً لقضاء الحاجة، فدع عنك هذه اللجاجة، فأقسمتُ عليه أن يقف، فقال: إن أبا نصر على مرمى حجرْ، فعلامَ التبرّمُ والضَّجَرْ، فلم أردّ عليه، وأيقنتُ أن الخيبة في القرارْ، والنجاةَ في الفرارْ، فانطلقتُ مسرعاً كالبرقْ، أو لمح البصر ولا فرقْ، فتبعني الرجل وهو يصيح: أبو نصر..أبو نصر..وسمعه بعضُ الصبية فصاحوا صياحَه، وعثرتُ في طريقي من الهلعْ، فأصابَ ساقي بعضُ الضَّلَعْ، فلا والله العظيمُ شانُه، القويُّ سلطانُه، ما همَّني أمرُ الساقْ، ولا نُباحُ ذلك الأفاقْ، وطفقتُ أردّد والدنيا لا تَسَعُني: نجوتُ وربِّ الكعبة، نجوتُ وربِّ الكعبة!
• @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق