هل سقطت نظرية «أم القرى» في سوريا الجديدة؟
«في دليل آخر على عبثية التصنيفات الأمريكية، سحبت واشنطن زعيم القاعدة في سوريا من قائمتها الإرهابية». ربما يستنتج القارئ بسهولة أن المقصود بزعيم القاعدة في سوريا هو الرئيس أحمد الشرع، لكن ربما يُفاجأ بأن صاحب هذا التصريح المنشور على منصة أكس، هو محمد جواد ظريف أحد أبرز الشخصيات السياسية في إيران الخمينية، وأهم شخصياتها التفاوضية، كان له دور بارز في وقف الحرب الإيرانية العراقية، وشارك في جميع مفاوضات بلاده منذ الثمانينيات عموما، وأسند إليه الرئيس الأسبق حسن روحاني منصب كبير المفاوضين النوويين، وكان هو من أقنع القيادة الإيرانية، بدعم الولايات المتحدة في حربها ضد طالبان الأفغانية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتولى عدة مناصب مهمة منها وزير الخارجية، ونائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية.
إذن، عندما يصدر مثل هذا التصريح عن شخصية بحجم ظريف، يصف فيه رئيس سوريا المعترف به دوليا والرمز المعبر عنها، بالإرهاب، فإنه يقطع الاحتمال لأن يكون نابعا من وجهة نظر فردية حانقة على الرئيس السوري الحالي، بل جاءت معبرة عن استياء إيراني من سقوط نظام الأسد وتولي خصومه العسكريين إدارة البلاد.
هذا الاستياء ظهر مع بداية سقوط النظام والمتغيرات الجديدة، فقد اتهم المرشد الأعلى خامنئي، أمريكا وإسرائيل وتركيا بالتخطيط لإسقاط الأسد، واعتبر قوى المعارضة السورية تسعى لاحتلال سوريا، ووصف انتصار الثورة بالفوضى، مهددا باستعادة الشباب الغيور للمناطق المحررة، على حد وصفه، ما دعا الخارجية السورية، لتقديم الاحتجاج على ما اعتبرته تدخلا إيرانيا في الشأن السوري.
إيران، الحليف الاستراتيجي للنظام البائد، كانت الداعم الأبرز لبشار في حربه ضد الفصائل الثورية، لم يقتصر الدعم على الجانب اللوجستي والمادي، فكتائب الحرس الثوري الإيراني كانت أبرز الكيانات المقاتلة على الأرض في سوريا، إضافة إلى الخبراء العسكريين الذين تدفقوا من إيران لدعم النظام. ومع نجاح الثورة في الإطاحة ببشار ونظامه، خسرت إيران سوريا، أحد أبرز مرتكزات نفوذها في المنطقة، وتقف الآن مترقبة متوجسة في دراسة مستقبل علاقتها بسوريا الجديدة.
هذا الإخفاق يستدعي الحديث عن نظرية «أم القرى»، التي أسس لها وشرحها المنظّر الأكاديمي محمد جواد لاريجاني، في كتابه «مقولات في الاستراتيجية الوطنية».
هذه النظرية ترتكز على فكرة أن إيران هي أم القرى، وليست مكة، باعتبارها حاملة الإسلام الصحيح، وتنص الوثيقة التي تحمل روح النازية، على وجوب قيادة إيران للعالم الإسلامي عن طريق الولي الفقيه، ووجوب التوسع في الجوار، ويتم تطبيقها، كما أوضح لاريجاني على مفهوم أساسي وهو، قوة العمل والنشاط خارج الحدود.
لم تتضح صورة العلاقات الإيرانية مع النظام الجديد، غير أن الإدارة السورية يبدو أنها لا تمانع في إقامة علاقات مع إيران، في سياق نهجها العام في تصفير النزاعات
فكرة الهيمنة حاضرة في الذهنية الإيرانية، منذ ثورة الخميني، الذي شرع على الفور في تصدير الثورة الإيرانية، إلا أن لاريجاني صاغ المشروع الذي عملت عليه طهران، وانطلقت به لتعزيز نفوذها في عدة دول في المنطقة. ففي العراق، تمكنت إيران من بسط نفوذها الذي تقاسمته وأمريكا، بعد أن ساعدت الأخيرة في احتلال العراق باعتراف القادة الإيرانيين أنفسهم. كما تمدد نفوذها من خلال أذرعها في لبنان (حزب الله اللبناني) واليمن (الحوثي)، إضافة إلى الجيوب الموالية لها في عدة دول عربية.
أما سوريا، فكانت حلقة بالغة الأهمية في المشروع الإيراني، الذي يترجم نظرية «أم القرى»، وقد عبّر مهدي طائب رجل الدين الإيراني البارز المرتبط بالحرس الثوري عن هذه الأهمية بقوله: (لو خسرنا سوريا فلا يمكن أن نحافظ على طهران).
عملت إيران على الهيمنة الكاملة على سوريا، وكان من نتائج تدخلها في سوريا دعما للأسد، إحداث تغيير ديموغرافي في سوريا، عن طريق تهجير السكان أصحاب الأرض، وإحلال عناصر إيرانية وأخرى موالية لإيران.
أغدقت إيران على نظام بشار الدعم المادي السخي، رغم مشاكلها الاقتصادية الداخلية، بهدف إبقاء المنطقة العربية مشتعلة، والسيطرة على آلية صنع القرار في دمشق، وحصلت في المقابل على موافقة ببيع ورهن أملاك للدولة السورية مقابل استمرار الدعم.
استلهمت إيران في تعاملها مع سوريا خطة مارشال الأمريكية نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال، التي قضت بتفعيل وإنعاش اقتصادات أوروبا التي أنهكتها الحرب العالمية الثانية، لتكون سوقا للمنتج الأمريكي، ولإغلاق الطريق على المد الشيوعي في أوروبا. وقد كشفت وثائق رسمية سرية تم العثور عليها في سفارة طهران بدمشق في أواخر 2024 عقب انهيار نظام بشار، أن إيران كادت أن تهيمن على سوريا باستثمارات طويلة الأمد بقيمة 400 مليار دولار، مُدرجة في الوثيقة، التي أعدتها وحدة متخصصة في الدراسات الاقتصادية من الحرس الثوري الإيراني داخل سوريا، الديون الضخمة المتراكمة على النظام السوري لصالح إيران.
جاء نجاح الثورة السورية في الإطاحة بنظام الأسد، ليضع العصا في مشروع نظرية «أم القرى»، تزامنا مع تقويض القوة العسكرية لحزب الله بسبب العدوان الإسرائيلي، وإضعاف ما يعرف بمحور المقاومة. وإلى اليوم لم تتضح الصورة الكاملة التي ستكون عليها العلاقات الإيرانية مع النظام الجديد، غير أن الإدارة السورية يبدو أنها لا تمانع في إقامة علاقات مع إيران، في سياق نهجها العام في تصفير النزاعات.
إننا إذ نتناول المشروع الإيراني، فلا يصح ترجمته على أنه موقف ذو بُعد طائفي حيال إيران، التي ترعى المنهج الشيعي، فنحن نتناول المشروع باعتباره مشروعا تخريبيا في المنطقة العربية لا علاقة له بالأيديولوجيات، فعندما أقدم صدام حسين على غزو الكويت لم نضع في الميزان أية أيديولوجيات أو انتماءات، إنما هو العدوان والعدوان وحده، مهما كان صادرا عن أي أحد كائنا من كان.
كما أود التنبيه على الحتمية البغيضة التي يضعها البعض، والوقوع في آفة الإلزام بما لا يلزم، وأعني أولئك الذين يعتبرون التحذير من الخطر الإيراني ضربة للمقاومة في فلسطين، باعتبار أن إيران كانت تمد المقاومة بالدعم، فنحن نقف مع الحق الفلسطيني ومقاومة الاحتلال قلبا وقالبا، لكن ماذا عن هذه الدماء التي سفكتها إيران في الدول العربية؟ وماذا عن مشروعها التخريبي في المنطقة والذي لا يجهله أحد؟ يضاف إلى ذلك، أن الدعم الذي قدمته إيران للمقاومة قبضت ثمنه وهو تجميل وجهها لدى العالم الإسلامي والعربي، لكن أين هو الدعم الآن؟ وهل تحركت إيران يوما من أجل غزة؟ الواقع أثبت أنها لا تتحرك عسكريا إلا إذا تعلق الأمر بحدودها، وها هي في المفاوضات مع ترامب حيال حربها مع إسرائيل، لم تضع غزة التي تُباد في الحسبان، ولم يكن وقف العدوان على غزة على طاولة التفاوض. ونحن قطعا لا نستطيع إلقاء اللوم عليها وحدها، فكل دولة تسعى لمصالحها الخاصة في هذا العصر الذي سقط من قاموس الدول نجدة الملهوف ونصرة المظلوم، لكن في الوقت نفسه ينبغي أن لا ننظر إلى إيران على أنها دولة مقاومة للاحتلال نصرة للقضية الفلسطينية، وينبغي أن لا نجعل السكوت عن الجرائم الإيرانية معيارا لدعم فلسطين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق