لهم "عكاشتهم" ولكم ثورتكم
هل كان من الممكن أن يقول "كائن 30 يونيو النموذجي"، توفيق عكاشة، كل ما قال، من دون أن تكون هناك جهة ما تريد منه أن يقول؟
السؤال بصيغة أخرى: هل كان "مسلسل عكاشة" ممتد الحلقات، على مدار الأسبوع الماضي، رغبة شخصية أو تعبيراً ذاتياً خالصاً عن ألم شخصٍ "أكلوه لحماً ورموه عظماً" كما قال؟
وهل عدمت مصر السيسية جهات المنع والحظر والإسكات عن الكلام، حتى يستطيع المتحدث المرور إلى فضائيات عديدة، يردد نصاً واحداً تقريباً، يفضح فيه الأساطير المؤسسة لنظام عبد الفتاح السيسي؟
الشخص نفسه الذي يرتدي أقنعة الشهداء والجرحى والمظلومين، في سلسلة حواراته، سبق أن اعترف، غير مرة، بأن جهات أمنية في النظام، تكلفه بمهماتٍ للكذب على الجمهور، وتحشوه بعبواتٍ ناسفة للوعي، يُراد من خلالها تمرير سيناريوهات، تؤدي، في النهاية، إلى تنفيذ مخططاتٍ، لهدم مشروع ثورة يناير، فما الذي يمنع أن يكون ظهوره الأخير في السياق نفسه؟
انقلاب الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 كان استثماراً في "حالة عكاشية"، انطلقت بمعرفة المؤسسة العسكرية منذ خريف 2011، حيث لم يغب الدعم يوماً، ولم يتوقف ضخ الأوهام والمعلومات والأكاذيب، وأذكر أنني، في نهاية العام 2012، سئلت عن حصاد العام، فقلت إنها "سنة العكشنة"، وشرحت "أمضت مصر الشهور الأخيرة من 2011 والنصف الأول من 2012 في محرقة إعلامية مدعومة سلطوياً، أهالت التراب على الثوار، ونكلت بالشهداء وأسرهم والمصابين، وصبت سخائمها فوق كل من يفتح فمه بكلمةٍ تنتقد المجلس العسكري. وبدا الإعلام المتعكشن محاطاً بسياجٍ من الحماية الرسمية والقضائية، أتاحت له ممارسة الطعن في شرف الثائرات والثوار، وصب أطنان من البذاءة على كل المنتمين للثورة، دون أن تمتد له يد العقاب".
الآن يمكنك أن تصف 2015 التي تجر أذيالها بأنها "سنة عكاشية أخرى"، إذ يجري إغراق الوعي بمزيد من المضخات العكاشية، في عمليةٍ تقف وراءها، بكل تأكيد، أطراف داخل النظام، تصفي حسابات خاصة بها من جانب، وتقطع على الناس طريق الاحتشاد لذكرى 25 يناير من جانب آخر، وتصرف الأنظار عن الخيبة الثقيلة، أو التواطؤ الرسمي مدفوع الأجر، في ملف سد النهضة.
ولا ينفصل عن ذلك دوران عجلة الاعتقالات لشبابٍ من حركات ثورية، لم تعلن موقفها من المشاركة في تظاهرات ضد نظام السيسي بعد، على طريقة "اضرب المربوط يخاف السايب"، حيث تبدو الرسالة، هنا، شديدة الوضوح، حد الابتذال، لكل من يفكر في الخروج ضد سلطة الانقلاب في ذكرى الثورة.
سوف تستمر الاعتقالات بين صفوف الشباب بكثافة، وتمضي عمليات مداهمة واقتحام منابع الوعي والغضب، من مراكز ثقافية ومقاهٍ ودور نشر، في وسط القاهرة، لإشاعة مناخ من الخوف، نوعاً من الضربات الاستباقية. وفي هذه الأثناء، يخرج عبد الفتاح السيسي بقوائم عفو وإفراج، لعينات مختارة من بين المحبوسين، بينما تتواصل رياضة التزلج على البيانات والمبادرات الفخمة، والتعلق الطفولي بالاعترافات العكاشية "الممنهجة"، وإذكاء روح الشللية والحزبية في موضوع الحريات والمعتقلين، بحيث تتجدد الاشتباكات الصبيانية حول: من خان أولاً، ومن عليه الاعتذار ابتداء.
غير أن ذلك كله لن يوقف قطار غضب منطلق، ويعرف طريقه جيداً، بعد أن أيقن الجميع أنهم في لحظة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، وهي لحظة يصبح معها الاستمرار في الفرز الأيديولوجي والتصنيف الشللي إصراراً على الانتحار الجماعي.
اتركوا لهم "عكاشياتهم"، والتفوا حول ثورتكم، كما كنتم أول مرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق