منذ بدء الغزو السوفياتي لأفغانستان (في ديسمبر/كانون الأول 1979)، وهذا البلد تحت جحيم دام، أهلك الحرث والنسل وأتى على البنية التحتية، ولم تقف لعبة الأمم فيه وعلى حسابه عند حدود. وقد شارك في هذه المأساة الغزاة الأصليون وجذورهم وفروعهم، والداعمون الغربيون، بمشاركة دول إسلامية، وبعض قادة الجهاد الأفغاني الذين فرّطوا في فرصة استثمار النصر وتحويله إلى فوز سياسي لميلاد الدولة الحديثة بهويتها الإسلامية واستقلالها الوطني، فأشعلوا حربا أهلية بدلا من إنقاذ سياسي. وسدّدت أفغانستان -ولا تزال- فاتورة مُرّة، من لعبة توظيف الشباب العربي، التي جاءت عفوية ابتداء لدى بعض الشباب لدوافع دعم وتضامن إسلامي ووجداني طبيعية أخطأت الوسيلة، ثم سُيّست وتدخلت فيها لعبة الأمم. وهذا صُدّرت فيه اتهامات متبادلة وتصريحات بين واشنطن ودول إسلامية لسنا في صدد تفنيدها اليوم، فقد باتت قضية معلومة، ولو كان البعض يبالغ فيها ويحملها ما لا تحتمل من نظرية المؤامرة.
لقد كان خطأ العالم الإسلامي كبيرا للغاية، فمع مشاركة دول منه في الغزو الأميركي الظالم على أفغانستان، تُرك هذا البلد قبل الغزو وبعده، وخضعت الأمة لشيطنة طالبان غربيا، وهو ما انتهى لتعقيد واقع الشعب الأفغاني
وقد أخطأ الملا عمر حين رفض توصية مجلس شورى الإمارة الإسلامية لطالبان بإخراج أسامة بن لادن وقيادات كبيرة في القاعدة -بعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول- إلى مأمن خارج الدولة، حتى لا تُستهدف أفغانستان بحرب شرسة تهلك الحرث والنسل.
وهو خطأ جلي، وإن لم يؤثّر على رمزية مقاومته التاريخية للغزو الأميركي، ولكنها إحدى مشاكل صناعة الحكم السياسي في الثقافة الإسلامية التي لم تعِ مقاصد الشريعة وموقفها من أن الشورى معلمة وليست ملزمة في أمر جلل كهذا الأمر.
غير أن ذلك لا يُلغي جموح الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، ونوايا الحرب المُبيّتة لديه التي كانت تتجه للغزو، لكن موقف المخابرات العسكرية الباكستانية في حينه، كان يسعى جاهدا مع طالبان لتحييد الغزو الأميركي، أو تحويله إلى هجوم محدود عبر صفقة إخراج أسامة بن لادن، حتى لا تُسدد أفغانستان فواتير الحُمق القاعدي.
والغريب أن هذا الموقف في رفض تحميل طالبان تبعات صراع مركزي شرس، كان موقف الزرقاوي قبل انضمامه للقاعدة، وعموما فملفات المراجعات الفكرية والسياسية، لقادة القاعدة وتغير أسامة بن لادن بعد الربيع العربي، لم يُحلّل ولم يُقرأ كما ينبغي، في حين وُلدت داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في أقصى الفكرة اليمينية في القاعدة، ثم توحشت لأسباب ذكرناها في مقالات سابقة.
لقد كان خطأ العالم الإسلامي كبيرا للغاية، فمع مشاركة دول منه في الغزو الأميركي الظالم على أفغانستان، تُرك هذا البلد قبل الغزو وبعده، وخضعت الأمة لشيطنة طالبان غربيا، وهو ما انتهى لتعقيد واقع الشعب الأفغاني.
وتحول الغلو المسلح إلى قاعدة انشطارية ضربت في مناطق العالم، دون فقه الجهاد الشرعي وسلوك المقاومة المأمور به شرعا، بل استُخدمت جماعات الغلو لإفساد جهاد الدفع على الدول والشعوب المنكوبة، وبطشت بمقاوماتها، كما جرى في العراق وسوريا، وفي الشيشان وفي ليبيا وفي أفغانستان، بنسب مختلفة.
هناك تغيّر في القاعدة السياسية التي تتولى الحكم اليوم بأفغانستان، وهي ليست مطابقة لمن ورثت الاحتلال، وفيها شخصيات ذات عمق فكري إسلامي مشترك، وبينها شخصيات على علاقة ودودة مع باكستان، للمساعدة في تسهيل المفاوضات بين طالبان وبين مؤسسة الحكم في أفغانستان
وحتى علماء المسلمين لهم كفلٌ من المسؤولية، حيث لم يُعط خطاب الغلو حقه حين استشرى، إضافة لهجرة الشعب الأفغاني وتركه وحيدا أمام العاصفة. فبعد زيارة وفد العلماء لطالبان بشأن تماثيل بوذا، وخطأ طالبان بتفجيرها، لم تتم جهود حقيقية متواصلة لتحقيق صلح داخلي في أفغانستان كان أهم من تماثيل بوذا.
وخضع العالم الإسلامي إلى الخطاب الأميركي بشيطنة طالبان، أو خطاب القاعدة وحلفائها من منابر الغلو والعاطفة السطحية، لقطع التواصل مع قادة الجهاد الأفغاني السابقين، والقيادة السياسية التي جاءت بعد الغزو، بينما كانت قضية حقن الدم المسلم وتحويل الصراع إلى سياسي بدلا من قتال مسلح، مع تبني خطة مشتركة لخروج الناتو والأميركيين بعد أن كسرتهم طالبان، من الممكن أن تُحقق نتائج جيدة قبل نهر الدماء الذي سال ولا يزال من أبناء الشعب الأفغاني.
ومسؤولية تصحيح البدايات وإنقاذ أول أفغانستان بعد أن عانى شعبها مما عاناه، لا تزال قائمة على عاتق الدول الإسلامية، اليوم قبل الغد، ولعل معالجتها تكون ترسا تأسيسيا لمعالجة باقي أزمات صناعة التوحش، لكن ذلك لن يتم بالمطلق لأن الاستعمار الدولي وحروبه، والاستبداد والفساد في الدول الإسلامية، محرك كبير لمثل هذا التطرف وردّات الفعل المتوحشة.
لكن أفغانستان اليوم أمام عدة حقائق وتطورات، قد تساعد في صناعة سلام بعد 35 عاما من الحروب والمآسي، والطفولة المغدورة واليتم المستمر، والمرأة المعذبة بعدوان الناتو وبجهل طالبان، في ملفات أكبر من أن تعرض عناوينها في مقال، فضلا عن تفصيلها، وهذه التطورات نوجزها في الآتي:
1- الشعب المنهك للغاية رافضٌ للاحتراب، مهما كان المبرر، وتصويت الشعب الأفغاني بكثافة في آخر انتخابات، كان مؤشرا فوجئت به طالبان في حينه، وكانت الرسالة واضحة.
2- هناك تغيّر في القاعدة السياسية التي تتولى الحكم اليوم، وهي ليست مطابقة لمن ورثت الاحتلال، وفيها شخصيات ذات عمق فكري إسلامي مشترك، وبينها شخصيات على علاقة ودودة مع باكستان للمساعدة في تسهيل المفاوضات. والأصل أن تعقد المفاوضات بين طالبان وبين مؤسسة الحكم والعملية السياسية القائمة، والاستفادة من التجربة القطرية السابقة للوساطة، لكن في اتجاه يعزل الأميركيين اليوم.
3- تعاني طالبان من ثلاثة أبعاد، وواضح أن هناك شعورا لا يُعلن عنه رسميا، بأن خارطة القتال باتت تضرب في محيط الدولة والمجتمع، دون أن تُحقق إنهاكا مركزيا لقوات غزو انسحب أكثرها، وإنما في بنية الدولة وعسكرها، وليس كما كان في وضع حرب المقاومة السابق.
4- وثاني عنصر تعاني منه طالبان، هو استمرار الانشقاق الداخلي بينها، إضافة إلى استمرار خرق وصايا الراحل الملا عمر بتجنب المدنيين، وتفجيرات المساجد وعدم تعريض الناس للقتل والمُثلة، فبعض العمليات لا تزال ترتَكب هذه الجرائم، بواسطة شباب عرب أو من تأثر بهم.
5- تواجه طالبان اليوم مشروع داعش أفغانستان، الذي يستقطب مزيدا من الشباب العربي المنضم سابقا للقاعدة، أو الوافد الجديد لأفغانستان لاستغلال ظروف الصراع، وقد حسمت داعش الأمر، وتهيّأت لقتال طالبان والقاعدة معا، وفقا لبيعة خليفتهم المزعوم.
إن الجلوس على طاولة المفاوضات، وضبط التدخلات الباكستانية، وردع التدخلات الإيرانية عنها قدر الاستطاعة، سيخلق أجواء من الثقة تُساعد أطراف الأزمة الأفغانية على تبنّي كلمة سواء، تخرج هذا الشعب المغدور من عقود الحزن والحرب، ليكون عتبة بناء لقوة الشرق
6- فإلى أين ستؤدي هذه المواجهات؟ وأين يذهب هذا الشعب والمجتمع والدولة المسلمة التي تُحاول جاهدة استئناف الحياة، هذا الصوت موجود في طالبان بلا شك، وهو أحد عناصر المخرج.
ولتحويل تلك الأفكار إلى خريطة عمل يتطلب الأمر ما يأتي:
1- تشكيل غرفة عمليات من باكستان والسعودية وتركيا وقطر والمغرب، مع تنسيق لفريق من العلماء والباحثين، يتواصلون مع كل الأطراف ذات الشأن. ومطلب طالبان بإخراج ما بقي من القوات الأميركية والناتو، يمكن تحقيقه ببديل من قوات إسلامية، وإعلان مصالحة تُعالج بعمق جروح الكارثة في المجتمع.
2- قضية الدستور ومرجعية الشريعة لا خلاف عليها، ويجب أن لا يراعى الغرب المعتدي فيها. الخلاف على "ما هي الشريعة؟"، وينبغي على الجميع إدراك كم هي مساحة التجديد الإسلامي في الشريعة الإسلامية، وأن فقه طالبان ليس مما عُلم من الدين بالضرورة.
وتشكيل لجنة خاصة من تقنيي العلوم الفقهية يمكن من خلاله حسم هذا الأمر. وأفغانستان ذاتها التي أنجبت جمال الدين الأفغاني، فيها ثورة من التعدد الفقهي السني والتنويري، كما فيها قاعدة المذهب الحنفي التقليدي الصوفي، وأتباعه منقسمون بين الطرفين.
إن الجلوس على طاولة المفاوضات، وضبط التدخلات الباكستانية، وردع التدخلات الإيرانية عنها قدر الاستطاعة، ستخلق أجواء من الثقة تُساعد أطراف الأزمة الأفغانية على تبنّي ما دعاهم إليه الله عز وجل في محكم كتابه، وبنداءات نبيه، ويخرج هذا الشعب المغدور من عقود الحزن والحرب، ليكون عتبة بناء لقوة الشرق وتقدمه، بدلا من ركام، يبطش به عدوه الغربي وغلاة التوحش الداعشي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق