الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025

عليٌّ الذي ظل ثابتا

 عليٌّ الذي ظل ثابتا

رئيس البوسنة الراحل علي عزت بيغوفيتش


(1)

عندما كانت تشيك وسلوفاكيا دولة واحدة تحت اسم "تشيكوسلوفاكيا"، كان هناك شاب اسمه فاكلاف هافل، يكتب مسرحياته المناوئة للنظام الشيوعي، تبدو نصوصه بسيطة لكنها في الحقيقة تفضح عبثية السلطة وظلمها، وبالطبع كان السجن نصيبه، ولأنه عنيد واصل نضاله بعد خروجه من السجن حتى سقطت الشيوعية، وليصبح هو رئيسا للبلاد.

تذكرته عندما تذكرت "عليّ"، فالرجلان متشابهان، وقد أودت بهما الكتابة إلى السجن، والاثنان خرجا من السجن إلى مقعد الرئاسة، والاثنان يلحّان على الأخلاق في السياسة، ضد ما هو سائد من أن السياسة لا أخلاق لها، وأن المصالح هي الفيصل، والاثنان يؤمنان بالتعددية والحريات العامة، ومناوئان للشمولية والاستبداد.

كلاهما لم يأتِ من خلفية عسكرية أو حزبية، بل من عالم الفكر والكلمة، وقد واجها سؤالا واحدا: كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على كرامته في وجه سلطة تريد سحقه؟

هافل كان كاتبا مسرحيا يؤمن بأن لا قيمة للكلمة إن لم تقاوم، وبيغوفيتش كان مفكرا يرى أن الروح هي مركز الإنسان، وأن فقدانها أخطر من فقدان الأرض. كلاهما دخل السجن لا لأنه حمل سلاحا، بل لأنه حمل فكرة. ومن خلف القضبان نسجا نصوصا ستصبح لاحقا خريطة طريق.

هافل كتب قوة المستضعفين، وبيغوفيتش كتب هروبي إلى الحرية. الفارق أن الأول خرج ليقود ثورة سلمية أسقطت الشيوعية في براغ، أما الثاني فخرج ليجد بلاده تتهيأ لحرب إبادة، فصار عليه أن يجمع بين الفيلسوف، ورجل الدولة في آن واحد.

ورغم اختلاف السياق، فقد اشتركا في قناعة واحدة، وهي أن السياسة بلا قيم تتحول إلى قسوة عمياء، وأن الفكر بلا مسؤولية يصبح مجرد ترف ثقافي.

لكن الاختلاف ربما هو أن هافل كان علمانيا وجوديا، بينما بيغوفيتش كان يستمد رؤيته من الإسلام.

(2)

ربما يذكرني علي عزت بيغوفيتش بـ"نيلسون مانديلا"، فالسجن عند كليهما لم يكن مجرد مكان للعقوبة، بل مدرسة للروح وصقل للقيادة. كلاهما قضى سنوات طويلة خلف القضبان، وخرج أكثر قوة وهدوءا مما دخل.

مانديلا تحوّل من ناشط سياسي ملاحَق إلى رمز وطني يختزن حلم شعب بأكمله، وبيغوفيتش خرج من زنزانته برؤية أعمق لدور العدالة والروح في بناء الدولة.

التشابه بين الرجلين أن كليهما رفض أن يتحول إلى صورة مشوهة صنعها السجّان، لم يخرجا مكسورين أو متعطشين للانتقام، بل خرجا بقلوب تسعى للمصالحة، وبعقول تحاول أن تجد طريقا للعدل.

مانديلا خرج من السجن ليقود بلاده إلى مصالحة كبرى بعد سقوط الأبارتايد، حيث كان العالم كله يقف معه، وكانت لحظة التحرر تحمل روح انتصار جماعي.

بينما خرج بيغوفيتش ليجد بلاده في مستهل أزمة أدت إلى حرب إبادة، وكان عليه أن يتخذ قرارات يومية بين الدفاع عن شعب يذبح، وبين الحفاظ على مبادئه الإنسانية.

مانديلا استطاع أن يقدم نموذجا عالميا للصفح والتسامح، أما بيغوفيتش فقد ظل يذكّر شعبه أن "العدالة أهم من الدولة"، حتى وهو يتفاوض مع من تلطخت أيديهم بالدماء.

وإذا كان مانديلا قد أثبت أن التسامح يمكن أن يعيد صياغة وطن، فإن بيغوفيتش أثبت أن القيم يمكن أن تصمد حتى في أشرس الحروب، وأن الحفاظ على إنسانية المرء وسط المجازر قد يكون أصعب من أي انتصار عسكري.

(3)

يذكرني علي عزت بيغوفيتش بمحمد إقبال، الشاعر والفيلسوف الهندي، الذي كتب أشعاره وكأنها نداء للأمة الإسلامية أن تستيقظ من سباتها. وتغنى في قصائده بالروح التي هي سر القوة، وسر الحياة، فالإنسان بنظره لا يُقاس بما يملك، بل بما يحلم، وقد ألهمت كلماته تأسيس باكستان فيما بعد.

ثم جاء بيغوفيتش بعده بعقود، وكتب كتابه الأشهر "الإسلام بين الشرق والغرب". فيه رسم صورة متوازنة، كأنه يقول إن الإسلام ليس مجرد ماضٍ يُحفظ في المتاحف، ولا مجرد طقوس، بل هو رؤية متكاملة للإنسان والحياة.

كأن بيغوفيتش هو الامتداد العملي لإقبال، أحدهما نفخ الروح بالشعر والفلسفة، والآخر جسّد تلك الروح وهو يقود أمة نحو الاستقلال.

يلتقي علي عزت بيغوفيتش مع محمد إقبال عند نقطة مركزية، فكلاهما رأى أن الإسلام ليس ماضيا يُحكى، بل مشروعا للمستقبل. إقبال حمل الهمّ شعرا وفلسفة، يوقظ الروح الشرقية من سباتها، ويزرع في النفوس أن النهضة تبدأ من "خودي" الإنسان، أي من وعيه بذاته وكرامته.

أما بيغوفيتش فقد ترجم الفكرة إلى خطاب فكري متماسك في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، ثم مضى بها إلى ميدان السياسة وهو يقود شعبا يحارب للبقاء.

التشابه بينهما أن كليهما جمع بين الفلسفة والرؤية الروحية، وأنهما خاطبا الإنسان المسلم لا باعتباره تابعا للتاريخ، بل صانعا له. لكن الاختلاف أن إقبال ظل في فضاء الحلم والشعر، ملهِما من بعيد لميلاد باكستان، بينما وجد بيغوفيتش نفسه في معترك الدولة والحرب، مضطرا لأن يوازن بين المثال الذي يحلم به، والواقع الذي يفرضه الدم والدمار.

(4)

يذكرني علي بآخرين، لكن له فرادته، كتاباته رائعة، صحيح، لكن صدقه أكثر روعة، فكثر هم الذين يكتبون، وقليل هم الصادقون، وإذا اقتربت من علي، ستجد له سمتين؛ الثبات والاستمرار، بما يتوافق مع ما كتبه مرارا من أن التاريخ لا يصنعه الذين يندفعون بسرعة ثم يتوقفون، بل الذين يواصلون الطريق في صمت وإصرار، وأن العظمة الإنسانية ليست في البداية المضيئة، بل في القدرة على الثبات حين تخفت الأضواء، وأن الحرية تحتاج إلى رجال يصبرون أكثر مما تحتاج إلى رجال يثورون، وأن الانتصار لا يُقاس بلحظة حماسية، بل بالقدرة على احتمال الطريق كله حتى النهاية، والأهم أن الطريق إلى الله طويل، والسر ليس في السرعة، بل في الاستمرار.

علي ظل ثابتا على ما يعتقد من صغر شبابه إلى أن توفاه الله، معتنقا نفس المبادئ في مساره الحياتي الصعب، واستمر في عطائه لنصرة ما يعتقد، وفي كل الأحوال لم يقدم تنازلا واحدا، كان بسيطا إلى حد أنه اندهش كما ذكر في مذاكراته كيف يمكن أن يُزج بالمرء في السجن عقابا على ما كتب، أو على ما يعتقد، وعندما أصبح رئيسا لبلده، احتفظ بفريق عمل فيهم من هو على نقيض أفكاره، ولم يقع ضرر على صاحب رأي خالفه.

لو كُتب لك أن تلتقيه لوجدته هو نفسه كما كتب، أمام الكاميرا كما خلفها، فوق مقعد الرئاسة كما كان سجينا، كما كان مواطنا عاديا، نفس المبادئ ونفس الأفكار، لم يخنها أبدا.

بالطبع لم يكن كاملا، كما هي سنة الحياة، فليس هناك على الأرض من ليس به نقص إلا من اختارهم الله رسلا له.

وفيما كان البعض يعتقد أن الفلسفة لا مكان لها في زمن الحرب، فإن تجربة بيغوفيتش أثبتت العكس، أن أعظم السلاح هو أن تبقى إنسانا حين يريد الآخرون أن يحولوك إلى وحش.

علي يذكرنا بالرجال، ويذكرنا بالمبادئ، ويذكرنا بالثبات والاستمرار، وحين نستعيد ذكرى رحيله، في 17 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، لا نتذكر فقط رئيسا بوسنيا أو قائدا سياسيا، بل نتذكر إنسانا حاول أن يثبت أن الأفكار يمكنها أن تهزم المدافع.




الإبادة باسم السلام: كيف صارت خطة نتنياهو خطة العرب والمسلمين؟!

 الإبادة باسم السلام: كيف صارت خطة نتنياهو خطة العرب والمسلمين؟!

ساري عرابي


أعلن ترامب أخيرا عمّا ينبغي أن يُسمّى خطة نتنياهو/ ديرمر لفرض الاستسلام والواقع الإسرائيلي على قطاع غزّة وتصفية القضية الفلسطينية، بعنوان كاذب هو "إنهاء الحرب"، مع بهارات ترامب المألوفة في صياغة العبارات الكبيرة عن إنجازات تاريخية في تحقيق السلام لا وجود لها. بيد أنّ الأسوأ في كل ما هو مذكور، أنّ خطة نتنياهو/ ديرمر وفّر لها ترامب سلفا غطاء عربيّا/ إسلاميّا باجتماعه مع رؤساء وممثلي ثمانية دول عربية وإسلامية على هامش الدورة 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. (أثناء كتابة هذه المقالة، أصدر وزراء خارجية هذه الدول بيانا مشتركا جاء فيه: "وقد أكد الوزراء استعدادهم للتعاون بشكل إيجابي وبناء مع الولايات المتحدة والأطراف المعنية لإتمام الاتفاق وضمان تنفيذه، بما يضمن السلام والأمن والاستقرار لشعوب المنطقة").

هكذا باتت خطة نتنياهو/ ديرمر؛ خطة للعرب والمسلمين، باسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعليه، وُضعت المقاومة الفلسطينية في مواجهة الدول العربية والإسلامية، بالرغم من أنّها ليست إلا في مواجهة دولة الإبادة الجماعية "إسرائيل"، وصار ينبغي أن تُنفَّذ هذه الخطة التي تدعو إلى تسليم جميع الأسرى الإسرائيليين سلفا في ظرف 72 ساعة، ليكون الاحتلال حرّا بالكامل في عموم حركته العسكرية الإبادية، ويبدأ نتنياهو خطته بإنجاز كبير أمام مجتمعه. ثمّ بعد ذلك لا ضمانات ولا جداول ملزمة (فالجدول الزمني الوحيد المنصوص عليه هو تسليم الأسرى الإسرائيليين)، في حين أنّ خارطة الانسحابات تضمن لـ"إسرائيل" شريطا عازلا داخل القطاع، ثمّ تُفْرَض لجنة فلسطينية تعيّنها أمريكا لإدارة القطاع على أساس التنسيق الكامل مع إسرائيل بإشراف دولي، يتمثل في أمريكا و رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ليضمن هذا الإشراف لا استسلام فصائل المقاومة وتسليم سلاحها فحسب، ولكن أيضا حلّ نفسها والتنصّل من ذاتها والاعتذار لـ"إسرائيل"، 

صار ينبغي أن تُنفَّذ هذه الخطة التي تدعو إلى تسليم جميع الأسرى الإسرائيليين سلفا في ظرف 72 ساعة، ليكون الاحتلال حرّا بالكامل في عموم حركته العسكرية الإبادية، ويبدأ نتنياهو خطته بإنجاز كبير أمام مجتمعه. ثمّ بعد ذلك لا ضمانات ولا جداول ملزمة

وليضمن أيضا التزام اللجنة الفلسطينية بالتبعية الكاملة للشرط الإسرائيلي، وكل ما يتعلق بانسحاب الاحتلال مرهون بقرار الاحتلال بحسب تذرّعه بمدى اطمئنانه إلى تجريد القطاع من السلاح، وكفاية قوات الوصاية الدولية، ليستمر في عمليات الاغتيال والقصف والمداهمة! طبعا، لن يتذكر داعمو خطة نتنياهو/ ديرمر ما تفعله "إسرائيل" في لبنان وسوريا!

هذه الخطة كلّها لم يأت فيها أيّ ذكر للسلطة الفلسطينية، بمعنى أن اللجنة الإدارية الخاضعة للوصاية الأمريكية/ الإسرائيلية ستكون مجردة من الهوية السياسية والمشروع الوطني، وهذا عينه مشروع اليمين الإسرائيلي؛ طمس الهوية الفلسطينية وإلغاء أيّ ممثل سياسيّ للفلسطينيين. وهو إعلان عمليّ بإنهاء الاتفاق المؤسس للسلطة الفلسطينية، أي إنهاء اتفاقية أوسلو، والتأسيس لواقع سياسيّ جديد، يخضع فيه الفلسطينيون لوصاية دولية، فلا توجد أجندة معلنة واضحة لإنهاء هذه الوصاية لصالح السلطة الفلسطينية، أو لصالح تدشين مسار سياسي يقوم على أساس حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وتحرير أرضهم وتجسيد هويتهم القومية في دولة لهم (بل إنّ ترامب في إعلانه أبدى تفهّمه لرفض نتنياهو إقامة دولة فلسطينية). وغير بعيد عن ذلك، أنّ إعلان ترامب/ نتنياهو، عن خطة نتنياهو/ ديرمر؛ لم يتناول السياسات الاستيطانية/ العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما في ذلك مشاريع الضمّ القائمة بالفعل، ليس فقط في إجراءاتها الفعلية على الأرض، ولكن أيضا بصيغها القانونية، التي تحوّل الوجود الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة من كونه تابعا للحكم العسكري الإسرائيلي، إلى كونه احتلالا مدنيّا خالصا بما يخالف القوانين الدولية.

وفّرت خطة نتنياهو/ ديرمر لنتنياهو فرصة إعادة إنتاج نفسه أمام المجتمع الإسرائيلي، والقدرة على الاستمرار في الحرب بأشكال متعددة تحت عناوين جديدة (تسليم السلاح، وكفاءة القوات الدولية، وجدارة اللجنة الفلسطينية المرتبطة بالاحتلال)، وامتصاص الرأي العامّ العالمي المناهض لسياسات الإبادة الجماعية، وبما يعيد إنتاج الكيان الإسرائيلي مجددا في العالم، بوصفه الساعي إلى إنهاء الحرب، وفي حين لم توافق المقاومة على الخطة التي تدعوها إلى إنهاء نفسها بنفسها، فإنّ الغطاء للإبادة الجماعية هذه المرّة عربي وإسلامي، بعدما تُحمّل المقاومة المسؤولية عن رفضها لخطة تصفيتها وتصفية القضية الفلسطينية.

اصطف الجميع للبحث عن مخرج يعطي "إسرائيل" كل شيء، أو يرفع الحرج عنها في استكمالها للإبادة، لأنّ المسؤولية هذه المرّة سوف تُحمّل للمقاومة، وهكذا فدماء عشرات الآلاف وتشريد سكان القطاع المستمر وتدميره بالكامل، وصمود مقاومتهم، والمحاكم الدولية، والعزلة الدولية، كلّ ذلك جرى تجييره لينتهي لصالح بنيامين نتنياهو


إنّ الأهوال التي صُبَّت على الغزيين، وقدرة مقاومتهم على الصمود المعجز في غمرة الإبادة الجماعية، كان يمكن استثمارها فلسطينيّا وعربيّا وإسلاميّا للتأسيس لواقع سياسيّ جديد يدفع نحو إنهاء الإبادة فورا ويجعل الموقف الفلسطيني في الأفضلية على الأقل سياسيّا، بيد أنّ الجميع كان ينتظر اللحظة السريعة التي تجهز فيها "إسرائيل" على المقاومة في غزّة، وحركتها الأكبر، فلمّا لم يُنجَز الأمر سريعا، اصطف الجميع للبحث عن مخرج يعطي "إسرائيل" كل شيء، أو يرفع الحرج عنها في استكمالها للإبادة، لأنّ المسؤولية هذه المرّة سوف تُحمّل للمقاومة، وهكذا فدماء عشرات الآلاف وتشريد سكان القطاع المستمر وتدميره بالكامل، وصمود مقاومتهم، والمحاكم الدولية، والعزلة الدولية، كلّ ذلك جرى تجييره لينتهي لصالح بنيامين نتنياهو.

وبينما هذا هو الموقف الرسمي للنظام العربي/ الإسلامي، المتواطئ مع تجيير الإبادة وصمود المقاومة لصالح نظام الإبادة ومنطقها، يروّج الإعلام العربي لإرادة ترامب لإنهاء الحرب، وفرضه ذلك على نتنياهو، وكأنّ التجربة كلّها المستفادة منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إضافة إلى دورته السابقة (والتي ذكّر بها في إعلانه عن خطته خطة نتنياهو/ ديرمر حينما تحدث عن نقله سفارة بلاده إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لـ"إسرائيل" والاعتراف بضمّ الأخيرة للجولان) لم تعلّم هذا الإعلام والمتحدثين فيه والممتهنين الكتابة والموصوفين بالثقافة؛ أنّ أمريكا، وتحديدا في ظلّ إدارته، ما هي إلا منفّذ للأجندة للإسرائيلية، وهو أمر صار محيّرا للعديد من النخب في اليمين الأمريكي، ولكنه لا يُحيّر أبدا بعض مثقفينا، بما في ذلك بعض من أيّد منهم المقاومة طوال المرحلة الماضية، ثمّ سارع أخيرا صراحة أو بنحو خفيّ للترويج لخطة نتنياهو/ ديرمر.

تأتي هذه الخطة الإسرائيلية، المفروضة أمريكيّا، والمغطاة عربيّا وإسلاميّا، في ذكرى الأمين العام الأسبق لحزب الله السيد حسن نصر الله، في هذه الذكرى يطالب الكثير من العرب والمسلمين الفلسطينيين بشتم الرجل الذي وقف معهم هو وحزبه حتى قضى في هذه الوقفة؛ في معركة لم تكن أبدا معركة أحد من العرب والمسلمين، كما هو واضح!

وأخيرا، مهما كان مآل هذه الخطة وكيفية التعاطي معها، سواء أنفذت أم لا، وافقت عليها حماس في أيّ إطار كان، كأن توسع إطار اتخاذ القرار في أمر بات أوسع حتى من الإبادة الهائلة، أم لم توافق عليها، فإنّ من يتحمّل المسؤولية عن النتيجة على حاليها، هو من خذل الفلسطينيين في غزة، وتآمر عليهم، ولم يستثمر الفرصة العظيمة التي أعطيت للعرب والمسلمين ليكونوا بشرا مرئيين وفاعلين في هذا العالم لأوّل مرّة منذ عقود طويلة.

x.com/sariorabi

حراك "جيل زد" في المغرب... البساطة والجرأة

 حراك "جيل زد" في المغرب... البساطة والجرأة

علي أنوزلا


حشد من شباب "الجيل زد" في تظاهرة احتجاج في الرباط (29/9/2025 Getty)


يعيش المغرب منذ أيام على إيقاع موجة احتجاجية غير مسبوقة تقودها حركة غير مرئيةٍ تطلق على نفسها اسم "جيل زد"، خرجت فجأةً من الفضاء الافتراضي لتتحوّل قوةً حقيقيةً في الشارع، عابرةً المدن والقرى، ومعبّرةً عن غضب اجتماعي تراكم طويلاً. هذه الحركة، التي نشأت في مجموعات مغلقة داخل تطبيقاتٍ مثل ديسكورد، ثمّ انتشرت كالنار في الهشيم في “فيسبوك" و"تيك توك" و"إنستغرام"، اختارت أن ترفع مطالب اجتماعية صرفة: تحسين الخدمات الصحّية، ضمان تعليم عمومي مجّاني وذي جودة، وتوفير فرص العمل للشباب العاطل وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكنّها في الوقت نفسه أعلنت رفضها الانخراط في الأحزاب والنقابات أو الارتهان لأجندات أيديولوجية، ما جعلها تبدو كائناً سياسياً جديداً يرفض القوالب القديمة.

بدت الحكومة والأحزاب والنقابات المغربية خارج الزمن السياسي: صمت ثقيل، غياب تامّ من المشهد، مقابل حضور أمني كثيف

جاءت ردّة فعل السلطات سريعةً وحادّةً، منذ اللحظة الأولى لنزول المحتجّين إلى الشوارع، وُوجِهَت المظاهرات بعنف مفرط. صبّت مقاطع الفيديو التي وثّقت اعتقالات طاولت شبّاناً وشابّات في مقتبل العمر، وأمّهات وقاصرين، وحتى رضّعاً كانوا يشحنون بطريقة عنيفة، مثل الخرفان، داخل سيارات الشرطة، الزيت على نار الغضب، وأطلقت دينامية تضاعفت معها رقعة الاحتجاجات. أمام هذه الموجة، بدت الحكومة والأحزاب والنقابات كأنّها خارج الزمن السياسي: صمت ثقيل، غياب تامّ من المشهد، مقابل حضور أمني كثيف يحاول وحده احتواء غضب الشارع. المفارقة أن هذا الغياب عزّز صورة حركة "جيل زد" فاعلاً جماعياً جديداً، يمتلك طاقةً سياسية من خارج المؤسّسات التقليدية.
لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن سياق أوسع، فجيل الاحتجاج الجديد ليس اختراعاً مغربياً صرفاً، بل جزء من موجة عالمية انطلقت من جنوب آسيا، من نيبال وبنغلاديش وسريلانكا، قبل أن تصل إلى أفريقيا جنوب الصحراء في كينيا ومدغشقر. انتفاضات شبابية مشابهة قادها أفراد "جيل زد"، مستخدمين الأدوات الرقمية نفسها، واللغة الاحتجاجية نفسها التي تجمع بين بساطة المطالب وجرأة الموقف. واليوم، المغرب أول بلد عربي وأفريقي شمالي يواجه هذه الموجة، ما يضعه في قلب ظاهرة عالمية تعيد تعريف السياسة من خارج قنواتها التقليدية. جيل جديد من شباب في مقتبل العمر، غارقون في العالم الافتراضي، يرفضون التسميات الأيديولوجية، لكنّهم يمتلكون وعياً سياسياً متّقداً، ولهم قدرة لافتة على التنظيم السريع والمرونة التكتيكية، يرفضون الانتظار، ويصرّون على مطالب ملموسة وآنية وحلول فورية. وفي الشارع يتحرّكون وفق تكتيكات مرنة تربك الأجهزة الأمنية: احتجاجات متفرّقة ومتزامنة، تغييرات سريعة في المسارات وأماكن الاحتجاج، واعتماد كبير على تقنيات البثّ المباشر والتنسيق اللحظي بين فرق صغيرة تتحرّك منفصلةً، وفي الآن نفسه، وفي أكثر من مكان في المدينة نفسها لإرباك قوات الأمن وتشتيت انتباهها وتركيز عناصرها. هنا، يظهر أن "جيل تيك توك"، الذي صُوّر طويلاً جيلاً سلبياً ومنعزلاً، إنما هو جيل يعيد اختراع السياسة بوسائله الخاصة، ويكسر حاجز الخوف في فضاء عام كان يعيش نوعاً من الشلل.
ولكن السياق المغربي يضفي خصوصيةً على هذه الحركة التي لها جذورها المحلية، فالمجتمع كان يعيش منذ سنوات حالةً من الانسداد، قمع متزايد للحريات العامة، تفريغ الأحزاب من محتواها، إضعاف النقابات، وجود مؤسّسات شكلية فاقدة للمصداقية أفرزتها انتخابات مطعون في نزاهتها، وتراجع النقاش العمومي بفعل التضييق على الصحافة المستقلّة لصالح إعلام تفاهة مموّل من المال العمومي. ترافق ذلك مع وضع اقتصادي واجتماعي صعب بفعل ارتفاع تضخّم الأسعار، وارتفاع معدّلات البطالة، وتفاقم الفوارق الطبقية، وتفشّي الفساد، وغياب العدالة الاجتماعية، وتوجيه استثمارات ضخمة على حساب خدمات أساسية، إلى مشاريع رمزية مثل كأس العالم 2030، بينما القرى والمناطق المهمّشة تعاني نقص الماء والطرق والخدمات الأساسية، كلّها عناصر غذّت حالة الاحتقان الاجتماعي. هذه الخلفية جعلت ظهور "جيل زد" أشبه بانفجار مكتوم منذ سنوات، وليس مجرّد ارتجال شبابي عابر.

المشهد اليوم في المغرب أكثر تعقيداً في غياب أيّ مخاطب رسمي يملك شرعية الحوار مع المحتجّين

يؤكد التاريخ المغربي نفسه الطبيعة الدورية لهذه الهزّات، فمنذ أحداث الدار البيضاء الدامية عام 1965، شهدت البلاد موجات احتجاج كبرى في أعوام 1981 و1984 و1991 و2011، وفي كل مرّة كانت السلطة تردّ بمزيج من العنف والانفتاح الجزئي، قبل أن تعود سريعاً إلى سياسة الضبط، والنتيجة تراكم احتقان يولّد انفجاراتٍ جديدة، غالباً أشدّ قوة، وكأنّ البلاد تعيش وفق إيقاع زلازل اجتماعية تتكرّر كل بضع سنوات، تخمد فترةً، ثمّ تعود أقوى بفعل انسداد الأفق. ما يجري اليوم يبدو استمراراً لهذا النمط، لكن بفاعل اجتماعي جديد كلياً: جيل وُلد ونشأ في العالم الرقمي، يمتلك أدوات اتصال وتنظيم تختلف جذرياً عن أدوات الأجيال السابقة، ويصعب على السلطة التقليدية احتواؤه بالأساليب نفسها.
المفارقة أن هذا الجيل، رغم رفضه الأحزاب والنقابات، ليس غير سياسي. على العكس، وعيه السياسي متقدّم، لكنّه لا يثق في مؤسّساتٍ يعتبرها فاسدةً أو فاقدةً للمصداقية والشرعية. جيل "ضدّ المؤسّسات" لا بمعنى اللامبالاة، بل بمعنى البحث عن أفق بديل خارج البنى القائمة. هذه النقطة بالذات تُقلق السلطة، لأنها تعني أن الوساطات المعتادة كلّها قد فقدت صلاحيتها، فلم تعد الأحزاب قادرةً على لعب دور الوسيط، ولا النقابات قادرة على ضبط الشارع، والمعادلة باتت مباشرةً: شباب محتجّ مقابل قوات أمن، في غياب أيّ قنوات حوار وممثّلي الوساطة.
اليوم، يكاد يكون المشهد أكثر تعقيداً في غياب أيّ مخاطب رسمي يملك شرعية الحوار مع المحتجّين، وحدها المؤسّسة الملكية تبقى، موضوعياً ورمزياً، قادرةً على فتح أفق للحوار والحلّ، أمّا استمرار القمع فقد يخنق المظاهرات مؤقتاً، لكنّه يضاعف منسوب الغضب ويشوّه صورة المغرب دولياً، وهو مقبل على مواعيد تنظيم تظاهرات رياضية كبُرى يُفترض أن تكرّس صورته بلد الاستقرار والانفتاح. ويبقى الخيار السياسي وحده القادر على إحداث انفراج: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، مراجعة المقاربة الأمنية وإعادة هيكلة قطاع أمني حوّل المغرب دولةً بوليسيةً، فتح المجال أمام صحافة حرّة وتوسيع هامش وسقف النقاش العمومي، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع عبر إصلاحات جريئة تشمل انتخابات مبكّرة وقوانين انتخابية أكثر ديمقراطية. الكرة في النهاية ليست في ملعب الشباب وحدهم، بل في ملعب الدولة، التي إن واصلت إنكار الحقائق وتضييع الوقت، ستجد نفسها أمام موجاتٍ أعنف وأعمق. اللحظة الراهنة فرصة نادرة لإعادة وصل ما انقطع بين السلطة والمجتمع، لكنّها فرصة تتطلّب شجاعةً سياسيةً وقراراتٍ سياديةً تعيد رسم أفق جديد، قبل أن تتكرّس القطيعة نهائياً.

اللحظة الراهنة فرصة نادرة لإعادة وصل ما انقطع بين السلطة والمجتمع، لكنها تتطلّب شجاعة سياسية وقرارات سيادية

اللحظة الحالية، إذن، لحظة مفصلية. فهي تكشف حدود النموذج القائم على الضبط الأمني والاستثمار في الصورة الخارجية التي تركّز في المظاهر أكثر من تركيزها في الإنجازات، على حساب معالجة الأعطاب البنيوية الداخلية المزمنة، وتضع المغرب أمام تحدّي الاعتراف بأن السياسة لا تُختزل في مؤسّسات شكلية وواجهات جميلة، بل تعني فتح أفق حقيقي للنقاش العمومي والمحاسبة والإصلاح. "جيل زد" ليس شبحاً عابراً، بل مرآة تعكس اختناقاً اجتماعياً وسياسياً طويلاً. تجاهل هذه المرآة أو محاولة كسرها بالقمع لن يُخفيا الحقيقة: أن جيلاً جديداً قرّر استعادة الفضاء العام وطرح أسئلة جوهرية عن العدالة والحرية والكرامة.
أسئلة كثيرة تفرض نفسها: إلى متى يمكن الاستمرار في سياسة الإنكار؟ وهل يكفي الصمت الحكومي أو المقاربة الأمنية لتبريد الشارع؟ وإلى أيّ حدّ سيكون المغرب قادراً على إخماد هذه الشرارة وتحويلها إلى بداية دورة سياسية جديدة أكثر انفتاحاً وجرأة، بدل أن تتحوّل حلقةً جديدةً في تاريخ طويل من الهزّات المُؤجَّلة والانفجارات المتكرّرة؟ التجارب السابقة داخل المغرب وخارجه توحي بالعكس: الحلّ الأمني قد يُربح وقتاً، لكنه يخسر معركة الشرعية والإصلاح على المدى البعيد.

التطبيع مع المنكرات.. كيف يموت القلب ويسقط الأمر بالمعروف؟

التطبيع مع المنكرات.. كيف يموت القلب ويسقط الأمر بالمعروف؟



في بداية الأمر، لم يكن المنكر مقبولًا عند الناس، كانوا يرونه دخيلًا على حياتهم ومخالفًا لما تعودوا عليه من الفطرة والإيمان، فتنقبض له القلوب وتنكره الألسنة وتنفر منه الفطرة السليمة، لكن مع مرور الوقت، وبتكرار المشهد، وبكثرة المبررات، وبضغط الواقع الاجتماعي والإعلامي، يصبح للمنكر حضور عادي في البيت والشارع والمؤسسات، حتى يتسلل إلى النفس الفردية فلا يعود يثير دهشة أو يوقظ ضميرًا، وهنا تبدأ أخطر المراحل؛ مرحلة الألفة مع المنكر، حين يفقد الإنسان حرارة الرفض الداخلي، فيسكن قلبه صمت قاتل لا يعرف الإنكار.


الألفة مع المنكر.. عملية التطبيع التدريجية

هذه الألفة ليست مجرد حالة شعورية عابرة، بل هي عملية تطبيع تدريجية مع الشر والانحراف، يشارك فيها الإعلام الموجّه، والثقافة المتساهلة، والبيئة الاجتماعية المتأثرة، بل أحيانًا الأسرة ذاتها، حين يرى الطفل في بيته تجاوزًا فلا يُعلَّم أنه خطأ، وحين يشاهد الشاب في مجتمعه مظاهر الفساد دون أن يجد من يصححها، تتراكم عنده قناعة باطلة أن هذه الممارسات عادية وطبيعية، وأنها لا تستحق الوقوف عندها، فينمو جيلٌ لا ينكر المنكر لأنه لم يتربَّ على حساسيته، بل قد يستغرب ممن ينكره أو يعدّه متشددًا.


أسباب ضعف الإيمان واعتياد الباطل

تتجذر المشكلة في ضعف الإيمان أولًا، إذ إن القلب الحي يأنس بالمعروف ويشمئز من المنكر، فإذا ضعف الإيمان دبّ فيه البلاء الأعظم؛ اعتياد الباطل، ويعزز هذا الضعف عوامل أخرى؛ منها ضغط العادات الاجتماعية التي تجعل الحرام مقبولًا إذا عمّت به البلوى، ومنها سطوة الإعلام الذي يصنع قدوات مزيفة، ويعيد تشكيل الذوق العام حتى يربط بين الانحراف والنجاح أو الجاذبية أو الحرية، ومن العوامل كذلك ضعف التربية الأسرية، حين يُغفل الوالدان دور التنبيه على الخطأ، فينشأ الأبناء على التكيف مع أي صورة دون غربلة قيمية، ولا ننسى أثر العولمة التي تذيب الخصوصيات وتفرض نمطًا واحدًا من الحياة يجعل المنكرات متاحة وسهلة، حتى لا تكاد تجد مساحة خالية من الدعوة إليها.


أخطر الآثار..سقوط فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن أخطر آثار هذه الألفة أنها تصيب شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مقتل، إذ تنزع من الناس روح المبادرة للإنكار، فيصير المعروف غريبًا والمنكر مقبولًا، وتفقد الأمة بذلك صفتها التي ميّزها الله بها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، فإذا غابت هذه الخصيصة، تآكلت الهوية الإيمانية وفقد المجتمع حصانته الداخلية، فلا ينكر الناس ولا يتناهون عن باطل، فيحل بهم العقاب العام كما ورد في النصوص.


خطة إحياء القلب والتربية الواعية

والحل يبدأ أولًا من إعادة إحياء القلب بالإيمان، فإن القلب الحي هو جهاز الإنذار الذي يمنع الانزلاق في مستنقع الألفة، ثم من التربية الواعية التي تغرس في الأبناء منذ الصغر الحياء من المعصية والغيرة على المعروف، ويحتاج المجتمع كذلك إلى إعلام مسؤول يوازن الكفة ويعيد الاعتبار للقيم الأصيلة بدلًا من تسويق الانحراف.


كما يحتاج إلى أصوات صادقة في كل بيت ومدرسة ومسجد تذكّر بخطورة التطبيع مع المنكرات، وتعيد إحياء فريضة الإنكار بالأسلوب الحكيم والرفق الذي لا يثير النفور، بل يفتح الأبواب للتوبة والرجوع، فإذا اجتمعت هذه العوامل، عاد المنكر إلى مكانه الطبيعي غريبًا مستنكرًا، وعاد المعروف إلى مكانته عزيزًا حاضرًا.

لماذا قد تختار حماس "عدم إعاقة" خطة ترامب؟

 لماذا قد تختار حماس "عدم إعاقة" خطة ترامب؟

باحث في علم الاجتماع السياسي والحركات الاجتماعية.

لا شك أن حركة حماس تمر بأصعب وضع تاريخي منذ تأسيسها عام 1987، وقد يكون قرارها المتعلق بالموقف من خطة ترامب لوقف الحرب أصعب من مرارة الحرب التي خاضتها والشعب الفلسطيني على مدار عامين كاملين من الإبادة الجماعية والخذلان الدولي، لكن السياسة لا تتقبل العواطف.

كما أن حماس وإن كانت في مأزق إستراتيجي، فإن إسرائيل ذاتها في مأزق تاريخي لن تخرج منه كما كانت، أيا تكن الظروف، ومهما كانت السياقات والسيناريوهات.

قد يكون من الأفضل لحركة حماس وفصائل المقاومة إعلان موقف فوري عن "عدم إعاقة" تطبيق خطة ترامب لوقف الحرب على غزة وحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية، وفتح المجال أمام إغاثة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بما يليق بتضحياته.

في المقابل يجب- وليس مطلوبا- ألا يتضمن موقف الحركة إعلانا مباشرا بالقبول بالخطة أو حتى رفضها، ليبقى ذلك الموقف هلاميا؛ فهي وغيرها من حركات المقاومة ليست ملزمة بأن يملى عليها ماهية الموقف الذي يجب أن تتخذه؛ لأن المطروح خطة وليس اتفاقا.

إن إعلان "عدم إعاقة" الاتفاق يتضمن رسالة واضحة: 

أن الحركة ليست ضد الإرادة العربية والدولية في وقف الإبادة، إضافة إلى أن وقف الإبادة هو مطلب الكل الفلسطيني قبل كل شيء، وهذا يشمل الطلب العاجل في ذات الموقف، إرسال الطواقم الفنية التي ستعمل على التفاصيل استنادا إلى حرص المقاومة على عامل الوقت الذي يعني في كل دقيقة ضحية جديدة، وحرصها على عدم إعاقة تطبيق هذه الخطة.

يتمثل موقف "عدم الإعاقة " في موافقة الحركة على المحددات الرئيسية للمرحلة المقبلة، وهي: وقف إطلاق النار، تبادل الأسرى، وإغلاق هذا الملف، وأن تؤكد حماس موافقتها على أنها لا تريد ولا ترغب بأن تكون جزءا من أية إدارة لقطاع غزة، مع اشتراط أن تكون تلك الإدارة الجديدة عملية وقابلة للحياة، وغير مهددة للسلم الأهلي وفق السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لقطاع غزة.

أما أن تكون هذه الإدارة مختلطة، بحيث تضم في قيادتها فلسطينيين من قطاع غزة وأجانب، فيجب

- بأي حال من الأحوال- ألا تكون مشكلة أو تثير حساسية كبيرة، شريطة أن يكون ذلك جزءا من عملية انتقالية وليس إدارة دائمة، وأن يربط الموقف الفلسطيني بين كل ما سبق، والطلب الواضح أن تتضمن إحدى المراحل انتخابات ديمقراطية وشفافة يحترم نتائجها المجتمع الدولي.

تأكيدا لموقف تقليل الحساسية من وجود بعض القيادات الأجنبية في إدارة قطاع غزة، فذلك ليس غريبا على الحالة الراهنة لسببين:

  • الأول، أن غالبية الخدمات في قطاع غزة تقدم أساسا وتاريخيا من قبل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"؛ بحكم أن غالبية سكان قطاع غزة لاجئون، ودائما ما كانت الإدارة العليا للأونروا ومفوضوها أجانب.
  • ثانيا، أن الواقع العام لقطاع غزة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول محكوم بنحو خمسين شخصا يمثلون الحكومة الفعلية لغزة، وهم يمثلون مؤسسات دولية ومرتبطون بمجموعة واتساب مع قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، وهم من يحدد من يدخل ومن يخرج، وماذا يدخل ويخرج، وكل أشكال الإغاثة والمساعدات، ولهم قواعدهم الميدانية في القطاع.

بالتالي فإن القطاع حاليا محكوم ويدار بتلك المؤسسات الدولية بشكل عملي ولا دور يذكر سواء للحكومة في رام الله، أو الحكومة السابقة في قطاع غزة التي تستهدف قوات الاحتلال أي تحرك مدني لها على الأرض.

لذلك فإن الموقف المنطقي في هذا البند، هو التأكيد على أن تكون هيئات الأمم المتحدة شريكا أصيلا في إدارة المرحلة المقبلة، وهذا موقف ستدعمه كثير من الدول؛ يعني ذلك أنه عطفا على موقف عدم الإعاقة، فإن الطلب المباشر، هو دور أصيل لهيئات الأمم المتحدة في إدارة هذه الخطة.

من المؤكد أن هذا الموقف سيكون مجالا للتشكيك إسرائيليا وأميركيا، لكن يجب أن يكون واضحا أنه وفقا للبروتوكولات المطروحة، فإن خطة ترامب لا تتضمن اتفاقا بل مسمى خطة، ويوجد فرق كبير بين مسمى خطة، ومسمى اتفاق.

أنت تطرح خطة كطرف ثالث- إن جاز لنا بروتوكوليا أن نعتبر الأميركان طرفا ثالثا- الأمر الطبيعي أن تتوافر خيارات متعددة في التعبير عن الموقف تجاه هذه الخطة، ومنها الحد الأدنى المطلوب من الطرف المقابل، وهو التعبير عن عدم إعاقة تطبيق الخطة.

أما لو طُرح الأمر بشكل مختلف، وهو خيار التوصل إلى اتفاق ثنائي، كما في جولات الحروب السابقة مع قطاع غزة، فعندها يصبح لازما تقديم موقف واضح بالرفض أو الإيجاب. 

لكن أن تُطرح خطة وليس اتفاقا، وتتضمن إلغاء الطرف الآخر، واعتباره غير موجود، ثم يطلب موافقته على هذه الخطة، فهذا غير منطقي على الإطلاق!

إن القاعدة الرئيسية التي يجب على المقاومة في قطاع غزة أن تأخذها بعين الاعتبار في قرارها، هي أن السمة المميزة للعلاقات الدولية في منطقة "الشرق الأوسط"، عدم احترام الاتفاقيات والتعهدات والالتزامات، وسادة هذا النهج في العالم، الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، لا سيما في ظل اهتزازات النظام الدولي ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية.

وهذه ميزة ومثلبة في ذات الوقت على الأقل في هذه المرحلة التي لا يستطيع حتى من يديرونها التنبؤ بها؛ ومخطئ تماما من يعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تسيران وفق توجهات إستراتيجية واضحة في إدارة المنطقة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والاستنزاف الكبير لكل الأطراف في هذه الحرب.

إن ما يجب التذكير به في خضم كل هذه المواجهة غير المسبوقة، هو أن إسرائيل لم تحسم أي ملف منها طوال عامين، لا ملف غزة، ولا ملف الضفة الغربية، ولا ملف لبنان، ولا ملف سوريا، ولا ملف إيران، ولا حتى ملفات بعيدة كملف اليمن، ولن تحسم أي ملف منها أو غيرها في المستقبل.

ستبدأ أزمات إسرائيل الداخلية والخارجية، إذ إن تداعيات الحرب عليها فور انتهائها أكثر بكثير مما جرى خلالها، بينما يتطلب ذلك فلسطينيا البناء على الزخم الدولي الذي لا فضل فيه لأحد إلا لدماء أطفال ونساء غزة التي أحدثت التحول الجذري الذي يتطلب جهدا ضخما وممنهجا لاستدامته.

كما أن عنوان المرحلة المقبلة من الصراع، هو المناصرة الدولية في قضية الفصل العنصري؛ إذ توجد ركيزتان أساسيتان في الكود الأخلاقي الغربي لرواية وصورة إسرائيل: الهولوكوست والديمقراطية، أما الأولى فقد أنهاها وسم الإبادة، والثانية ينهيها وسم الفصل العنصري.

إن القضية الفلسطينية أمام منعطفات تاريخية وصعبة وقاسية جدا في مواجهة المنظور الإسرائيلي "للحسم التاريخي" للصراع على الأرض، لكنها في المقابل أمام فرص غير مسبوقة أنتجتها أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاها من حرب إبادة مريرة أخرجت القضية الفلسطينية من تابوت التصفية والإنهاء الكامل إلى فضاءات لم يعد بالإمكان تجاوزها إذا ما أحسن الفلسطينيون وداعموهم استثمارها في المرحلة المقبلة.

وفي النهاية لن تستقر هذه المنطقة إلا بحل عادل للشعب الفلسطيني، ولن تستطيع أي قوة شطب تاريخ ورواية ومقاومة وحياة الشعب الفلسطيني.

الرسائل الأكاديمية من ضمور التكوين وشهادة الزور إلى إصلاح المسار

الرسائل الأكاديمية من ضمور التكوين وشهادة الزور إلى إصلاح المسار


د. وصفي عاشور أبو زيد
 أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية

لقد غدت الرسائل الجامعية في عصرنا، ولا سيما في ميدان الدراسات الشرعية، أشبه بأشباحٍ لا روح فيها، وهياكل لا عظم لها؛ فأنت تراها تُساق على عجل، منقولةً باردةً، لا تكاد تُبصر فيها شخصية الباحث، ولا يلوح لك منها أثرُ عقلٍ ناضج أو قلمٍ مبدع، فكأن الطالب لم يُكلَّف إلا بالجمع والتكديس، دون تمحيص أو تحليل أو نظرٍ بعيد؛ فإذا أضفت إلى ذلك ضمور حجم الرسائل، حتى صارت وجيزات لا تتسع لجديدٍ ولا تفتح بابًا لإضافة، بان لك العجزُ عن استيعاب مقاصد العلوم الشرعية؛ إذ أُخضعت قسرًا لمعايير العلوم التجريبية ومقاييسها الصلبة، فكان ذلك إفسادًا للمنهج، وتشويهًا لرسالة العلم.

ولم يقف الأمر عند قصور الطلاب، بل جاوزه إلى قاعات المناقشة وما يَجري فيها من مجاملات، يتواطأ فيها المشرف والمناقش على تبادل الأدوار بشكل تلقائي؛ فيجامل هذا ذاك اليوم، ليُردّ له الدين غدًا، فتضيع الأمانة، وتتهاوى قيمة الشهادة، ويُكتب على البحث شهادة زور إلا ما رحم ربي.

ثم جاءت آفة العصر، وهي السرقات العلمية، لتزيد الطين بلة؛ فالباحث يجتهد في إخفاء سرقته أكثر مما يجتهد في الإتيان بجديد، وكل ذلك مما يَسْهُلُ كشفُه، ولكن الخسارة الكبرى تصيب الطالب والعملية الأكاديمية معًا، إذ يُهدم البناء من أساسه.

وهكذا تتراكم حلقات الضعف: 
قصورٌ في الطالب، وتهاون في الأستاذ، ومجاملات في المناقشات، وسرقات مستورة بستر واهن، حتى أوشكت العملية الأكاديمية برمتها أن تدخل في طورٍ من الانحطاط والضمور، وما لم يُتدارك الأمر بحزم، ويُعاد النظر في شروط نيل الشهادات، حتى لا يَنالها إلا المؤهَّلون حقًّا، فسوف يسجل التاريخ أن المشرف والمناقش قد شهدا زورًا، وأنهم حملوا وزرًا أمام الله وأمام الأجيال، يُثقل ظهورهم ولا تُغفر تبعاته.

ولا يمكننا أن ننهض بإصلاح هذا الأمر إلا بعودة النظر إلى التكوين العلمي من مراحله الأولى؛ فالمسؤولية لا تبدأ عند أبواب الدراسات العليا، بل تُبنى اللبنات منذ المراحل التمهيدية، حين يُغرس في الطالب حبُّ العلم، ويُزوَّد بأدوات البحث، ويُدرَّب على الكتابة المنهجية، والقراءة النقدية، والتذوق العلمي للنصوص؛ فإذا وصل إلى مرحلة الماجستير والدكتوراه كان قد حصَّل عُدته، وتمكَّن من ناصيته، فيوفِّر على نفسه جهدًا مضاعفًا، ويُجنِّب أستاذه عناء التلقين وإعادة الأساسيات، وتحيا بذلك العملية الأكاديمية من داخلها.

وإذا كان التكوين العلمي المبكر هو عصب الإصلاح وروحه، فإن غيابه كارثة تُفسد العمل الأكاديمي من أساسه؛ إذ يُدفع إلى ميدان الدراسات العليا من لم يُؤهَّل لمدارجه، فيخوض غمارًا لا يُحسن السباحة فيه، ويُجهد أستاذه معه في تصحيح البدهيات، وملاحقة النواقص، ومداواة العجز، حتى تضيع الجهود في ترميم ما كان ينبغي أن يُبنى في الصغر، وفي النهاية لا نكون أمام باحثٍ قادر على أداء رسالته، بل أمام منتجٍ هزيل لا يصلح للقيام بمهامه، ولا لتحقيق مقاصده، فتغدو الشهادة غطاءً فارغًا لا حقيقة تحته، ويخسر العلم طلابًا، وتخسر الأمة علماء.

ونحن بحاجةٍ اليوم إلى تربية جيلٍ في كل التخصصات، يجدد العلم، ويقدِّم النافع، وتكون إنجازاته مثمرةً لدينه ومجتمعه؛ جيلاً ينهل من الأصول، ويبدع في الفروع، ويضيف إلى التراث بدل أن يكون عالةً عليه، ويجتهد لواقعه وعصره كما اجتهد من سبقوه لواقعهم وعصرهم، ولن يتحقق هذا المقصد إلا بالتكوين المبكر المتين، ولن يثمر هذا التكوين إلا إذا قام عليه الأستاذ المربي والعالم العامل، الذي يدرك أن التعليم رسالة، وأن التربية فن، وأن التكوين العلمي الصادق هو الطريق الأقوم لنهضة الأمة وبعث حضارتها من جديد.

وإذا تحقق هذا التكوين المبكر، نهضت الأجيال على صلابة، وأثمرت العملية التعليمية طلابًا مؤهَّلين وباحثين جادين، وانبعث ميدان البحث العلمي نابضًا بالحياة، متصلًا بالواقع، مبدعًا في النظر، مخلصًا في الغاية؛ فالتربية المبكرة على الجدّ، والتدرج الرصين في مدارج العلم، هما الكفيلان ببعث الحيوية في أوصال المؤسسة الأكاديمية، وتعظيم ثمرتها للأمة في حاضرها ومستقبلها.

فإن كان هذا هو المشهد الذي نراه، فليس القدر حتمًا، ولا المصير لازمًا، وإنما هو داءٌ قد عُرف سببه، فلا بد أن يُلتمس له الدواء، والدواء في كلمة واحدة: الجدّ والصرامة؛ جدٌّ يعيد للعلم جلاله، وللشهادة هيبتها، وللأستاذ مكانته، وللباحث شخصيته، وصرامةٌ تُقصي المجاملات، وتستأصل السرقات، وتَردُّ الأمر إلى نصابه، فلا يُمنح لقب علمي إلا لمن استحقه بجهده ونضجه وأصالته، وعندها فقط تستعيد العملية الأكاديمية بريقها، ويعود العلم الشرعي إلى مكانه الطاهر؛ علمًا يُورِث خشيةً، ويَهدي أمةً، ويُشيّد حضارةً، وما ذلك على الله بعزيز.

أوليا جلبي..ابن بطوطة التركي في رحلته إلى القدس وغزة

أوليا جلبي..ابن بطوطة التركي في رحلته إلى القدس وغزة


  تيسير خلف  


رسم لمسجد عمر بالقدس في 1753


زار الرحالة العثماني الكبير أوليا جلبي المتوفى سنة 1090 هجرية/ 1679 ميلادية، فلسطين أكثر من مرة ودوَّن وقائع زياراته في رحلته الشهيرة سياحة نامة سي، ذات الأجزاء الكثيرة، والتي تعد واحدة من أكبر وأشهر الرحلات في العالم الإسلامي خلال حقبة ازدهار الإمبراطورية العثمانية. 
 اسمه محمد ظلي أفندي ويسميه بعض المستشرقين ابن بطوطة التركي. ولد في إسطنبول عام 1020 هجرية/ 1611 ميلادية من أبوين أبخازيين من القفقاس. كان جده الثاني حاملاً للواء السلطان محمد الثاني فاتح القسطنطينية، ووالده درويش كان جواهري البلاط السلطاني (قويومجي باشي) وكان يصحب السلطان سليمان القانوني في حملاته العسكرية. أما أمه فكانت أُختاً للصدر الأعظم. 

 كان أوليا جلبي ذا ميل للدراسات العلمية ولذلك فقد عمل (حافظاً) في مسجد آيا صوفيا، وهناك سنحت له فرصة التعرف بالسلطان مراد الرابع الذي أعجب بصوته في تلاوة القرآن فرفعه إلى قصره وجعله من ندمائه. 

 لكن حياة القصور لم ترق له، فغادرها في رحلة استمرت خمسين عاما زار خلالها معظم مناطق العالم الإسلامي وأوروبا، مرة بصفة إمام، ومرة وحده. وخلال أسفاره رافق أهم الجيوش العثمانية إلى الشرق والغرب، واستطاع أن يرى أكثر بلاد الأناضول والروم والقفقاس، ووصل جزيرة كريت، وجال في إيران وفيينا وألمانيا والسويد، وهولندا وبولندا وروسيا وهنغاريا وبلغاريا واليونان والبوسنة وبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية ومصر وغيرها. 

 ويُعد مصنّف أوليا جلبي من أهم الوثائق التي تصف العصر الذي عاش فيه. وهو يزودنا بتفصيلات غنية عن الأقطار التي زارها وعادات شعوبها وأحوالها الفكرية والاجتماعية ونظم حكوماتها ومعاهدها ومنشآتها وآثارها القديمة التي أولاها قدراً كبيراً من اهتمامه وخص منها بعنايته ـ شأنه شأن الهروي ـ المساجد والمزارات والأضرحة. ويتضمن مصنفه حكايات كثيرة عن كرامات الأولياء والأنبياء، ومنها حكايات تتميز بصبغة أسطورية واضحة بسبب تدينه الشديد وتصوفه في عصر انتشر فيه التصوف وعمّ الأقطار الإسلامية. 

 وقد أجمل موردتمان (1852 ـ 1932) الواسع الاطلاع على الثقافة التركية القول في أوليا جلبي حين قال: 
"لقد كان أوليا جلبي كاتباً خصب الخيال مع جنوح واضح إلى الغريب وإلى المخاطر، وهو يفضل الأسطورة على الوقائع التاريخية الجافة ويلذ له الدخول في المبالغات بحيث يبلغ في ذلك حد الإسفاف. فإذا ما وضعنا في حسابنا هذه النقائص فإنه يجب الاعتراف من جهةٍ أخرى بأن كتابه ذخيرة لا تنفد في جميع ما يمس الحياة الاجتماعية والأدب الشعبي والجغرافيا وأنه يعرض كل هذا في أسلوب يمتاز بالبساطة والحيوية معاً". 

 زار أوليا جلبي بلاد الشام مرتين الأولى عام 1058 هجرية/ 1648 ميلادية، صحبة الوزير مرتضى باشا الكرجي المعروف بالسلحدار، والمعيّن واليا على الشام. وأخبار هذه الرحلة في المجلد الثالث من الكتاب. وأما الثانية فكانت في عام 1082 هجرية/ 1671 ميلادية في طريقه إلى الحج وأخبارها في المجلد التاسع. 
 في صفد والجليل 
 وفد جلبي إلى القدس قادماً من صيدا على الساحل الشامي، فسار جنوباً محاذاة البحر ثم انعطف صاعداً إلى المنطقة الجبلية فزار يارون والجش والسوق العتيق وقرية ميرون وعين الزيتون وهي تقع على بعد 12 كم إلى الشمال الغربي من صفد على الطريق التاريخي الذي يصلها بعكا والساحل. 

 ثم زار مدينة صفد التي وصفها بشكل شبه مفصل، فقال عن جامع الملك الظاهر الذي يسمى أيضاً بالجامع الأحمر: إنه كانت تغطي المسجد من الخارج قبة رصاصية، كما غطى الرصاص رأس المئذنة التي تشبه الأبراج في ضخامتها وعلوها، وقد اكتسب هذا الجامع اسمه من حجارته الحمراء المصقولة، وفوق المحراب كتبت سورة العرش بخط جميل. كما تحدث عن جامع الصواوين فقال: "وفي محلة الصواوين جامع الشيخ عيسى وصاحبه مدفون في ساحته". 

 ثم زار مقام "أبو قميص" وبحيرة المنية (طبرية) وقلعتها وقام بزيارات للمشاهد مختلفة في منطقة صفد وطبرية. وبعدئذٍ واصل سفره إلى قلعة عين التجار (اليوم خان التجار وخان السوق) فجبل طابور فاللجون فقرية نَيْن (في مرج ابن عامر) فقرية زرعين (في المرج نفسه). ثم زار جنين وقباطية وعرابة والمغارة والفندقومية وسبسطية. ومن هناك اتجه إلى عكا والناقورة، ثم عاد إلى دير شرف وبيت ايبا وجنين مرة أخرى. 

 ونجد بعد ذلك في رحلته المحطات التالية: نابلس التي يصف فيها الجامع الكبير حيث يقول إن محرابه الحالي "كان مدخل كنيسة من الناحية الشرقية، وعلى جانبي المدخل يوجد ثمانية أعمدة ممشوقة من الرخام يرتكز عليها قوس الجامع الذي هو آية في فن البناء، ويبلغ طول الجامع 300 خطوة وعرضه 100 خطوة، ومجموع ما فيه من الأعمدة 55 عموداً. ومحرابه واسع جداً ومنبره قديم". ثم زار قرى عسكر، وبلاطة، وعورتا، وحوارة، وبيتا، وعقربة، والزاوية، وخان اللبن (عقبة اللبن)، وسنجل، والبيرة، والنبي شمويل (صمويل)، وعين الظاهر بيبرس (قرب قرية العنب "أبو غوش") والشيخ جراح بظاهر القدس، فالقدس. 
 ويقول أوليا جلبي: "عندما قام سليم بتخليص البلاد من أيدي المماليك كان بشالق فلسطين يتألف من السناجق التالية: غزة وجبل عجلون واللجون ونابلس والقدس. وهذه السناجق يديرها الباشا. وهناك خمسة سناجق أخرى تحت حكم زعماء البادية يديرونها كأنها ملك خاص لهم، ولكنهم يدينون في الوقت نفسه بالولاء للسلطان. وفي هذه الولاية بعض القرى المخصصة للأوقاف إلا أن معظم القرى تتبع أرباب الإقطاعات من الزعماء والتيماريين، وهم قادة الفرسان الإقطاعيين. وهناك أيضاً قائد قوات السنجق. وقائد الانكشارية". 
 فتح السلطان سليم للقدس 
وحول دخول السلطان سليم إلى القدس يقول جلبي: "عندما خرجت القدس من حوزة المماليك الشراكسة، خرج كل العلماء والصالحين لملاقاة سليم شاه سنة 922 هجرية (1516م). وسلموه مفاتيح المسجد الأقصى وقبة صخرة الله، وسجد سليم وهتف قائلاً: "الحمد لله أنا الآن صاحب مسجد القبلة الأولى" ثم وزع الهدايا على جميع الأعيان وأعفاهم من الضرائب الباهظة وثبتهم في وظائفهم، ثم أدار الوثائق العمرية التي كانت في حوزة رهبان الروم والفرنجة أمام وجهه وعينيه وأعطاهم خطاً شريفاً أكد للرهبان فيه ما جاء في تلك الوثائق، أي أنهم كانوا معفيين من أداء الضرائب وأن كنيسة أنسطاسيا (المقصود القيامة) تظل مكان الصلاة الرئيسي بالنسبة لهم كما كانت حتى الآن.. 
 وعين السلطان سليم باشا حاكماً على المدينة وثبِّت مولانا أخفش زادة شيخ الدراويش المولوية في منصبه ومنح 500 أقجة على سبيل الصدقة.. وتم تخليص إيالة فلسطين من يد المماليك، وهي ما تزال تعتبر نوعاً من "إقطاعية شعير" تمنح لأرباب المناصب الكبيرة، ويبلغ محصولها العائد إلى السلطان 357.485 أقجة، وفيها تسع زعامات و 106 تيمارات. ولدى حاكم القدس 500 جندي يأتمرون بأمره وهو أمير الحاج الشامي. وأمير حجاج مكة في الذهاب والإياب. وتبلغ مخصصاته السنوية 40.000 قرش". 
 ويتابع وصفه لحال القدس في زمنه: "إنها ولاية مزدهرة. لكن أرباب الإقطاعيات فيها لا يؤمرون بالخدمة في الميدان. وما على هؤلاء إلا أن يرافقوا وهم يحملون إعلامهم الحجاج القادمين ويأخذوهم إلى مكان الحج الذي يقصدونه. ويبلغ عددهم جميعاً ستمائة رجل.. ويتلقى قاضي القدس، وهو الحاكم المدني، مخصصات تعادل مخصصات الباشا، ولأن المنطقة التي ينفذ حكمه فيها تعد ألفاً وستمائة قرية يعين في كل منها نائب شرع، وذلك أن ولايته رفيعة المقام. وعندما يظهر أحياناً أن البطاركة والقسس والشمامسة والرهبان والقساوسة المتزوجين يخلفون بعد وفاتهم بعض الأموال فإن الملا (القاضي الكبير) والباشا يحصلان من تلك الأموال على ما يتراوح بين أربعين وخمسين ألف قرش. ويحدث ذلك بوجه خاص في عيد الفصح الشائن عندما يذهب الملا والباشا إلى باب كنيسة الأنسطاسيا (القيامة) الذي لا يفتح في ذلك اليوم قبل وصولهما إلى هناك، ويأخذ القسيس من كل حاج من الحجاج الذين يتراوح عددهم بين الخمسة آلاف والعشرة آلاف ما بين عشرة قروش وخمسة عشر قرشاً. ويعطى الملا والباشا مبلغاً كبيراً". 
 مدينة مدججة بالسلاح 
 بعد ذلك يصف رحالتنا الوضع العسكري في القدس فيقول: "هناك في القدس قائد الفرسان (آغا السباهية) وقائد الانكشارية وقائد لانكشارية دمشق ومناصب للشيوخ الأربعة للمذاهب الأربعة، ونقيب للأشراف. أما الأشراف والأعيان والعلماء والصالحون فعددهم كبير جداً. وهناك أيضاً قائد القلعة (الدزدار) ويتبعه حامية تتألف من مائتي رجل.. ويرسل الملا جنوداً من الحامية إلى الجهات الصعبة في البلاد ليكونوا تحت تصرف القضاة المقيمين في القدس والخليل ونابلس والرملة والكرك واللجون وجنين. 
 وقد جمعت هذه المناطق كلها تحت ولاية قاضي القدس. وتضم المناطق أحياناً إلى منطقة القدس تبعاً لمقدرة الملا، ولكنه يعين في بعض الأحيان قاضياً لبضع سنوات للقدس وحدها. وباختصار فإن الحصيلة السنوية للإدارة القانونية في القدس تبلغ 40 ألف قرش". 
 ويضيف: "يتبع ملا القدس 20 ضابطاً (آغا) يعينون ببراءات من السلطان وأول هؤلاء المحضر باشي الذي يعينه السلطان في احتفال رسمي. وهو الحارس الليلي لأبواب المدينة، وينفذ مهام وظيفته بوساطة العساكر السلطانية. والآغا الثاني هو ناظر الشرطة الذي يعين خصيصاً للقدس وهو منصب عال يشتهيه الكثيرون. 
 والآغا الثالث هو المعمار باشي ـ (رئيس المعماريين)، والرابع هو المهندس باشي والخامس هو المعتمد باشي (كبير الوكلاء) والسادس الصَّراف باشي (أمين الصندوق الرئيسي) الذي يقوم شخصياً بدفع الهبات السنوية (الصرة) التي ترد من السلطان إلى العلماء والآغا السابع هو الخزندار باشي (أمين بيت المال) والثامن هو الصوباشي (ضابط الشرطة) والتاسع البازار باشي (المحتسب) والعاشر الكتخدا (رئيس البلدية) والحادي عشر: رئيس سوق القماش المقصَّب. وباختصار فإن رؤساء جميع فئات التجار يحضرون يومياً إلى المحكمة الشرعية لأداء واجباتهم". 
 غزة... مدينة مزدهرة العمران 
 يصل أوليا جلبي إلى غزة قادما من القدس فيقول في ذلك: "فما كدت أهبطها حتى توجهت إلى منزل حاكم الولاية حسين باشا. فسلمت عليه، وقدمت له احترامي. ثم ناولته رسالة مولاي مرتضى باشا والثياب الحريرية والهدايا الفاخرة الأخرى التي أحملها إليه منه. فسر بها كثيراً. وقال: أجل. إنه لفرض علينا إن شاء الله. ولا بد أن نرسل معك من يساعدك في تحصيل البقايا، وأن ندفع نحن ما علينا من دين. ولم يضن الباشا عليّ بشيء من لطفه وكرمه. 
 فأعدّ لي منزلاً خاصاً من منازله نزلت به. وقضيت الوقت كله معه في حديث وبحث وتدوين. فأيقنت أن الباشا صديق صادق قولاً وفعلاً. إنه خفيف الروح، لطيف المعشر، أكرم من حاتم طي، أديب، شاعر، ومؤرخ. وعندما علم الباشا أنني ميال للأسفار جمعني مع عدد كبير من علماء المدينة ومؤرخيها. فقضينا الوقت كله، ليلاً ونهاراً، في تتبع آثار المدينة وأخبارها". 
 ويضيف: "أما الآن فإن غزة عامرة، ولها مستقبل زاهر، فقد انتقلت عام 922 للهجرة من يد السلطان الغوري إلى يد السلطان سليم الأول. وهي الآن مركز لسنجق غزة التابع لولاية سوريا. والضرائب الأميرية المعينة لأمير اللواء فيها هي (508328) من الفضة. ولها سبع زعامات، ومئة وسبع تيمارات، وفيها، بموجب القانون، 1150 عسكرياً بينهم من يحملون رتبة (جبه لو). كما أن الباشا والآلاي بك فيها يسيران تحت لوائها.. وأما منصب القاضي، ذلك المنصب النبيل، فقد خصص له ثلاثمائة من الفضة. وعلاوة على هذا فإن مبلغاً قدره أربعة آلاف قرش يجمع من قراها لأجل القاضي، وآخر قدره ثمانون ألفاً لأجل الباشا". 
 ويصف أوليا جلبي سنجق غزة فيقول: 
"هذا السنجق مأهول بالسكان، ومزدهر بالعمران. وهناك شيخ للإسلام ملم بالفقه على المذاهب الأربعة الكبرى، ونقيب للأشراف، وأعيان، ونبلاء عظام، ورجال أفاضل، وكوكبة من السباهي المحترمين، ورجال ماهرون في مختلف الحرف والصنائع.. وهناك، فضلاً عن ذلك، نائب المدينة، وصوباشي، ومحتسب، ولما كانت هذه المدينة قد منحت منذ أيام السلطان سليم الأول إلى حسين باشا وأولاده من بعده وأسرته على مدى الحياة فإن جميع الضرائب التي تجنى فيها شخصية تخص الباشا". 
 وفي وصفه للمدينة يقول: "إن قلعة غزة التي بنيت في العهود الغابرة دمرها نبوخذ نصر. وأما حصنها الحالي فقد بني في وقت بعد ذلك التاريخ، إنه لحصن صغير، مربع الشكل، مبني من الحجارة الرملية في وسط الرمال على مسافة ساعة من شاطئ البحر للشرق. وقد شيدت جدران هذا الحصن على ارتفاع عشرين ياردة من الأرض. وله باب من حديد متجه نحو القبلة. 
 ويترتب على الدزدار والجنود أن يظلوا دوماً مرابطين في الحصن على أهبة الاستعداد. إذ إنه حصن من الخطورة بمكان لوقوعه على تخوم العشائر والقبائل البدوية. والأعداء كثيرون. وأن السلع القيمة، والأشياء الثمينة التي يقتنيها الوجوه والأعيان بوجه خاص، وسكان المدينة بوجه عام، تحفظ في داخل القلعة. وفيها أيضاً منازل الجنود، مستورة بالتراب. وفيها أيضاً مسجد، وعنابر للحنطة ولسائر أنواع الحبوب والمؤن، ومخازن للأسلحة والمهمات الحربية. 
 كان أن فيها مدافع ملكية من الطراز البديع، مجهزة بكل ما تحتاج إليه من ذخائر ومهمات. إن الناحية المواجهة للقبلة من نواحي القلعة شبيهة بمدينة كبرى. وأمام مدخل القلعة من الناحية الأخرى من الشارع، مسجد يصلي الناس فيه الأوقات الثلاثة في النهار. ويؤم هذا المسجد عدد كبير من المصلين". 
 عمران غزة 
 وحول عمران غزة يقول: "غزة مدينة تاريخية قائمة فوق سهل وسيع منبسط. ولها ستة أحياء. وفيها ألف وثلاثمائة منزل. وجميع منازلها مبنية من الحجر. وأسطحتها مستورة بالطين والكلس. وفيها عدة سرايات وقصور، وأن اللسان ليعجز عن وصف سراي حسين باشا. هذا الباشا الكريم الذي يزوره لا يقل عن مئتين من الضيوف في كل ليلة بين مشاة وفرسان.. وفي المدينة سبعون مسجداً ذوات محاريب. وفي أحد عشر مسجداً تقام صلاة الجمعة. 
 وفي القرب من السوق مسجد يقال له (مسجد الجمعة)، ويصلي فيه حاكم الولاية حسين باشا، وهو يتسع لعدد كبير من المصلين. وإنه لبناء جديد وجميل. ليس له نظير. إذ تسابق البناؤون والمهندسون من القاهرة ودمشق والقدس الشريف فأبدوا كل ما لديهم من فن ومقدرة، وأبدعوا في بنائه ما شاء الإبداع أن يكون. 
 والبناء الخبير الذي تولى بناء هذا المسجد بنى له في الوقت نفسه مئذنة عالية متقنة الصنع، لها أروقة ثلاثة، بشكل منقطع النظير. حتى إن مسجد الجمعة الذي بناه سنان باشا فاتح اليمن لم يكن على هذه الدرجة من الإتقان. 
وفي وسط المدينة تكية عبد العظيم، وبالقرب منها تكية مرغان، وفيها مئتا سبيل يرتوي من مائها العطاش.. ولما كانت المدينة واقعة على طرف البادية فليس فيها أنهار جارية. وكل ما هنالك مياه أرضية. إن ماء الحياة يحمل إليها من الخارج على ظهور الإبل.. ومن الحمامات العمومية الكائنة في غزة يجدر بنا أن نذكر حمام الباشا، وحمام العسكر، فإنهما لطيفان ومنعشان للغاية". 
 ويلفت أوليا جلبي النظر إلى أن غزة وإن لم تكن ميناء بكل ما في هذه الكلمة من معنى إلا أنها مدينة تجارية فيها 600 دكان، تستطيع أن تجد في سوقها بضائع وأشياء ذات قيمة. وأن مصانع الزجاج والسروجية فيها رائجة. كما أن سوق التجار المبني من الحجارة مزدهر للغاية". 
 وحول سكان المدينة يقول: "هم يلبسون السمور والفراجية وثياب أخرى غير مزخرفة. وأما الطبقة الوسطى فإنها تكتسي ثوباً بسيطاً أبيض اللون. وأما العمال والطبقة الفقيرة من السكان فإنهم يلبسون (سرتية كراكة؟) ولهذا الثوب أشكال مختلفة. وهؤلاء يلبسون أيضاً العباءة. والغزيون بوجه الإجمال بيض الوجوه، ذوو حواجب قاتمة وهناك فئة منهم سمر اللون كأنهم مدبوغون بالشمس.. إنهم ذوو عزم وإحساس ونشاط، وهم أحرار وكرام ومحبون للضيف، ولا سيما إذا كان هذا غريباً. يعيشون على التجارة والأعمال اليدوية".
 
 الزراعة والمتنزهات 
 وحول زراعات غزة يقول رحالتنا: "للمدينة جو بديع وهواء عليل، وهي واقعة في الإقليم الرابع. تكثر فيها الحنطة. وهذه معروفة ببياض لونها، وكبر حجمها، ويسمونها سن الجمل. وأما شعيرها فإنه مشهور، وكذلك قل عن قطنها، وحريرها. والكراكة التي تصنع من الصوف في غزة، وكذلك المحارم، والبشاكير، والفوط الصغيرة والكبيرة، فإن هذه كلها تصنع في غزة وهي مشهورة.. وفيها سبعة آلاف كرم يغرس فيها العنب. وعنبها مشهور. وكذلك قل عن زيتونها، وتوتها، وليمونها، وكبادها، وتينها، وشمامها، ورمانها، وبلحها، وعن فواكهها الأخرى، فإنها مشهورة في أسواق العالم. إن زيتها يصدر لمصر محملاً على مئات من الجمال. ويروج في أسواق مصر رواجاً غريباً لجودة صنعه". 
 ويفرد جلبي مساحة للحديث عن متنزهات غزة فيقول: "إن عين السجان هي إحدى المحلات التي يطرقها الغزيون للنزهة؛ بالقرب من غزة وفي مكان يدعى (إبلة) حيث ينبسط سهل غير متسع، فيه خمسة ينابيع جارية. منها عين السجان التي يزداد ماؤها في فصل الشتاء، ويقل في فصل الصيف. والمياه التي تنبع منها تجري على وجه الأرض، ثم تغور في حفرة من الأرض. لو شرب جيش برمته من ماء هذه القرية وظل يفعل ذلك مدة عشرة أيام وعشر ليال متواصلات لما نقصت كمية المياه التي فيها. والغريب في الأمر أن ماءها لا يفيض، ويعتقد الأهلون أنه إذا شربت الطيور والحيوانات الداجنة والوحوش من مائها فإن شعرها ووبرها يزول فوراً. وأما الإنسان فلا. إنه (أي الإنسان) إذا شرب من مائها يجد فيه العلاج الشافي للكثير من أوجاعه وآلامه".

أرض الميعاد.. وعد بريطاني لا إلهي

أرض الميعاد.. وعد بريطاني لا إلهي
سلجوق تورك يلماز

لو أردت اللجوء إلى التلاعب بالألفاظ، لقلت إن إله اليهود الصهاينة هو البريطانيون. بل وقد أذهب إلى أبعد من ذلك لأدرج عائلة روتشيلد في مفهوم الألوهية. وبهذا، يمكن التأكيد على أن الصهيونية إيديولوجية غير دينية. وحتى لو لم نستخدم هذه التعابير، يمكننا القول إن إسرائيل هي من صنع بريطانيا، وهي واحدة من أعقد المشكلات التي سجلها التاريخ. فإسرائيل ليست من صنع اليهود الصهاينة، بل هي من صنع البريطانيين، حتى بعد مجيئهم إلى الأراضي الموعودة التي وعدتهم بها بريطانيا. وأود أن أؤكد مجددا أن استمرار وجود اللاهوت اليهودي لدينا كنموذج تفسيري لا يزال يفضي فعليًا إلى استعمار العقول. فالاستعمار العقلي، في جوهره، يعني التشكيل والإعداد الذهني، لا الاستغلال المادي. وعندما يقرر آخرون كيفية تفكيرنا، يكون الاستعمار التاريخي قد اكتمل. فالأحداث لم تختفِ في أعماق التاريخ، وإعلان بلفور يُعد حقيقة تاريخية لا علاقة لها بالكتب المقدسة. فبواسطته وعدت بريطانيا اليهود بموطن، والمهم هنا ليس موقع الأراضي الموعودة بقدر التركيز على الجهة المانحة لهذا الوعد.

إن لحظة إصدار هذا الوعد بالغة الأهمية. ولكي نتصور الحدث بكل عناصره، يجب علينا حتماً أن نركز على الحرب العالمية الأولى. لقد تحركت الدولة العثمانية في هذه الحرب بإيديولوجية مناهضة للاستعمار. وكان أساس فكرة "الاتحاد الإسلامي" هو معاداة بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا تسعيان لاستعمار أراضينا، ولهذا حركوا العديد من العناصر، بما في ذلك اليهود. وهذا بالضبط ما يُطلق عليه اللعبة البريطانية. لقد حددت بريطانيا بوعد بلفور هدف الإيديولوجية الصهيونية. ووعدت بجعل الأراضي الفلسطينية موطنًا لليهود لإقناعهم في مختلف دول أوروبا بالتحرك نحو فلسطين. إن توجيه اليهود المقيمين في مختلف الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى فلسطين كان حدثًا بالغ الأهمية. وبمجرد تحديد الأراضي المستهدفة، اتخذت الصهيونية شكلاً أكثر إقناعاً كإيديولوجية رومانسية. وأنشأت بريطانيا إدارة استعمارية في فلسطين. فنظام الانتداب كان نسخة مطوَّرة من النظام الاستعماري للقرن العشرين. إن “الاستعمار الجديد” لم يكن سوى إدارة الانتداب التي أنشأتها بريطانيا في فلسطين.

هناك العديد من الأسباب التي تدفعنا للتركيز على إدارة الانتداب والنظام الاستعماري الجديد. فالتعريف الصحيح للأحداث بالغ الأهمية حتى تجد الأحداث صداها في أذهاننا. وهذا هو أحد أهم الأسباب التي تجعلنا نؤكد على عبثية مفهوم "الاستعمار" عند الحديث عن إسرائيل. فكيف يمكن أن تكون إسرائيل مستعمرة بريطانية؟ إن قبول هذا المصطلح يجعل حقيقة إسرائيل غامضة، ويقودنا إلى الحديث عن القوة اليهودية، ورأس المال اليهودي، والتاريخ اليهودي، واللاهوت اليهودي، مما يطمس بدوره العامل البريطاني.

ولكن كما أوضحنا منذ البداية، أرادت بريطانيا إنشاء مستعمرة جديدة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وقد أتاح لها نظام الانتداب هذه الإمكانية. كان النظام المُنشأ حديثا يقتضي أن تُنقل السلطات يومًا ما. والقول بأنهم " لا يعرفون كيف يحكمون، وعليهم أن يُحكموا" لا يمكن تطبيقه على فلسطين. صحيح أن هذا حكم استشراقي، لكن فلسطين صُممت منذ البداية كبنية استعمارية استيطانية. وبذلك، صُممت مؤسسات هذا النظام الجديد في فلسطين ليتم تسليمها إلى اليهود الصهاينة، وليس إلى السكان الأصليين الفلسطينيين. ولهذا عينت بريطانيا الصهيوني المتشدد هربرت لويس صموئيل كأول مندوب سامٍ، وهو ما يعادل منصب "حاكم مستعمرة".

لقد عملت بريطانيا على بناء هذه المستعمرة الجديدة عن علم وإرادة، وكانت تتوقع نتائجها. فهي التي صممت الإبادة. وفي الفترة الممتدة من عشرينيات القرن الماضي حتى عام 1948، عمل الانتداب البريطاني على فتح فلسطين أمام المستوطنات اليهودية. ولعب اليهود الأمريكيون دوراً كبيراً في تنظيم هذه العملية الاستعمارية الاستيطانية الجديدة، حيث كانت الموارد المالية بأيديهم إلى حد كبير. وبينما كانت بريطانيا تقمع جميع محاولات الفلسطينيين للثورة بالعنف الاستعماري، كانت تُتيح للمجموعات الإرهابية اليهودية التحرك بحرية. وفي ظل الإدارة البريطانية، كان القوميون اليهود مستعدين للاستيلاء على المؤسسات الاستعمارية. ولا يمكن فهم عملية تأسيس الدولة اليهودية إلا ضمن هذا الإطار.

أما الاتهامات القائلة إن الفلسطينيين باعوا أراضيهم، فهي تعكس روحًا قاسية وتشير إلى عقلية مستعمَرة، فهذه الفئات لم تشأ، سواء في الماضي أو الحاضر، أن تتذكر دور بريطانيا في الجرائم ضد الإنسانية مثل الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتهجير، والمجاعة.

إن بريطانيا هي التي وعدت اليهود الصهاينة بفلسطين.