الخميس، 31 ديسمبر 2015

لحم سني للبيع... لحم طازج

لحم سني للبيع... لحم طازج


طارق أوشن

قبل أسبوعين، أعلنت المملكة العربية السعودية عن تشكيل "تحالف إسلامي ضد الإرهاب" مكون من أربع وثلاثين دولة تفاوت رد فعلها بين الترحيب أو إبداء الاستغراب لضمها للتحالف دون استشارة مسبقة أو السكوت علامة "رضا" حتى يثبت العكس.
نصف دول التحالف الإسلامي ضد الإرهاب عربية وهي مع الدول الإسلامية الأخرى توصف بكونها دولا سنية بغالبية ساكنتها.
الهدف حسب ولي ولي عهد بلد الحرمين الشريفين التصدي "لأي منظمة إرهابية تظهر أمامنا ... انطلاقا من تعاليم الشريعة الإسلامية السمحاء وأحكامها التي تحرم الإرهاب".
بعدها بأيام أعلن وزير خارجية المملكة من باريس أنه "لا شيء مستبعد" بخصوص إرسال قوات برية للتحالف الجديد على الأرض. يأتي هذا في الوقت الذي تكفل فيها الأردن السني بإعداد لائحة المنظمات الإرهابية في سوريا، وشملت مائة وستين منظمة "تعكس وجهة نظر الدول الإقليمية" حسب وزير الخارجية الأردني.
الوثيقة الأردنية وإن ضمت عددا من المنظمات الشيعية اندفعت الجمهورية الإسلامية بإيران إلى الدفاع عنها، فإن غالبية ما حملته من أسماء تبقى تنظيمات سنية لا مدافع عنها.
وفي الإطار ظهر وزير الدفاع الأمريكي ليعلن أن تشكيل التحالف "يتماشى بشكل عام مع ما نحث عليه منذ فترة، وهو اضطلاع الدول العربية السنية بدور أكبر في حملة محاربة داعش"، فالرئيس باراك أوباما سبق وأن طالب بضرورة تشكيل قوة عربية مشتركة تحارب على الأرض بينما توجه القوى الغربية ضرباتها جوا، وهذا بيت القصيد.

قبل أسابيع قليلة ظهر مقطع صادم لمواطن سوري من بلدة جسرين بغوطة دمشق الشرقية وهو يحمل طبقا كبيرا فيه أشلاء مدنيين تقطعت أجسادهم واحترقت بسبب قصف جوي شنه الطيران الروسي، اللاعب الجديد في الحرب، وهو يصرخ: "لحم سوري للبيع... لحم طازج".
لم يثر الفيديو إنسانية المجتمع الدولي، إذ لم يكن فيه من مقومات اللوحة الفنية التي جسدها جسد الطفل إيلان وهو يتوسد الرمال ويتخذ من مياه البحر لحافا بعد غرق القارب الذي كان يقله وعدد من الهاربين من جحيم الحرب السورية قبل أشهر.
 يومها تذكر كثيرون كيف أن صورة الطفل الفلسطيني أحمد الدوابشة بجسده المجبص من أخمص رجليه حتى رأسه، بعد أن أحرق           المستوطنون بيت عائلته وقتلوا أفرادها، لم تحرك الضمير الغربي الذي "بكى" الطفل إيلان، ولا حركته صور أبو عزرائيل، من ميليشيا الحشد الشعبي بالعراق، وهو يقطع لحم أسير تم شيُه حيا على نار حقد طائفي مستعر. اللحم الشرق أوسطي صار أرخص من أن يهتم به الغرب وثمنه في مزادات السياسة العالمية سيزداد انحدارا مع توالي الشهور المقبلة لا ريب. تشكيل التحالف الإسلامي "السني" ورد فعل أبي بكر البغدادي المتوعد،  يشير إلى أن عنوان المرحلة القادمة في المنطقة: لحم سني للبيع... وبالبند العريض.

زعيم القبيلة المنغولية الحكيم "أبا" والطالب الشاب "شين زين" القادم من بيكين، يراقبان عبر منظارين تجمعا للغزلان في البراري المنغولية وغير بعيد منه عدد من الذئاب تراقب التجمع ذاته.

الحكيم أبا: أقلت أنك تريد دراسة الذئاب؟ أنظر! ماذا تعتقدهم يفعلون؟

الطالب شين: لا أعرف! ماذا ينتظرون؟

الحكيم أبا: إنهم ينتظرون هذه اللحظة منذ أشهر عديدة. الرغبة في القتل تعذبهم، لكنهم لن يضيعوا هذه الفرصة بالتسرع في الهجوم. في اعتقادك، كيف هزم جينكيزخان جيوش العالم التي واجهها ولم يكن معه غير حفنة من المقاتلين؟ لقد تعلم فن الحرب من مراقبة الذئاب. الذئاب حيوانات ذكية ومنظمة، يشكلون جسدا واحدا ويمتثلون لقرارات الزعيم. والأهم أنهم يمتلكون قدرة غير محدودة على الصبر.
 السر في اختيار التوقيت المناسب، والذئاب والمغول فهموا هذا الأمر جيدا... أرأيت؟ لقد أكلت الغزلان كثيرا وهو ما سيثقل حركتها. هذا ما كانت الذئاب تنتظره بالضبط.

لم يخطئ الحكيم "أبا"، فقد انطلقت مطاردة الذئاب للغزلان المثقلة بالتخمة والنتيجة نعرفها بعد أسطر...

كان هذا مشهدا بالغ الدلالة من فيلم "الذئب الأخير" المنتج في العام 2015 لمخرجه الفرنسي جان جاك آنو.
يحكي الفيلم قصة الشاب الصيني "شين زين" الذي كلف ككثير من شباب المدينة في العام 1969 بالتوجه إلى المناطق الريفية النائية لتعليم سكانها فاختار منغوليا. لكن "شين زين" اكتشف أنه من يحتاج لتعلم ما تختزنه المنطقة من مقومات المجتمع المتآلف والحرية والمسؤولية وأيضا الذئاب. جان جاك آنو خبير في التعامل سينمائيا مع الحيوانات كما أظهرها سابقا في فيلمه الرائع "الأخوين" المنتج سنة 2004، ويحكي، للتذكير، قصة نمرين صغيرين في العام 1920، حين صار اهتمام الغرب منصبا على فن الشرق الأدنى، تم أسرهما والتفريق بينهما فبيع أحدهما لسيرك وآخر لأمير إلى أن تواجها صدفة في حلبة نزال ليتعرفا على بعضهما ويقررا الهرب معا من مالكيهما.

في كتاب "فن الحرب" للمؤلف الصيني سان تزو، وهو أطروحة عسكرية صينية كتبت في القرن السادس قبل الميلاد وترجمت إلى ثلاثين لغة عالمية ألهمت خلالها الكثير من القادة العسكريين "العظام"، مقولة مفادها: "عليك أن تبدو ضعيفا عندما تكون قويا، وعليك أن تبدو قويا عندما تكون ضعيفا". مناسبة استحضار القول هو هذا الهوان الذي تظهره الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها القوات العسكرية الغربية، في مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" وفي مواجهة التدخل الروسي وقبله همجية النظام السوري الذي وضعت له من الخطوط الحمراء ما شاء دون التقيد بالرد عليها.
وفي الوقت ذاته، أظهرت القوة العظمى الأكبر في العالم كثيرا من المرونة لصالح إيران في مفاوضات برنامجها النووي دون أدنى اهتمام أو اعتبار لمصالح حلفائها السنة في المنطقة، الذين وجدوا أنفسهم مدفوعين للبحث عن الحلول العسكرية منها قبل السياسية للدفاع عن النفس وإظهار القدرة على التحول من منطق الفرجة والاستكانة والاعتماد على "الكفيل" الأمريكي إلى مرحلة الفعل المباشر في الميدان.
ولعل في هذا التوجه الأمريكي "المتخاذل" ما يدفع لطرح السؤال عن أهدافه المرحلية والاستراتيجية بما ينطوي عليه من كلفة مادية تنهب مقدرات دول المنطقة وكلفة إنسانية تعدادا للضحايا والمعطوبين، دون إغفال ما سيزرعه الصراع المباشر "الطائفي" من جراح لن تزيد ما سبق للتاريخ الإسلامي أن خطه بين فرقاء المذاهب منذ مئات السنين إلا تعميقا للفرقة والعداء.

في منطقة الشرق الأوسط اليوم ثلاثة تحالفات أنشئت في ظرف لا يتجاوز السنة والنصف بدأت بتحالف دولي موجه ضد تنظيم "الدولة" ويضم أكثر من ستين دولة، تلاه التحالف العربي لمواجهة التمدد الحوثي باليمن وبعده التحالف الإسلامي لمواجهة الإرهاب في العالم مع ضرورة الإشارة إلى تحالف غير معلن لكنه الأكثر فعالية على الأرض يضم روسيا وسوريا والعراق وإيران. وإذا كانت أهداف التحالفين الأولين والرابع "محددة وواضحة" فإن الثالث يبقى مبهما لا نرى له من تفعيل، مع بداية الحديث عن حل سياسي وشيك بسوريا وحكومة معترف بها في ليبيا ومفاوضات للحل باليمن تعقد كلها بدول غربية، إلا بمواجهة سنية سنية كما تطالب بها الولايات المتحدة الأمريكية وينذر بها زعيم تنظيم "الدولة" وتؤكدها لائحة المنظمات الإرهابية المنسقة أردنيا، علما أن هناك 53 ميليشيا مسلحة تنتشر في العراق و300 بليبيا وما يقارب الألف تنظيما وجماعة بسوريا دون إغفال ما تختزنه "ولاية سيناء" وكثير من المناطق المتفرقة بربوع وطن عربي ممزق حسب إحصائيات معتمدة.

هنا تحضرنا واحدة من أشهر مقولات سان تزو: "إن كنت تعلم قدراتك وقدرات خصمك، فما عليك أن تخشى من نتائج مئة معركة. وإن كنت تعرف قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فلسوف تعاني من هزيمة ما بعد كل نصر مُكتسب. أما إن كنت تجهل قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك.. فالهزيمة المؤكدة هي حليفك في كل معركة". وفي ظل تأخر نتائج الحرب باليمن، والنزوع الدولي لاستنزاف المقدرات السنية بالمنطقة، ومحاولات استدراج تركيا إلى المستنقع كخصم مستهدف لا كحليف في المواجهة، وحاجة المملكة العربية السعودية لثورة فكرية حقيقية في نسيجها المجتمعي والديني الداخلي للقدرة على التصدي الفاعل ضد الإرهاب، فإن النتائج في حال التفعيل الميداني للتحالف الإسلامي بشكله الحالي لن تكون إلا كارثية.

في فيلم "الذئب الأخير" وبعد انطلاق مطاردة الذئاب للغزلان في المشهد الذي فصلنا فيه أعلاه، استغرب الطالب الشاب كيف أن الحكيم "أبا" فضل الانسحاب من ميدان المعركة بدل الفرجة على المطاردة المثيرة. لكن الحكيم طمأنه أنه سيعرف مآل الغزلان في الغد بعد أن تنهي الذئاب غزوتها، وكذلك كان..

لم تختر الذئاب الاكتفاء باصطياد بعض من فرائسها بل دفعت بالغزلان جميعها إلى بحيرة متجمدة تعلم بمكان وجودها فانتهى المطاف بالقطيع كله هالكا بما يشكله من زاد للشتاء تقتات منه الذئاب والقبيلة، على حد سواء، دون إضرار بحصص بعضهم بعضا في اتفاق ضمني يقي القبيلة من إغارة الذئاب على مواشيها.

الطالب شين (بعد اكتشافه ما حل بالغزلان): هذه الغزلان مسكينة. الذئاب حيوانات مفترسة بلا رحمة.

الحكيم أبا: لا ليس الأمر كذلك. الغزلان من يدمر التوازن الطبيعي باستهلاكها الغطاء النباتي الذي يعتبر الثروة الحقيقية والحياة الكبرى في المروج. البقية مجرد حيوات صغرى مرتبطة بالحياة الكبرى.

الطالب شين: إذا كان الأمر كذلك فلم تسعون للحفاظ على الغزلان؟
الحكيم أبا: لابد لنا من الحفاظ عليها لتجد الذئاب ما تقتات عليه السنة المقبلة وإلا فخرفاننا ستصبح هدفا لها.

لم يتأخر رد الذئاب كثيرا بعد أن استولى وافدون على المنطقة من غير سكانها الأصليين على "مخزن الغزلان" الذي تقتات منه.
والضحية فصيلة نادرة من الخيول الأصيلة عهد إلى قبيلة "أبا" بتربيتها.
هجوم شرس على الخيول ودفع بها في اتجاه البحيرة نفسها كعادة الذئاب، والنتيجة هلاك القطيع وانتقام غير منتظر من تجبر أهل العاصمة بيكين.
ولأن الأنظمة الاستبدادية لا تعرف غير الرد بوحشية فقد أطلقت السلطات المركزية حملة شاملة لاصطياد الذئاب البرية وقتلها واحدا واحدا بإرشاد من الطالب "شين زين" الذي حول معرفته المكتسبة لمصلحة القتلة ولو استدعى الأمر حرق المروج.

وفي الوقت الذي ظن فيه مبعوثو الاستبداد أن مهمتهم اكتملت أطلقت زوجة ابن "أبا" ذئبا صغيرا، كان يربيه "شين زين" في إطار سعيه لدراسة الذئاب، في الطبيعة واعتبرته هدية لـ"تينغر" الإله.
كان ذاك الذئب الأخير الذي تعهده "شين زين" بالرعاية والتدريب ولقنه كيف يتفادى العوائق الطبيعية وأسلحة الصيادين، ليبدأ من جديد رحلة الكر والفر مع القبائل في انتظار مستبد يخرجه من دائرة التوافق إلى المواجهة المباشرة التي ستكون هذه المرة أشرس وأقوى في غياب "الحكماء".

الحكيم "أبا"، قبل وفاته، وبجانبه الطالب "شين زين" على ظهر جواديهما.

الحكيم أبا: مأساتنا نحن المغول أننا لم نكتب تاريخنا. لقد كتبه أعداؤنا. بما أنك تتحدث الصينية فعليك كتابة تاريخنا الحقيقي يوما ما.

الطالب شين: أنا أعرف قراءة الكتب لا تأليفها. ليس الأمر سيان.

الحكيم أبا: كيف عرفت ذلك؟ هل سبق لك أن جربت الأمر؟

الشاعر العراقي مظفر النواب جرب الأمر وكتب في قصيدته 
"القدس عروس عروبتكم":
سنصبح نحن يهود التاريخ
ونعوي في الصحراء بلا مأوى..
وأترك لكم حرية استكمال القصيدة من مصدرها لعلكم تعرفون من تكون الذئاب والغزلان والخيول وبقية شخصيات المقال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق