الأرمن
أ. د. عبدالحليم عويس
كان طبيعيًّا أن يتحرك السلطان عبدالحميد؛ لإسكان الفتن التي يؤجِّجها أعداء الدولة في الداخل، مدعومين بالقوى الأجنبية في الخارج، خاصة عصابات الأرمن المدعومة من قبل اليونان المهزومين أمام الجيش العثماني سنة 315 - 1897م، يُظاهرهم اليهود - الذين فشِلوا في الحصول على الامتيازات المطلوبة في أرض فلسطين - والروم الحاقدون، وأنصار الاتحاد والترقي، وكان أن اتَّفقت عصابات الأرمن في سويسرا مع إرهابي محترف بلجيكي هو "يوريس" الذم قدِم إلى إستانبول بصفة سائح، وتمكَّن من وضع قنبلة في سيارة السلطان عند مسجد "يلدذ" الذي كان السلطان يصلي فيه الجمعة، وقد لطف الله بالسلطان عبدالحميد، فتأخَّر في الخروج دقيقتين؛ لأنه كان يُحادث شيخ الإسلام جمال الدين، فانفجَرت السيارة وهو على سُلَّم المسجد، ونجا السلطان (د/ أحمد أكندز؛ الدولة العثمانية المجهولة، ص: 446، 447، بتصرُّف، طبع تركيا).
عاش الأرمن في الدولة العثمانية - كما عاش غيرهم من الأقليات الدينية - عيشة كريمة؛ وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية مع أهل الذمة، وفي حكومة الاتحاد والترقي، تساوَى الأرمن وغيرهم مع كثير من المحاباة الماكرة في كافة الحقوق السياسية؛ لدرجة أن "جبريال نورادونكيان" الأرمني، قُلِّد وزيرًا للخارجية في الدولة العثمانية.
وقد تنكَّر الأرمن لهذا كله، وبدؤوا بالعصيان استنادًا إلى المادة (61) من معاهدة برلين، وبتحريض من روسيا، فتم تشكيل عصابات جمعية (خنجاق) سنة (1886م)، وجمعية (الطاشناق)، وأخذتا تُمارسان الإرهاب في الديار العثمانية.
وفي الحرب العالمية الأولى استغل الأرمن الفرصة، وأظهروا حقدهم وخُبثهم، فحين سلَّمهم الروس مدينة "وان" أشاعوا فيها القتل والتدمير.
والجدير بالذكر أن عدد الأرمن في تلك الفترة لم يكن يجاوز 5 % من عدد السكان، ولم تُفلح كل التدابير لوقف خياناتهم وفسادهم، ولم يكن من الممكن القضاء عليهم جميعًا؛ لأن الإسلام يحرِّم ذلك، فكان لا بد من تدبير حكيمٍ؛ يُطابق عدل الإسلام، ويمنع اتصالهم بالروس المعتدين، فصدر قرار وزير الداخلية "طلعت بك" في عام 1915م، بتهجير نصف مليون منهم، وقد مات عدد منهم أثناء التهجير لظروف المناخ والطريق، ولانتقام بعض الأهالي منهم، فقد كان مجموع من قتَله الأرمن من المسلمين يربو على مليون ونصف مليون مسلم.
إن الدولة العثمانية كانت تلتزم بأحكام الإسلام، وأحكام الإسلام معلومة بالنسبة لأهل الذمة، ما داموا ملتزمين بعقد الذمة، ولم يحالفوا أعداء الإسلام ضد المسلمين؛ ولأن الأرمن كانوا خونة، ساعدوا كل أعداء الدولة العثمانية، فقد تم تهجيرهم كما أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بني النضير وبني قينقاع من المدينة، حين خانوا - وهم مواطنون ذميُّون - صحيفة المدينة (الدستور)؛ (د/ أحمد أكندز؛ الدولة العثمانية المجهولة، ص: 471، 472، بتصرف).
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى (1914- 1919م)، كان رجال الأرمن يَذبحون أطفال المسلمين في المناطق التي يستولون عليها، وكان المسلمون - كردِّ فعلٍ - يذبحون أطفال الأرمن في المناطق التي يسيطرون عليها.
شاهد عيان: بديع الزمان سعيد النورسي:
ولكن بديع الزمان (سعيد النورسي) رفَض هذا الفعل المنافي للإسلام، عندما كان شاهد عيان يعمل في الجيش، وحدث أنه تَمَّ تجميع ألوف من أطفال الأرمن في المنطقة التي يسيطر عليها النورسي، فأمر بإطلاق سراحهم جميعًا، ثم عادوا إلى عوائلهم التي كانت بعيدة عنهم، خلف الخطوط الروسية؛ مما كان له أكبر الأثر في امتناع الأرمن عن قتْل أطفال المسلمين، وتعاهد الفريقان على ذلك.
وحين استولى الروس على مناطق "وان" و"موش"، وواصلوا هجومهم على "بتليس" - رفض "بديع الزمان" الانسحاب من "بتليس"، مع أن الوالي "ممدوح بك" والقائد"كل علي"، هما اللذان طلبا ذلك؛ نظرًا لقوة المهاجمين، وقلة عدد المدافعين من القوات النظامية والمتطوعة.
لكن النورسي رفض الانسحاب وقال لهما: إن هذا الفعل سيجعل الأهالي الذين التجؤوا إلى "بتليس" من المناطق الأخرى، وأهالي "بتليس" نفسها - تحت رحمة المهاجمين، ومن ثم فلا بد من الثبات والدفاع عن "بتليس" وما بها حتى الموت!
هنالك قال له الوالي والقائد: إن هناك ثلاثين مدفعًا في "موش" التي كانت قد سقطت قبل ذلك، فإن استطاع - النورسيّ - أن يأتي بهذه المدافع إلى "بتليس"، فيمكن حينئذ الدفاع عنها، وإعطاء الفرصة للأهالي؛ كي ينتقلوا إلى مكان آخر آمنٍ، وعلى الفور توجه "النورسيّ" هو وثلاثمائة من المطوعين ووصلوا إلى "نورشين" ليلاً؛ حيث سحب الأعداء المدافع إليها، واستطاع بديع الزمان ورجاله أن يشيعوا أنه قد أتى ومعه ثلاثة آلاف مقاتل إلى نورشين، فقذف الله الرعب في قلوب الجنود الذين كانوا يتوَّلون حراسة تلك المدافع، واستطاع هو ومن معه من المتطوعة أن يذهبوا بالثلاثين مدفعًا إلى "بتليس"؛ مما كان له أكبر الأثر في صمودها أمام هجوم الأعداء، وتمكَّن الأهالي من الجلاء عنها إلى أماكنَ آمنة.
وقد كان (بديع الزمان) لا يلتجأ إلى الخنادق ليحتمي بها، وكان دائم الحركة في الخطوط الأولى؛ لبثِّ الشجاعة في صفوف المقاتلين، غير أنه - ذات مرة - خطر له أن ذلك الموقف منه ربما خالطه رغبته في حب الظهور ومخالفة الإخلاص، فعاد سريعًا إلى الخنادق مع جنوده.
وبعد ثماني سنين من ترْك "بديع الزمان" لبلدته "وان"، عاد إليها، وكان أول شيء فعله أن ذهب إلى مدرسته "خورخور"، فوجدها قد تهدَّمت، ووجد القلعة الحصينة العتيقة، والتي تقع المدرسة أسفلها، قد تهدَّمت هي الأخرى، لقد كانت تلك القلعة كتلة من صخرة صَلدة، صعد (النورسيّ) إليها واعتلاها؛ ليرى الأرمن قد هدموا كل شيء فيها؛ البيوت والمدرسة، والجامع، وكل شيء، ولم يبقَ غير حي الأرمن، الذين عاثوا في البلدة كلها فسادًا أثناء الاحتلال الروسي لها، لقد هدموا المباني، وقتلوا الناس، وأخذ (النورسيّ) يستعرض في خياله كل تلامذته الذين استُشهِدوا إبَّان تلك الهجمة الشرسة.
أحسَّ النورسي بحزن شديد يتملَّكه من فراق كل هؤلاء الأحبَّة، واستشعر ما سجله الشعراء والأُدباء عن الفراق، وأحس بأن الموت خيرٌ من هذه الحياة، وكان في حاجة إلى من يُثبته، فقَفز إلى ذهنه أن الله هو المحيي المميت، وكل شيء عنده بمقدار، وأن هؤلاء الذين ماتوا ربما كان موتهم خيرًا لهم؛ إذ صاروا شهداءَ، ونجوا من نار الفتن، فعادت إليه سكينة الإيمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق