عبد الناصر بين نهضتين ونكسة
وائل قنديل
أمة مستغرقة فى الحروب على الماضى كيف لها أن تتوجه إلى المستقبل؟
من يتابع حروب الفضاء المشتعل بالكراهية والغل وروح الثأر والتشفى بمناسبة ذكرى نكسة يونيو 1967 لا يمكن أن يتصور أبدا أن هذا شعب يريد الانعتاق من كراكيب الماضى، بحلوه ومره، خيره وشره، والقفز إلى مستقبل محترم.
ومن أسف أن الجميع بدلا من أن ينشغلوا أكثر بتحديات المستقبل ومصاعب اللحظة الراهنة، وما يختص منها بحرب المياه التى تطرق أبوابنا بعنف، تجدهم مدفوعين بحماس أهوج إلى التقليب فى كتاب التاريخ القريب واستخراج ما يؤجج حالة الانقسام والاستقطاب المجنونة التى تعطل الحياة فى مصر إلى درجة الشلل.
فريق مدفوعا بالرغبة فى الانتقام الماضوى لا يرى فى جمال عبدالناصر إلى نكسة 5 يونيو، وفريق آخر يرى فيه الكمال المطلق، ويستدعيه للحرب على الإخوان المسلمين وإغاظتهم، دون أن يفكر أحد فى أن يعفى التاريخ والحاضر والمستقبل معا من هذه المناكفات الصغيرة.
لقد كان جمال عبدالناصر صاحب تجربة هائلة فى التاريخ، شهدت ما شهدت من نجاحات وإخفاقات، وانتصارات وانكسارات، ولا ينكر إلا جاهل أو جاحد أن الرجل وضع مصر على طريق نهضة حقيقية قبل 1967، ثم جاءت النكسة لتقوض كل شىء وتكسر الحلم والأمل، لكنه أيضا هو من حاول وعافر حتى تنهض مصر من تحت ركام المرارة والعجز وتقف على قدميها مرة أخرى، وتستعد لرد الصفعة، فكانت حرب الاستنزاف التى بدأت عقب هزيمة يونيو مباشرة، وهى الحرب الباسلة التى لم تأخذ حقها فى كتابة التاريخ، وكانت المقدمة التى عجلت بانتصار أكتوبر 1973، وأثبتت أن النصر ممكن مادامت الروح لم تهزم أو تنكسر فكانت درسا بليغا فى الإرادة والكرامة الوطنية.
والأهم والأبقى من الرموز والزعامات أن الجندى المصرى الذى انكسر فى يونيو هو الذى انتصر فى أكتوبر، وأن الدماء التى روت رمال سيناء فى الهزيمة هى ذاتها التى خضبتها فى النصر، وأنه لم يكن العبور ممكنا لو بقيت مصر منقسمة ومقسومة فريقين يتصارعان كالديكة بينما ذئاب وثعالب تمرح على الأبواب وخارج الأسوار وتستعد للانقضاض.
ولم تكن ثورة يناير 2011 لتنجح فى عبور آخر من الاستبداد والتبعية والفساد إلى الكرامة الإنسانية والعدل لو أن المصريين بقوا أسرى ثأرات الماضى ومعاركه بين أعضاء الأسرة الواحدة، ولم يكن بالإمكان إزاحة هذا الديكتاتور لو لم تكن هناك روح «اليد الواحدة» والانصهار فى حلم مشترك يتجاوز التصنيفات والتقسيمات الفكرية والأيديولوجية.
و بالمعيار ذاته لن تستطيع مصر مواجهة أخطار الخارج ومكائد الداخل ممثلة فى بقايا النظام الساقط إذا واصلت الرقص الماجن فوق صفيح الاستقطاب والكراهية والرغبة فى الإبادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق