إلى ضيفِنا المقيمِ إلى الأبدِ!

السلام عليك يا أيُّهَا الخالد أبا خالدٍ، يا حضرةَ الرجل البهيّ في الزمن العيِيّ، أما بعد..
جئتَ لأُمَّةٍ يتيمةٍ تفتقر إلى القائد، فكنت لنا أبًا، ولأمَّةٍ سقيمة تلتمس العلاج فكنت لها دوا، أتيتَ وفي جعبتك عمرٌ من الفتوة، وقبس من النبوّة، تمشي بنور الله في طرقه بطريقتك، فتشق بفتوة موسى بحر الأرض، وبنبوة محمد صدور سكانها، لست نبيًّا ولا صحابيًّا ولا تابعيًّا، لستَ علامةً ولا محدِّثًا ولا إمامًا، وإنّما أنت أنت، دليل الفعل ورجاحة الرأي وخلاصة القول؛ برهان العمل، ونبراس المسير، وزبدة الزمن الأصيل، إثباتٌ على “عادية” الأبطال، و”بطولة” العاديين، ذلك السهل الممتنع في متناول الجميع، وفي استحالته في الآن ذاته، إلّا بمهرٍ عظيمٍ وبسيطٍ، هو الفؤاد، فمن يعطيه إلى ربه؟ ولكن لا يهب الشيء إلا من ملكه، ومن فينا يملك قلبه حتى يعطيه؟
فما بالك بك أنت، ملكتَ قلبك وملكتَ علينا قلوبنا، فوهبت خاصتك لله، وما زالت قلوبنا في أجوافنا، لا نعرف متى نضعها في يد مقلِّبها ومثبِّتها، ومتى تنطلق من أسرِ الرجال إلى الإتيان بالخصال!
سمّوك ضيفًا، لأنَّك حللت ضيفًا على المكان، لستَ ابن غزَّة وإن كنتَ أبًا لها، ولستَ من سكانها وإن كانت هي من سكانك، لكنى على غير قصدهم أراك ضيفًا لعلوّك فوق “قوانين الإقامة”، فلا شيء تملكه ليملكك، ولا منبتًا واحدًا تعود إليه لينتفي عنك غيره، خاصةً وأنَّ لك في الأرض آلاف البذور، فأنت إن انتميت لبقعة صرت أسيرًا لها، وإن أنت لم تنتمِ لمكان فبوسعك الانتماء للكون كلِّه، ولذلك كنت ضيفًا، تملك من كل متر شبرًا، وفي كل بدن صدرًا، وبكل روح أمرًا، تسكن ولا تسكن، تقطن وفيك حركة دائمة، تلائم إسراءك الدائم، بين المنشأ والموطن والميلاد، ومعراجك الخالد بين عتمة الأرض ونور السماء.
حسبوك ضيفًا لأنَّك لستَ من هنا، وحسبُك ضيفًا على كل مكان هناك، تسعك العيون إن ضاقت بك الجدران، وتخبئك القلوب إنْ تتبَّعتك الآذان، وَتُحَرِّرُكَ السَّواعِدُ إذا ما أسرتك القضبان، وتحملك الأمَّهات في دعواتها جنينًا لا يشيب، ورموشهنّ لك الجيران، حسبوك ضيفًا لأنك لا تنتمي إلى مدينة، وأنت لستَ ضيفًا على الدنيا بذاتها إلَّا لأنَّك لا تنتمي إلَّا إلى السماء، أما الدنيا فمدينةٌ لك!
يا سيّدي، أدركتُ فيما يدرك الفاقدون لحظةَ انتباه، أنَّك لم تكن بالمرة ضيفًا على المكان، لست ضيفًا على بيت في غزَّة، ولا ضيفًا على مدينة في فلسطين، ولا ضيفًا على بلد في عالَم، وإنَّما أنت ضيف الزمان لا المكان، زائرٌ من زمن الصحب الأوائل، أو من قادم الأيام العظام، فارس ضلّ جواده الطريق إلى بدر والخندق واليرموك والقادسية، فدخل على غير قصد ثغرة في الزمن، وندبةً في التاريخ، انتقل بها أكثر من ألف عام للأمام، مُحَمَّلًا بأثقال الرسالة، وبوصية الرسول، وبصدق الرجال الأُوَل، بدرة الفاروق، وهيعة خالد، وأذان بلال، الله أكبر الله أكبر، وفي هذا تفسير قولك الخالد:
“كما أنتِ هنا، مزروعٌ أنا، ولي في الأرض آلاف البذور”.
الآن أدركت من تقصد بالبذور، ولمَ أنت مزروعٌ ولك آلاف الجذور!
يا سيّدي، ذكراك ليست مناسبةً للسجع ولا الشعر الرخيص، ولا الكلام وحسن تقسيم الجمل، ولا ترديد عبارات مقفّاة، لكنها بلا وزن، ما دامت بعيدة عن البحر المقصود، وإنَّما هي متجدِّدة كلَّ فجر
وكلَّ ظهيرة وكلَّ قيام، تذكرنا بما ينبغي للرجال حمله خلف الرجال، فلا يتأملون الملامح، ولا يستذكرون المشاهد، ولا يرثون بالأبيات، وإنَّما يجعلون وزن الكلام العمل، وبحر الشعر الطوفان، وميدان الذكرى تجديدها، بأن يرثوا منك الراية والوجهة والخطوة، فلا يحيدون عن طريقك ولا طريقتك، طريقة الثبات على نهج القائد الأول، والمغيّر الأعظم، وصاحب الكعب الشريفة المتفصدة دمًا على الطريق، ولا تغادر الطريق.
يا سيّدي، الأرض يتيمة من بعدك، وحبلى بجسدك، يبعثه الله في كثر خلفك، كأنك دورةٌ لا تنتهي، ودائرة لا تنقطع، وقطعة من الزمان لا تكاد تفرغ حتى تنصب من جديد، وكلُّ الرجال الصادقين ضيوف من بعدك، لا ينتمون إلى هنا، وإنَّما إلى الأعلى، نحسب الله يجدد بهم الصدق في قلوب عباده، والجهاد في جبهاتهم، والنصَب في أوداجهم، والذخيرة في قلوبهم، حتى تفنى في قلوبهم الذخائر، ولا يفنون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق