أشبه مايكون بمذكرة ذاتية يسرد فيها المفكر الاسلامي سيد قطب طفولته التي قضاها في
قريته ، وعلى بساطة كتابته إلا أنك تتذوق المتعة في أحداث روايته .. ، وربما يعتبر هذا الكتاب من الكتب
الأوائل التي كتبها في بداية شبابه وقبل سفره -المعروف - إلى امريكا أو بمعنى أدق قبل إستقراره وثباته
في توجهه الذي غير مجرى حياته.
الكتاب / طفل من القرية
المؤلف / سيد قطب
الصفحات / 155 ص - من القطع المتوسط
الطبعة / الأولى
الناشر / منشورات الجمل ، كولونيا - ألمانيا
مقدمة
_____________________
هذة صور من حياة القرية عاصرت طفولتي منذ ربع قرن من الزمان ، لم أنمق فيها شيئا ، ولم أصنع أكثر من
نقلها من صفحة الذاكرة إلى صفحة القرطاس.
قليل من هذة الصور قد زال الآن وحلت محله صور جديدة..
وفي تسجيله هنا إحتفاظ بصفحات من الحياة القومية والتاريخ الحديث في سجل الفنون.
والكثيرمنها لايزال يعيش ولكن أهل المدينة المترفين لايكادون يتصورونه ، لافي عالم الواقع ولافي عالم الخيال ..
وفي تسجيله هنا مايطلع الجيل الجديد على صور من الريف القومي بخيرها وشرها
ولعل لهم رأيا فيما ينبغي أن يبقى منها وماينبغي أن يزول!
إهداء
إلى صاحب كتاب الأيام .. الدكتور طه حسين بك.
إنها ياسيدي أيام كأيامك ، عاشها طفل في القرية ، في بعضها من أيامك مشابه ، وفي سائرها عنها إختلاف .
اختلاف بمقدار مايكون بين جيل وجيل ، وقرية وقرية ، وحياة وحياة
بل بمقدار مايكون بين طبيعة وطبيعة واتجاه واتجاه ..
ولكنها - بعد ذلك كله - أيام ن الأيام .
سيد قطب
1/7/1945
المجذوب
مضى على هذة الأحداث أكثر من ربع قرن ، ولكنه لايستطيع اليوم ان يسترجع صورتها دون أن يحس في جسده بقشعريرة تتخلل عظامه في صمت كأنما استحال دمه إلى ماء مثلوج.
هذا الرجل المشعث الشعر ، الممزق الثياب ، العاري أحيانا من كل مايستر الجسد ، المنطلق في شوارع القرية
وطرقاتها ، وفي يده عصاه ينال بها كل شيء وكل أحد ، وهو يرسل همهمة مختلطة مخيفة ، أو يقهقه في
صوت عال مرهوب !.
كان هو طفلا دون السادسة حينما اخذ الناس يتهامسون في القرية عن " الشيخ النقيب " وسمعهم يقولون :
انه أخذ " الشربة " وانها ثقيلة عليه ..
" الشربة " ؟ ، انه يعرفها جيدا ، فانه مايزال يذكر ان الحمى أخذته في ذات يوم ، فجرعوه ذلك السائل المر
الكريه الطعم والرائحة ، بكل وسائل الإغراء والتهديد .
ثم كان بعد ذلك مالابد أن يكون !
ولكن هذا الرجل : " الشيخ النقيب " مابال " الشربة " تخيله هكذا شيطانا مشردا مروعا ، مسلوب الرشد ، شارد
النظرات ، غريب الأطوار ؟
وأية " شربة " تلك التي تفعل بالناس " الأفاعيل " ؟
كان الرجل يمزق ثيابه تمزيقا ، ثم يتمرغ في الوحل ، أويهيل على رأسه التراب وعلى جسده العاري ، حتى
يكتسي أديمه من التراب والوحل ثوبا آخر غير الثوب الممزق المخلوع .
كان ينطلق في طرقات القرية صائحا بصوت مجلجل مرعب : الله .. الله .. الله ، أويسير في خطوات متوانية وهو
يهمهم ويزوم : إي .. إي .. إي .. ، أو ينفخ صدره بالهواء ، ويقب ويغطس بقامته وهو يقول : حي .. حي .. حي
كما كان في كثير من الأحيان يأوي إلى " مصطبة" أو ركن فيقبع هناك في صمت مطبق كأنما هو " منبج " لايأتي جسده بحركة ، ولاتطرف عينه بنظرة .. ويبقى على ذلك الساعات الطوال في بعض الأحيان .
فما بال " الشربة " إذن وهذا كله في نفس الطفل الصغير ؟
لقد عرف فيما بعد أنها " شربة الولاية " !، وان كبار الولياء الصالحين يجتمعون في كل عام برئاسة " قطب الغوث " على جبل قاف ، ثم ينظرون في أحوال العالم ، ويقضون فيه بما يشاءون ! وعلم ان من قضائهم توزيع " الشرب "
على من يقع عليهم الاختيار من عباد الله المختارين .
فتارة تصيب " القرعة " رجلا طيبا وديعا ، وتارة تصيب رجلا قاسيا عنيدا ، فيستحيل هذا او ذلك " مجذوبا ".
فأما الأول فتكون شربته هادئة ، فيسهل عليه قضاء فترة " الانجذاب " ويجتازها بسلام إلى مرتبة " الولاية "
وأما الآخر فتكون شربته عنيفة ،فيعاني الشدائد في قضاء هذة الفترة القاسية حتى تطهر نفسه ويلين طبعه
وتصفو روحه وعندئذ ينتقل إلى المرحلة التالة ، فيهدأ ويطمئن ! .
وسمع كذلك تفسيرا ثانيا لشدة الشربة وسهولتها : فلقد يرجع الهدوء والاضطراب إلى مقدار " الشربة " .
فتارة تكون الجرعة كبيرة ، فيتلقاها صاحبها في جهد واضطراب .. لانها تتجاوز طاقته ، ويظل يعاني سكراتها وصراعاتها أمدا طويلا ، وجسده يتمزق وقواه تضطرب ، حتى يكتب الله له السلامة في النهاية ، فإذا هو في
مرتبة رفيعة في ديوان الأولياء ! وتارة تكون الجرعة صغيرة ، فلايجد صاحبها جهدا ولا مشقة في تقلبها ولاتطول
فترة الانجذاب إلا ريثما تستقر الشربة وتهدأ وإذا صاحبها ولي ، إلا أنه متأخر في الديوان ! .
ولكن ألف تفسير وتفسير لم تكن كافية لبعث الطمأنينة في قلب الطفل الصغير .
لقد كان يسير هو ورفاقة أو منفردا ، فمايدرون من أين طلع عليهم " الشيخ النقيب " ! ، ولكنه يدري ان ريقهم
كان يجف وأقدامهم كانت تتسمر في الأرض حينما "يهل " عليهم من أول الطريق ، ولو كان بينه وبينهم عشرات الأمتار .. كانت أرجلهم تكف عن الحركة ، وأنظارهم تتعلق به فلا تطرف ، وقلوبهم تدق في عنف ورعدة ، ولكنهم لايتحركون ! ، كانوا أشبه شيء بـتلك العصافير المسطينة التي تقف أمام الثعبان منومة ، وهي تدرك أنه سيلقفها ولاتطير .. أو كالفئران الصغيرة أمام القط الذي يسحرها قبل أن يثب عليها للافتراس.
ذلك أنهم كانوا يعلمون إلا فائدة من محاولة الفرار .
لقد قيل لهم ان الشيخ " يخطّي" فلما طلبوا تفسيرا لهذة " التخطية " فهموا انه ينتقل بخطوة واحدة في كل يوم
من أيام الجمعة من القرية الكعبة ، فيصلي الجمعة هناك مع الأولياء والصالحين ، ثم يعود .
وكانوا قد سمعوا الكثير عن طول الطريق إلى الحج ومشقتها وكان الحج يومذاك على ظهور الجمال بعد عبور
" البحر المالح " ، ثم هاهو ذا الشيخ يقطع الطريق الطويل الوعر في خطوة واحدة خطوة في الذهاب
وأخرى في الإياب.
فماجدوى الجري إذن والفرار ، و " فركة كعب " تجعلهم في متناوله من جديد ؟ وكانوا قد سمعوا ان العصا
المخيفة في يد الشيخ تطول وتقصر كيفما أراد ، وان يده كذلك تتناول ماتشاء من قريب أو من بعيد ، حينما يريد .
فما جدوى الجري إذن والفرار ؟ وهذة العصا كفيلة ان تلهب ظهورهم وان تقصم أضلاعهم ، والرجل في مكانه
لايتكلف الخطو خلف خطواتهم القصار ؟
لابل قد سمعوا انه يستطيع أن " يسمرهم " في مكانهم إذا أراد ، أو لم " يسمر " من قبل شيطانا مريدا كان
يخيف الناس في طريق من طرق القرية ، وظل هذا العفريت "مسمرا " حتى الفجر ، فأخذ يستغيث بالشيخ
ويستجير، ويستميحه العذر والصفح ، ويبذل الوعود بأن يغادر هذة القرية كلها ، فلا يتعرض لأهلها بسوء ..
فلم يطلقه الشيخ حتى اخذ عليه العهود والمواثيق ، وهدده بسوء المصير ان هو اخلفها .. ومن يومها لم يعد
العفريت يظهر في ذلك المكان ! .
فهل هم أسرع من العفاريت وأقوى ؟ لافائدة ... لافائدة !.
ولكن قلوبهم تكاد تسقط ، ومفاصلهم تكاد تسيب ، وريقهم قد جف ، فلم يعد فيه مايكفي لتحريك اللسان ، وهم يجمعون هذا الريق ويبلعونه لتطريةحلوقهم من هذا الجفاف ، وعيونهم شاخصة إلى هذا الرجل الهائل الرهيب ! .
ثم يمر ...
فاما ان ينحرف قبل ان يجتاز بهم في طريق من طرق القرية الملتوية الكثيرة ..
وعندئذ يتنفسون الصعداء ، ويستجمعون مابقي فيهم من قوة ، ثم يطلقون سيقانهم للريح ، وهم يلهثون في
ذعر مميت ، واما ان يلحقهم فيجتمع المساكين ويتكتلون ، ويخنس بعضهم في بعض كـ الفراريج الصغيرة
حينما يهاجمها القط الجارح أو ابن عرس ، ثم يتقربون إليه في تملق يطلبون تقبيل يده ،وأعينهم مرتفعة شاخصة
إلى العصا الرهيبة في يده ... فطورا يسلمون ، وطورا يذوقون جناها المستطاب !.
وطالما سمعوا من الكبار ان هذة العصا من شجرة في الجنة ، وهم يرونها أمامهم قطعة من جريد النخل الذي
يعرفون ، أوأنها غمست سبع مرات في بئر زمزم ، وان من نالته منها ضربة فهو السعيد السعيد ، فإنها لاتتناول إلاعضوا "مضوروا" أي مريضا - ولو لم يشعر صاحبه بمرضه ! - فما ان تمسه هذة العصا حتى يتبرأ من كل داء ! .
وكانوا يرون بعض الرجال يتعرضون للشيخ في الطريق ، ويتحككون به ان كان هادئا حتى يثور ، لينالوا ضربات
من هذة العصا على ظهورهم غالبا ، فقد كانوا يتوقون ان تنال وجوههم ورؤوسهم ! ، ثم يذهبون راضين ، يدارون
الألم الذي يشعرون به ، ليقرروا أنهم لم يحسوا بالعصا إلا كطائف من النعيم ! .
أما هم ، الأطفال ، فيعرفون جيدا طعم هذا الطائف السماوي ! ان ظهورهم لتتقلص تحت وقع هذة العصا الملعونة
وانهم ليحاولون ان يتظاهروا بما يتظاهر به الرجال فلايطيقون .
على ان هيئة الرجل ذاتها ، ونظراته وصوته وحركاته كانت كفيلة ببعث الرعب في قلوبهم من حيث لايشعرون
وكان الطفل يعجب لشيء آخر غير مايدعيه الرجال من لذاذة هذة العصا وطراوتها ، ان الرجل يقضي معظم اوقاته
عاريا ، وقد تلبد شعر جسده ورأسه ، و "تعرقص " كجلد الفيل ..
ومع هذا فإنه لم يلحظ غضاضة من رجل ، ولاحياء من امرأة ، لرؤية الجسد العاري القذر الأديم !.
ولما كان دائم السؤال ، فقد قيل له : اسكت ، انه لم يعد إنسانا مثلنا ، لقد ارتفع عن التكليف !
انه الآن موهوب للولاية ، فلم يعد من عالم الأرض الذي نعيش فيه ! .
ثم مرض ... كان يلعب لعبة تقتضي لي الجسم وتحريك العنق الى الخلف ، فأصيبت مفاصل عنقه بانحراف ، ومالت
رأسه إلى أحد كتفيه ، فأصبح لايستطيع ان يحرك رقبته إلا في اتجاه واحد ، فإذا أراد النظر أو الالتفات اضطر
ان يدور بجسده كله ، كما تصنع الضبع عندما تدور ! .
وطال المرض وكثرت " الوصفات " وبدأ أهله يقلقون عليه من هذة العاهة التي بدا انها ستكون مستديمة ، واخذ
الأطفال زملاؤه يرثون لحاله في أول الأمر ... ولكنهم بعد حين اخذوا يتغامزون عليه ، ويقلدون هيئته الشاذة في
غفلة منه ، ثم يضحكون ، وود لو يجد علاجا لهذة الحالة المؤلمة بأي ثمن يكون.
ودخلت إحدى النساء فرأته ، ثم توجهت إلى والدته بالكلام :
قالت : أوتسكتين يا امرأة على الولد هكذا ؟
قالت في تأثر شديد : - وماذا نصنع ؟ لقد حاولنا كل شيء بلافائدة .
قالت لها : أنا أدلك على الحل الوحيد .
ونظرت إليها الأم ملهوفة - ونظر هو أيضا - قالت : تدعينه ليلة للشيخ النقيبـ .
ولم تفهم الأم -ولم يفهم هو في باديء الأمر- ولكن المرأة أزالت كل لبس ، وهي تقول :
واحد من العائلة ، يتبع خطوات الشيخ ، ويعرف أين يبيت ويضع الولد بجانبه ، ويتركه للصبح ، فيصبح في عافية .
ماذا ؟
لقد قفّ شعر رأسه ، واقشعر بدنه ، وهو يسمع هذا الاقتراح الرهيب .
هو يبيت ليلة كاملة الى جوار هذا الرجل الغريب ؟ ولماذا لايذهب إذن إلى جحر الثعبان ، أو عرين الأسد ...
بل لماذا لايلقى الشيطان وجها لوجه ؟
أم أنه هو مجنون .
ومع انه لم يصدق لحظة واحدة ان هذا الكلام صحيح ، وان المرأة تجد فيما تقول ، إلا انه لايذكر ان شيئا من الرعب
قد دخل كيانه طوال حياته مثلما داخله وهو يسمع هذا المزاح المرذول .
ومع انه كان واثقا بأنه لن ينفذ هذا الاقتراح ، حتى لو استخدموا معه أضعاف ما استخدموه ليتناول " الشربة "
من الإغراء والوعيد ، إلا أن نظرة تعلق بشفتي أمه ، كالذي ينتظر حكم الإعدام أو البراءة .
وابتلع ريقه وتنفس ببطء نفسا عميقا .. وأمه تقول :
لا ، لا ، وهل أنا جننت حتى ابيّت جنب المجذوب ؟ الأمر لله والكائن في علمه يكون .
ولم يكن إلا الخير والبركة ... ولكنه لايزال يذكر هذة اللحظة ولاينساها مهما تطاولت به السنون ....
الفصل القادم : [ ضابط الجمباز ] وفيه يحكي عن بدايات تعليمه وهو في السادسة من
عمره ، وطريقة التعليم آنذاك ، وقصة هروبه من المدرسة وكيف ضل الطريق ونومه في مخزن التبن حياء من أهله
لهروبه من المدرسة لا خوفا منهم !!
نشأ في أسره ليست عظيمة الثراء ولكنها ظاهرة الامتياز 000 كانت في وقت من الاوقات عظيمة الثروة ولكنها
توزعت و تضاءلت الثروة بالميراث وبقي لوالده قدر لا باس به منها ولكنه كان يتناقص دائما كان والده قد صار
عميد الاسرة المكلف حفظ اسمها و مركزها في الوقت الذي لم ينله من الميراث إلا نصيب محدود لا ينهض بما كانت
تنهض به ثروة الاسرة مجتمعة على حين لا يستطيع ان ينقص من تكاليف المظهر في الريف .
وكان هو بعد هذا متلافا مضيافا فزاد ذلك في التكاليف التي لا تحتملها ثروته و لكنه حافظ على كل المظاهر
و المطالب على اللحظة الاخيرة و كانت والدته من اسرة مماثلة او اعرق و قد وقع لها ما وقع لاسرة الوالد حرفا بحرف
و لكن زاد عليها ان اثنين من اخواله كانا قد أوفدا إلى الأزهر في القاهرة شأن غالبية ابناء الاسر الريفية الثرية
فأنشأ هذا في الأسرة نوعا من الرقي العلمي بجانب الوجاهة الريفية يضاف الى هذا كله ان جده لوالدته كان قد
قضى شطرا كبيرا من حياته في القاهرة هو وزوجته حتى اذا عاد الى القرية انشأ فيها بيتا يقرب من بيوت العاصمة على قدر الامكان في نظامه وتنسيقه وتقاليده ومستواه وساعده المال على تحقيق ما اراد .
في هذه البيئة نشأ وكل ما حوله يشعره انه من وسط اخر غير وسط القرية فلما ناهز السادسة من عمره فكر اهله
في ان يبدأ حياة التعليم وانقسم الرأي :
فريق يؤيد ذهابه الى الكتاب ليحفظ القران ويفوز بالبركة التي يفرز بها من يحملون كتاب الله على قلوبهم
و فريق يؤيد ذهابه الى المدرسة الأولية لأنها ارقى و انظف و القران يعلم فيها كذلك الى جانب العلوم الاخرى
و طال الجدل حوله وهو لا يدري ... واخيرا انتصر فريق المدرسة واستقر العزم عليها واخبر هو بهذا القرار فتلقاه
بالقبول ، ولكن بغير حماسة ظاهرة فقد كان أروح لنفسه ان يظل في الدار يلعب مع اخته التي تكبره قليلا
او يلعب في الشارع مع لداته الصغار .
وكان مدللا بعض الشيء لانه وحيد ابويه بجانب بنتين هو اوسطهما فلم يتعود بعد التكاليف التي لامفر منها في
التعليم ولا سيما انه يسمع الناس يتحدثون بان الكتاب يقرص الأولاد اي يضعف صحتهم و يعوق نموهم اما المدرسة
فقد كان يسمع عنها حديثا اخر لا يجعله امنا فيها على العموم .
ولم تمض الايام حتى هيئ للمدرسة ، جيء له بطربوش بعد ان كان يلبس الطاقية واشترى له حذاء بدل حذائه الذي
كان "نصف عمر" و فصل له قفطان صغير من "الشاهي" بدل الجلابية ، كان هذا زيا مبتكرا لا عهد للمدرسة به
جيء له به للترغيب و التدليل وكان لهذا اثر حاسم في اتجاهه للمدرسة فبسببها كان كل هذا العز و التكريم .
وفي الصباح الأول ذهب به والده و معه صديق الى المدرسة...
ولهذه المدرسة تاريخ :
كان الكتاتيب هي دار العلم الوحيدة في القرية حتى افتتح مجلس المديرية هذه المدرسة ووكل أمر التعليم فيها
الى فقيه و عريف فأما الفقيه من اهل بلدة مجاورة حفظ القران كما يحفظ القراء ، ثم حضر دروسا نظمتها الوزارة
في الحساب و المعلومات العامة و طرف من التربية ثم عين فقيها للمدرسة واما العريف فهو احد حفاظ القرية وصاحب
كتاب فيها و قد عينه المجلس عريفا ريثما تخرج مدارس المعلمين الاولية العدد الكافيليحل مخل الفقهاء و العرفاء .
و هذا العريف كان موضع الثقة من اهل القرية فابوه هو الذي علم في كتابه شيوخها واسمه مذكور دائما على انه
مثال الشدة والخلاص والشدة في معاملة الابناء كانت مناط الثقة من الاباء فلما توفي ابوه تولى هو واخوه ادارة الكتاب متبعين تقاليد ابيهما فيه حتى اذا اختير للمدرسة ورسم له مرتب قدره مائة وخمسون قرشا و كل امر
الكتاب الى اخيه و ذهب هو الى المدرسة كي يجمع كسب الكتاب الى كسب المدرسة وان خسر بضعة تلاميذ
اجتذبتهم المدرسة بوصفها شيئا جديدا .
ولم تؤثر المدرسةفي الكتاتيب في حقيقة الامر ذلك انه لم يذهب اليها الا اولئك الذين فشلوا في حفظ القران في
الكتاب و لغوا طور المراهقة او تجاوزوه ... فلما فتحت المدرسة ارسلهم اهلوهم اليها او جاءوا هم بانفسهم للفرجة
على الاكثر او لاعادة المحاولة مع الأمل الضئيل .
ولما كانت المدرسة في حاجة الى تاليف قلوب الاهالي و التلاميذ في اول الامرفانها قد اتبعت نظاما عجيبا في
تقسيم التلاميذ .
لم تكن درجة العلم و المعرفة هي التي تهيئ التلاميذ لاحدى الفرق ولكن كانت السن هي التي تعين الفرقة
الملائمة للتلميذ ، فالطوال هم المرشحون للسنة الرابعة ولا سيما اذا كانت شواربهم قد خطت ثم يليهم من هم اصغر
منهم في السنة الثالثة وهكذا حتى يصل الأطفال الى السنة التحضيرية وهي تحضر للسنة الاولى ولكن هذه القاعدة
لم تكن تتبع دائما فأبناء الأسر المعروفة في القرية كانوا يحتلون في الفرق العالية ، و لو لم تؤهلهم لذلك اجسامهم
ولم يكن من النادران يحضر والد تلميذ ليحتج على وضع ابنه في السنة الاولى بينما ابن فلان في السنةالثانية
وهو ليس اقل منه مركزا و لا ثروة فيجاب طلبه في الحال و ينقل الولد الى السنة المطلوبة حتى لا يخدش شرف العائلة .
وتبعا لهذه القواعد لم يكن بد من ان يوضع هو الطفل في السنة الرابعة من اول يوم ولا سيما ان ابن خالته في هذه الفرقة و يحسن ان يجلس معه ليستأنس به ولكن ناظر المدرسة انس من والده شيئا من التنور و المعرفة فرأى
ان يحادثه بصراحة وان يبين له ان من مصلحة الطفل ان يبدا من السنة التحضيرية مع الاطفال ليستفيد و يسير في
خطواته طبيعيا .... فاقنتع وتركه للفقيه وللعريف الذي كان معروفا لدى الطفل جيدا لأنه هو الذي يقرا في دراهم
القران في شهر رمضان .
* * *
انصرف الوالد وصديقه بعد ان سلماه الى المدرسة مع التوصية اللازمة ، التوصية التي رأى آثارها في هشاشة
الفقيه وعناية العريف عناية بلغت حتى التدليل .
انصرفا ليعودا إليه قرب الساعة العاشرة يحملان أنواعا من الفطائر و الحلوى أعدتها أمه بعناية ..
فلقد كان البيت كله في هذا اليوم مهتما قائما قاعدا كان حدثا جديدا يمر له .
ولكنهما يعودان فلا يجدانه بالمدرسة ، ولا في اي مكان ، أما لماذا كان ؟ ، فسره عند ضابط الجمباز ولا بد من
قصة أخرى عن ضابط جمباز .
لم يكن من بد لمجلس المديرية أن يتبع في مدارسه أدق قواعد التربية ، ولما كانت الالعاب الرياضية جزءا لا يتجزأ
من التربية لم يكن بد من ان يزاولها التلاميذ .. ولكن الفقيه كالعريف سواء ، لا يعرف شيئا عن هذه الالعاب الرياضية ... وهنا اهتدى مجلس المديرية إلى حل موفق سعيد أن يعين أحد جنود الجيش القدامى معلما للألعاب الرياضية بجميع مدارس مجلس المديرية ، وعلى هذا الضابط كما كان يسمى أن يطوف بهذه المدارس في القرى المتناثرة في المديرية على مدار العام فيصادف أن يزور المدرسة مرة كل سنة ويصادف الا يزورهابتاتا .
ولما كانت قرية الطفل من أرقى القرى المجاورة ، وفيها أسرات كثيرة معروفة بحسن الضيافة ، وكان هذا الضابط
يجد عند مجيئه للقرية ضيافة كريمة طول اليوم ، واستقبالا رائعا من أهلها ، لمجرد أنه " ضابط " قادم من البندر
بحيث يصبح وجوده في القرية بارزا له طابع خاص ، ومحوطا بحكات خاصة .. فقد دعاه هذا الى أن يكرر زيارته لمدرستها مرتين او ثلات مرات في العام.
وكانت هناك حركات معهودة يعلمها للتلاميذ ، هي "صغادن" أي الى اليمين ، و "صولادن" اي الى اليسار ، و "مارش" اي سير الى الامام ثم "بير" اي رفع اليدين بحذاء الصدر ، و"هك" اي رفع اليدين الى أعلى ، و"ات" اي احفض اليدين الى الجنبين ،ة و هذا يسمى التمرين الاول .
وهناك تمرينات ثلاثة من الالعاب السويديه المعروفة تؤدى بهذه الاشارات على التوالي بحسب التمرين:
"بير 0 هك 0 اتش "
و الويل كل الويل لمن يخطئ من التلاميذ في حركة من هذه الحركات .. إن عصا الخيزران التي بيده تلهب ظهره وجنبيه .
ثم ان الرجل كان يبدو في خيال هؤلاء التلاميذ الريفيين ، وكأنه الشيطان في سرعة الحركة وخفة الوثب وحفظه
العجيب للجمباز فكان هذا من زعقاته فيهم ، و تكشيراته لهم وعصاه التي يهزها في يده مهددا ...
كان له مثار رعب جارف ، حتى لقد كان يوم حضوره عندهم كيوم الحشر يشيب الولدان وطالما سمع هو من ابن خالته الذي يكبره عن هذا الشيطان - ضابط الجمبا - حتى لقد كان هذا الذي يسمعه من بين الاسباب التي تصده عن المدرسة على الرغم من كل المغريات.
وتشاء الظروف السيئة ان يصادف يوم ذهابه للمدرسة يوم حضور هذا "الألعبان" ، وقد كان ما يسمعه عنه من قبل
كافيا لاثارة الرعب في قلبه الصغير .
يخوفونه بما لا تحتمله أعصابه من المبالغات ، فهذا الضابط لا يكتفي بضرب من لا يؤدي جيمع الحركات الصعبة
المعقدة ، بل إنه ليعلقه من رجليه في شجرة المدرسة و يتركه مدلى ساعة كاملة ، وانه ليرفعه من اذنيه او شعر
راسه عن الارض ثم يلقيه وهكذا مرات متواليات وانه ليفرك اذنه بحصاة صغيرة مع الضغط الشديد باصبعه ..
الى اخر وسائل التعذيب التي كان يستعمل بعضها حقيقة ، وبعضها مما اخترعه خيال الاطفال ، ولما كان هو
لا يعرف شيئا من التمرينات الأربعة العجيبة ، بل لا يعرف"صغادن" و "صولادن" و "مارش" فقد أيقن لا محالة انه
ذائق ذلك العذاب الذي لا يطاق .
و لما كان قد نشأ نشأة معينة ليس الضرب احدى وسائل التربية فيها ، وكان إلى حد ما مترفا مدللا في منزله
فانه لم يكد يتصور ان يحتمل شيئا من ذلك العذاب .
واذن فالأسلم و الأوفق ان يهرب من هذا الجحيم ..
فما أن دق الجرس بعد الحصة الثانية - وقبل ان تبدا التمرينات الأربعة - حتى كان قد غادر المدرسة ، قاصدا المنزل
هربا مما ينتظره اذا هو آثر البقاء .
ولكنه لم يكن يعرف الطريق الى المنزل... فالمدرسة في طرف القرية وبيته في وسطها و هو طفل تجاوز السادسة
بقليل ، ولم يكن يترك ليلعب في الشوارع و يجوب طرقاتها كالأطفال حفظا لملابسه النظيفة ، وحماية من التلوث بأخلاق أولاد القرية وألفاظها البذيئة ..
فما كاد يغادر المدرسة بضع خطوات ، فيقابل ثنيه من ثنيات الطريق الكثيرة الى منزله ، حتى عرف أنه تاه ، وأنه
لا يعرف الطريق الى المنزل بلا معين ، وكان الحل المعقول أن يعود الى المدرسة فهي قريبة منه ، و أبوه سيحضر
كما أخبروه في فسحة الساعة العاشرة ..
ولكن هذا كان فوق ما تطيق اعصابه الصغيرة ، وعند ذاك أدركه سلاح الأطفال .. فأخذ يبكي بصوت عال .
ولقيه أحد رجال الحي فسأله عن اسمه ، فلما علم انه ابن فلان ربت على ظهره وقاده الى قرب المنزل ، وتركه
بعد أن اطمأن الى اهتدائه لداره.
وعندما صار في مأمن من الجحيم ، وأخذ يسترد أعصابه ، أدرك ما في فعلته من غضاضة -وكان على صغره يدرك
هذه الغضاضة - فلم يستطع ان يواجه اهل البيت بفعلته لا خوفا فقد كان آمنا من الضرب ، ولكن حياء من الفعلة
التي لم تكن تليق .
ففضل ان يزوي وجهه عنهم ، وان يعتزلهم في مخزن التبن ، و قد كان ملحقا بدارهم الكبيرة ، و لكن له بابا
مستقلا ، فاغلقه عليه وارتمى فوق التبن فنام ..
وفوجئ والده - وقد ذهب يحمل الفطائر والحلوى اليه - بانه قد هرب من المدرسة ، فعاد على المنزل ساخطا على
ما لقيه من "كسوف"..عاد إلى المنزل ولم يكن احد قد علم بحضور الطفل الهارب .
فلما لم يجده ولم يجد خبرا عنه ، انقلب سخطه على قلق مصيره المجهول ، وامتلأ اهل البيت كلهم قلقا .
فخرج والده يبحث عنه في طرقات القرية ، و بعث برسل آخرين يجوبون الشوارع الموصلة الى المدرسة كلها
ويسألون عنه من صادفونه من اهل القرية ، حتى لقي ذلك الرجل الذي صحبه الى داره ، فاخبرهم خبره ، فاطمأنوا بعض الاطمئنان ، وفي اثناء هذا البحث في الخارج كان قلب الام قد قادها الى مكمنه ، فوجدته نائما فاحتضنته
ورفعته الى كتفها في رحمة ظاهرة ...
اما هو فقد افاق ، ولكنه لم يستطع ان يرفع اليها نظره ، لقد دفن وجهه في صدرها ، وجعل يبكي وينشج
وعبثا حاولت ان تقف منه سرهروبه من المدرسة هي أو أحد من أهله ... لقد أخجله أن يعترف لهم بخوفه من ضابط الجمباز ! .
الفصل القادم : [ المدرسة المقدسة ]
كان قد مضى شهر على هروبه من المدرسة خوفا من ضابط الجماز وكانت امه في كرب دائم وهو مقعد مقيم لأنه لم ينخرط في سلك التلاميذ كما كانت ترجو فلقد كانت تذخر له في نفسها امالا جساما تعلقها كلها على نجاحه في هذه المدرسة الأولية ليكون بداية لسفره الى القاهرة عند خاله لاتمام تعليمه و عنئذ تتحقق هذه الامال الجسام التي تنوطها بطفلها الصغير .
وكان اخوه الاكبر و هو ليس بشقيقه دائم التهكم عليه لهروبه من المدرسة و كان هو يحقد على اخيه هذا التهكم حتى لقد جرؤ على ما لم يجرؤ عليه قط من قبل ومن بعد و ما تنكره تقاليد الاسرة كل الانكار ..
جرؤ على ان يقذف اخاه هذا بغطاء القلة في وجهه ثم يلوذ بالفرار ..!
اما والده فلم يوجه اليه كلمة واحدة وكان هذا امرّ عليه من تهكم اخيه و اخيرا وجد نفسه منساقا الى ان يعود الى المدرسة ولكن بلا ضجة ولا مراسيم في هذه المرة و بلا تحضير او تدبير وجد نفسه ذات صباح يصحو مبكرا فيرتدي
ملابسه الرسمية و يتوجه الى بيت خالته فيدعو ابنها و يخبره انه ذاهب معه الى المدرسة في هذا اليوم ...
و رحب به عريف المدرسة وفقيهها وكان يسمى الناظر و سأله عن سبب غيبته وهنا وجد السر قد ثقل عليه فأفضى
به اليه ان الخوف من ضابط الجمباز و لقد كان الناظر حكيما فجعل يطمئنه من هذه الناحية حتى شعر حقيقة بالطمأنينة وعلم انه في مأمن من خطر هذا الشيطان المريد حتى يتعلم الحركات و التمرينات وأنه صغير فلا بد ان تترك له فترة
كبيرة للتعلم .. ثم وهذا هو الأهم ان ناظر المدرسة سيوصيه به خيرا عندما يجيء !
و ارتفع الكابوس عن صدره وحينما عاد في الظهر بعد قلق الجميع عليه واخبر امه بما عمل شاع الفرح في كيانها
كله و ضمته على صدرها في عطف جارف وانتظرت مقدم ابيه لتزف اليه هذا الخبر السعيد ومع ان البشاشة قد شاعت
في نفس الوالد حينما علم الا انه تظاهر بعد الاكتراث واجابها مازحا :
دعينا يا ستي منك ومن ولدك !!.
كانت المدرسة مؤلفة من ثلاث حجرات و امامها بطولها فناء المدرسة وبه الباب الخارجي وكان بها خمس فرق من
التلاميذ موزعة كالآتي على الحجرات : الفرقة الرابعة-وبها كبار التلاميذ وفيهم من تجاوزت سنة العشرين - الفرقة الثالثة-وتلاميذها اصغر قليلا - في حجرة واحد ويعلمهم ناظرالمدرسة ، والفرقتان الثانية و الأولى في حجرة واحدة ويعلمهم المعلم الآخر ، والفرقة التحضيرية وهي في حجرة مستقلة ، وهذه يشرف على ثقافتها وتربيتها .. ابراهيم .. فراش المدرسة الوحيد ! نعم ! فلقد كان ينهي عمله في كنس المدرسة ، وملء القلل التي يشرب منها التلاميذ من " الزيرين " الكبيرين " بالمزيرة " ويمسح السبورات و يزود الحجرات " بالطباشير " اللازم ، ثم ينقلب مربيا يشرف على الناشئة
في دور التحير !
وكان هذا وحده يكفي لتنفير الطفل من البقاء في السنة التحضيرية هذه ، ويضاف اليه وجود ابن خالته في السنة
الرابعة ... وابدى رغبته هذه للناظر ، وبعد مفاوضة اشترك فيها العريف استقر الراي على ان يوجد في فصل -أولى
و ثانية- الذي يتولى العريف التدريس فيه ، على ان يذهب في بعض الأحيان إلى فصل السنة الرابعة للجلوس بجوار
ابن خالته ولكن عندما يجيء المفتش الى المدرسة فلا بد ان يجلس في السنة التحضيرية مدة وجوده وكان العريف والناظر كلاهما حفيين به ولم يكن هذا عجيبا فجيوبه تحمل لهما كل صباح كميات من السكر والشاي الذي يكلفون ابراهيم الفراش اعداد شراب لهما منه في الفسحة وبعد الغداء كما ان والده دائم الضيافة لهما في الحين بعد الحين
ولهذا كله كانا يعنيان بالتدريس له على حدة داخل الفصل بكتابة الحروف الابجدية ثم الكلمات ثم الجمل في لوحة الاردوازي وتركه لمحاكاتها وكان يتقدم يوما بعد يوم و هو يتلقى العلم في شبه درس خصوصي شأنه في ذلك شأن عدد قليل من التلاميذ الآخرين من أبناء الأثرياء في القرية الذين يجدون ما يجده من الرعاية و التدليل .
وفي نهاية العام كان مؤهلا لأن ينقل الى السنة الأولى فيجلس في مكانه الطبيعي .
وكان قد ألف جو المدرسة، وبدأ يكون تلميذا حقيقيا .
في العام التالي خطت المدرسة خطوة اخرى فعين لها مدرس ثان وبذلك اعفي ابراهيم الفراش من مهمته الثقافية
واستقل بعلمه الإداري و وزع الجدول توزيعا جديدا فصار المدرسان و الناظر يتداولون الفصول الثلاثة ذات الفرق الخمس.
ووقع تعديل اخر فوضعت الفرقة الثانية و الثالثة في حجرة وانفردت الفرقة الرابعة بحجرة وحدها فيها عدا التلاميذ
" دولاب " الناظر وبه الحكك والاقلام والكتب و الكراسات.
اما في العام الذي يليه وحينما كان الطفل قد نقل على السنة الثانية فقد وقع انقلاب ضخم ارتجت له القرية ارتجاجا عظيما : كان قد توافر لدى المجلس معلمون من الفقهاء فبدا له ان يستبدل احدهم بالشيخ القارئ صاحب الكتاب الذي
لم يكن يحمله هذه الشهادة ولا عرف شيئا من الحساب ولا المواد الثقافية الاخرى ! ، وعندما تمت هذه الخطوة كانت الاشاعات قد انطلقت في الرقية فهزتها هزا عظيما ... ان الحكومة تريد محو القران بعدم تحفيظه في مدارسها ...
وهل ادل على ذلك من فصلها للشيخ احمد الذي يقرئ القران لابنائهم في المدرسة ، والذي اطمأنوا لوجوده بها فبعثوا بأولادهم إليها ! وسرت هذة الاشاعات سريان النار في الهشيم وغذاها الشيخ بطبيعة الحال انتقاما من المدرسة
وترويجا لكتابه الذي سيعود للتعليم فيه...فاصبحت المدرسة و قد غادرها عدد عظيم من تلاميذها في اثر " سيدهم الشيخ احمد " انتفاعا ببركته وبركة كتابه وبركة كلام الله وفرارا بدينهم من مدرسة الكفر و الضلال التي تسرق
الحكومة دينهم فيهاوهم لا يشعرون !
ولكم يكن يكن ليفوت " سيدنا " ان يمر بوالد الطفل ليبلغه الخبر العظيم وليحذره بقاء نجله بالمدرسة ثم ليؤكد امله الوثيق في انه سيذهب من الغد الى الكتاب فهو ابنه ولا بد ان يتولى تعليمه كما تولى تعليم ابيه .
ولقد كان ابوه ارشد من ان تؤثر فيه هذه الدعاية اذ كان من قراء الصحف مشتركا في صحيفة يومية وعضوا في
لجنة الحزب الوطني بالقرية ولكن كان خجولا ومجاملا فلم يود ان يجرح شعور " سيدنا " - ابن سيده - و وعده بان
يكون الطفل منذ الصباح في الكتاب .
وثارت زوبعة في المنزل حول هذا الانقلاب ..فاما والدته فهي مصرة على بقائه في المدرسة لانها مفتاح تلك الامال الطوال العراض التي تعلقها على الطفل الصغير واما والده فقد وعد و ما يجوز ان يرجع الرجال في وعودهم بحال !
ولم يكن بد من ان ينفذ رأي أبيه وان يتوجه منذ الصباح الى الكتاب ..
لا يذكر ان قلبه الصغير قد عرف من قبل مثل الهم الذي عرفه ذلك اليوم ولا ان صدره ضاق و حرج واكتأب كاليوم ايضا .. لقد استقبله سيدنا الشيخ احمد بالحفاوة و البشر و البشاشة ولقد اجلسه بجواره على الفروة التي يجلس هوعليها ، في حين جلس صبيان الكتاب على الحصيرة في وسطه أو على المصطبة الدائرة بجانب الجدران .
ولكن هذا كله لم يفتح نفسه لشيء لقد اعتاد ان يستقبل في الصباح ذلك البناء النظيف النيق ، ذا الحجرات المطلية بالجير و الفناء المفروش بالرمل وان يجلس على المقاعد المدرسية و أمامه قمطرة وفيه الكتب والأدوات و الكراسات
و لوحة الاردوازي الانيق ... اما هنا في الكتاب فلا مقاعد ولا قماطر ولا حجرات ولا جرس ولا صفوف ولا كتب ولا ادوات ولا كراسات ... انما هو لوح من الصفيح يكتب فيه التلاميذ بحبر مصنوع من زهرة الغسيل او من " هباب " المصابيح
او من مواد تشبهها ، وهم يحملون الدواة و القلم في ايديهم اينما ذهبوا ، فلما ذهبوا فاذا " سّمع " لهم سيدنا " الألواح " ووجدهم قد حفظوا اذن لهم بمسحها وكتابة ايات اخرى من القرآن فيها .
اما طريقة مسحها فهي طريقة قذرة اذ يبصق التلاميذ فيها ثم يدعكونها بايديهم و يمسحونها بطرف ثيابهم لذلك تبدو ثيابهم ملوثة بالحبر .
ثم لقد هاله ان سيدنا حين يصحح هذه الالواح لهم بالمداد الاحمر و يلاحظ فيما كتبوا غلطا يبادر بلحس الكلمات المغلوطة بلسانه ومسحها بطرف كفه ليكتب بدلا منها الكلمات الصحيحة ثم اذا بدا لتلميذ ان يستأذن لقضاء حاجة خارج الكتاب
فانه لا يرفع اصبعه كما يرفع التلاميذ في المدرسة أصابعهم ، بل يروح يفرقع بإصبعه السبابة فوق أصابعه الأخرى
وهو ينادي : سيدنا ، سيدنا .
فإذا انتبه إليه سيدنا جمع أصابعه وقال له : "دستور" !
فإذا إذن له خرج وقد لايعود أبداً بقية اليوم .
على أية حال لقد امتلأت نفسه اشمئزازا من كل ماحوله وأحس هناك بغربة مريرة ذليلة .
وحينما عاد إلى المنزل كان قد صمم على الا يعود أبدا إلى هذا المكان القذر ، مهما أصابه من التهديد والتبكيت ، وأسر بهذة الرغبة الملحة إلى أمه ، فاغرورقت عيناها بالدموع .
وفي الصباح كان والده وكان سيدنا كذلك يعتقدان انه ذاهب إلى الكتاب ، ولكنه اخذ طريقه خفية إلى المدرسة
مهرولا كأنما يخشى أحدا ان يتعقبه ، فوصل إليها مبكرا جدا ، فلم يجد هنالك أحدا ولا الفراش ... كان بابها لايزال مغلقا ، فآثر ان يجلس أمامه وان يركن بظهره إليه ، كأنما يأوي إلى مكان حبيب وحصن حصين عصيب.
وتكاثر التلاميذ بعد قليل ، وسأله بعضهم لماذا غاب بالأمس ، فقد كان هذا هو اليوم الوحيد الذي غاب فيه منذ ان جاء إلى المدرسة، وراح يشرح لهم كيف ذهب إلى الكتاب ، وكيف وجده قذرا لايطاق ، وكيف يختلف في كل شيء عن مدرستهم الجميلة وفجأة انقلب داعية إلى المدرسة ضد الكتاب ، وهو لايدري ماالدعاية والترويج ، وحينما سأله الناظر عن سر غيبته الشاذة ، راح يقص عليه والدموع تنهمر من عينيه ظروف هذة المأساة ... وطمأنه الناظر على مقامه بالمدرسة ، ووعده بأنه سيذهب اليوم إلى والده لإقناعه بالبقاء ، واستراح كل الراحة ، ووجد نفسه يتنفس في البيئة الطبيعية التي يألفها .
وحينما حان موعد الانصراف ذهب إلى الناظر ليذكره بوعده فأبلغه أنه قادم على أثره ... وهكذا كان .
فقد حضر الى الدار مع زميليه ، واقنعوا والده بأن ابنه خسارة في الكتاب ، وانه تلميذ نبيه متفوق ، وانهم ينتظرون له مستقبلا طيبا في المدرسة .
ونظر إليهم لأنهم ليسوا من أهل البلدة بل ضيوف ، فقد اضطر إلى قبول رجائهم ، واعتذر لسيدنا بهذا العذر حينما عاود المجيء ، فانصرف وهو يحوقل ويستعيذ من رسل الكفر والضلال * * *
منذ ذلك اليوم عادت المدرسة في نفسه مكانا مقدسا كمحاريب الصلاة ، وارتفعت بما فيها ومن فيها في عينه درجات وآلى على نفسه ان يكون داعية المدرسة المكافح ضد الكتاب 0
ان حجة الكتاب الكبرى انه يعنى بتحفيظ القرآن ، بينما المدرسة تهمله ، و لاتستطيع ان تخرج تلميذا واجدا يحفظه ..
إذن فليوجه همه إلى حفظ القرآن ، حتى يهدم هذه الحجة الكبرى .. وانه ليرهق نفسه و صحته المرهقة ويسهر الى منتصف الليل ليعيد في كل ليلة جميع ماسبق له حفظه من القران وذلك بجانب الدروس الاخرى .. فما يكتمل العام حتى يكون حفظ ثلث القران حفظا جيدا يباهى به من يتحداه ! ثم يؤلف جبهة من تلاميذ المدرسة ضد " أولاد الكتاتيب " جبهة للمفاخرة بكل شيء . وبحفظ القران ايضا .. واية ذلك هي" النقاوة " ومعناها ان " ينقي " - اي ينتقي - بعض التلاميذ لبعض التلاميذ ايات و سورا من القران للاختبار في حفظها وذلك على سبيل المباراة بين هؤلاء و هؤلاء وكثيرا ما فازت المدرسة فأدركته النشوة الجارفة بهذا الانتصار .. كان من مفاخر فريق المدرسة أشياء و أشياء .. بناء مدرستهم الأنيق النظيف ، بجانب بناء الكتاب القديم القذر ، وفناؤها الفسيح ، والشجرتان الظليلتان به ، و زهرتهما الجميلة التي لا نظير لها في القرية كلها : زهرة " دقن الباشا " ذات الرائحة العطرة ، و " المزيرة " وهي صوان من الخشب المتشابك بداخله
" زيران " كبيران على حمالتين من الحديد ، و تحتها جردلان نظيفان لتلقي الماء المقطر الذي يشرب منه " الافنديات " و " الافنديات " - جمع شيخ ! - وهم معلمو المدرسة و ناظرها - وكان التلاميذ و أهل البلد يلقبونهم بهذا اللقب تمييزا لهم عن مشايخ القرية و هم حفظة القران - الأفنديات ، و ملابسهم النظيفة و مرتباتهم التي تصرف من مجلس المديرية لا من
" خميس " الاولاد الذي يؤدونه لهم في كل يوم خميس ! ثم المقاعد و القماطر .. وبخاصة الادوات التي تصرف لهم كل
عام والكراسات الاربع والاقلام الاربعة كذلك من البوص الاحمر ، ينما أولاد الكتاب يكتبون في ألواح الصفيح بأقلام الغاب البيضاء ..
ثم النشاف الذي يجفف الكراريس بينما يستخدم ابناء الكتاب التراب في تجفيف الواحهم ، والريق في محوها مع طرف الملابس ، أو اللسان في بعض الاحيان !
وأشياء أخرى كثيرة هي موضع فخارهم ... ولكن شيئا منها لا يبلغ ما تبلغه اللافتة " الياطفة " التي تعلو باب المدرسة و هي الطابع الفريد للمدرسة الذي لا نظير له في القرية كلها و الذي نقل عن البندر نقلا !
أما قصة هذه اللافتة فترجع في الحقيقة الى العام التالي حينما انتقل الطفل الى السنة الثالثة فقد توافر للمجلس عدد من المتخرجين في مدارس المعلمين بنظامها الجديد - اذ ذاك - فعينت المدرسة اثنين منهم احدهما ناظر بدل الناظر القديم الذي نقل معلما في بلد اخرى والاخر مدرس فلم يبق بالمدرسة الا عريف واحد نقل هو الاخر بعد شهر من السنة وبذلك ارتقت المدرسة درجة اخرى واستكملت جميع خصائصها النظامية و صفي التلاميذ الكبار او بتعبير اصح الرجال ذوو الشوارب والغيت الفرقة التحضيرية ، وقسمت المدرسة الى اربع فرق بنظام معقول .
وبدا للناظر الجديد ان يدخل على المدرسة تجديدا عظيما فاقترح ان تعلق عليها لافتة باسمها على النحو المتبع في مدارس البندر وعرض على التلاميذ ان يساهموا في شراء هذه اللافتة بما يستطيعون بعد ان اعلن لهم انها ستتكلف خمسة وعشرين قرشا وتحمس صاحبنا للمشروع فهذه اللافتة ستكون مفخرة جديدة يضمها إلى مفاخر المدرسة حينما يباهي بها تلاميذ الكتاب .. وحينما بدا بعض التلاميذ يحضر مليما او مليمين وابناء الاثرياء يحضرون نصق قرش وفي النادر القرش كان هو يبذل جهده في المنزل ليحضر خمسين مليما !
وحينما تمت كتابة اللافتة في البندر ، وعلقت على باب المدرسة كاد يطير فرحا !!
و في نهاية السنة الرابعة كان يجيد حفظ القران -- وكانت هذه هي معجزة المدرسة الاولى التي تخرس السنة الدعاة
الكذبة من اصحاب الكتاتيب وصبيانها .. ولكنه و قد اتم الدراسة بالمدرسة كان لا يزال طفلا كان في نحو العاشرة وكان له زملاء قد اتموا من قبل حفظ القران بالكتاب ، ثم دخلوا المدرسة فلما بلغوا السنة الرابعة كان سنهم قد تجاوزت الخامسة عشرة و هؤلاء ثلاثة تمكنوا في نهاية العام ان يتقدموا لمدرسة المعلمين الأولية في البندر فقبلوا ..
كان هذا حدثا جديدا في القرية اهتزت له اهتزازا اذ سيصير هؤلاء بعد سنوات ثلاثة " افنديات " كأفنديات المدرسة الذين تخرجوا من تحت ايديهم ! ، و كان هو يتمنى لو يغمض عينه و يفتحها فيرى نفسه في مثل سنهم فتقبله مدرسة المعلمين ولكن اين هو من هذه الاحلام ؟
لقد كان يكّن للافنديات نوعا من الشعور يشبه العبادة ..
فهم اولا جزء من المدرسة المقدسة ، وهم ثانيا اولئك الذين يعلمون مالا يعلم ويدركون ما لا يدرك ، ويقدرون على كل شيء ولهم حياة خاصة لا يدرك لها كنها كحياة الاطياف وانه ليذكر اليوم بعد مضي اكثر من خمسة وعشرين عاما ،وبعد تقلب الظروف و الاحوال انه بعث مرة الى منزلهم الذي كانوا يسكنونه في البلدة والذي تبرع به احد ملاكها لسكانهم اعترافا بفضلهم وتكريما لهم .
يذكر أن أحدهم كان قد نسي ساعته فانتدبه وسلمه المفتاح ليأتي له بها - اذ كان معروفا بأمانته في المدرسة ويذكر انه دخل الدار متهيبا متوجسا كأنما يدخل محرابا مقدسا او دارا مسحورة فانبهرت أنفاسه و هو يخطو وهو يصعد الدرج و هو يفتح باب الحجرة المقدسة وهو يتناول الساعة ثم يغلق الباب و يعود كأنه " الشاطر حسن " داخل الكنز المسحور !
كان يتمنى اذن ان يلتحق بالمدرسة التي التحق بها هؤلاء... ولكن السن كانت تحول بينه وبين ما يريد ولم يكن بد من ان يترك المدرسة ليخلي مكانه لقادم جديد .... ولكن كم كان شاقا على نفسه ان يغادر وطنه هذا الصغير وان يبعد عن رفاقه ولداته الذين يحبهم و يحبونه و كم كان عزيزا على المدرسين ان يفرطوا فيه و هو حجتهم الاولى على نجاح المدرسة في تحفيظ القران ...
وما كان اسرع ما احتالوا لذلك فقيدوا اسمه في السنة الرابعة بعد مضي شهر من العام التالي على انه مستجد.
وهكذا عاد الى المدرسة الحبيبة ليقضي بين جدرانها عاما اخر .. يضاف إلى الاعوام السعيدة الجميلة .
ومضى ربع قرن ، سافر في اثنائه الى القاهرة ، و أتم دراسته العالية وشغل مناصب كثيرة ولكنه لا يعود اليوم الى القرية حتى يتوجه الى المدرسة المقدسة فاذا تجاوز العتبة احس برهبة التلميذ و خشوع العبادة ..
ولو سئل احلى امانيه لأجاب :
انه يتمنى انه يعود تلميذا في المدرسة المقدسة ينافح عنها الكتاب و صبيان الكتاب !
وان عشرات الصور العجيبة و الحبيبة لتقفز الى مخيلته ، وتتراقص في خاطره وكأنما يعيشها من جديد و هو يتخطى العتبة المقدسة ! .
فهو يذكر تلك الفترة التي كانت المدرسة تستحيل فيها الى شبة جزيرة يحيط بها الماء من ثلاث جهات وتبقى الجهة الرابعة وحدها في طريق الوصول .. كان يقع ذلك ايام فيضان النيل ، اذ كانت ارض قريته تغمر بهذا الفيضان شهرين في العام ، وتنكشف الارض للزرع بقية العام !
وكانت المدرسة بحكم موقعها في طرف البلدة على حدود الحقل تحتاطها مياه الفيضان إلا مسلكا واحد طوال هذين الشهرين الجميلين .
كان جمالها في يوم السبت من كل اسبوع .. ذلك ان الافنديات وبعضهم من البندر وبعضهم من القرى المجاورة كانوا يبقون في البلد طوال الاسبوع ويذهبون الى رؤية اهليهم يومي الخميس و الجمعة ، ثم يحضرون صباح السبت .. فاما في ايام السنة العادية فانهم يستقلون الحمير في الموعد المناسب ، فيصلون قبل ميعاد دق الجرس في صباح السبت ، واما في ايام الفيضان فهم يستقلون المراكب و القوارب الشراعية وهذه لا ضابط و لاميعاد ، ولا تصل غالبا الا بعد ان ترتفع الشمس وتناهز الساعة العاشرة بعد فوات وقت الدرسين الاولين وقد لا تصل حتى الظهر في بعض ايام السبت الجميلة !
ولقد كان التلاميذ يقفون على الشط او يبعدون في شوارع القرية القريبة او يقفزون و يتصايحون في فناء المدرسة يدخلون الحجرات ثم يخرجون منها في في غير ما حرج و دون شعور باي قيد وكان يحلو لهم هذا الدخول و الخروج واعتلاء المقاعد و القماطر و التلصص من النوافذ المطلة على مياه الفيضان ..
وكانت الجرأة تبلغ ببعضهم ان يخلعوا ملابسهم و يلقوا بانفسهم في الماء من النوافذ فيسبحوا ثم يعودوا فيتسلقوا النوافذ حيث يجدون ملابسهم او حيث لا يجدونها اذا ينتهز بعض زملائهم هذه الفرصة فيخفونها او ينقلونها الى مكان بعيد ، حيث يدور الطفل يبحث عنها و هو عريان في كل مكان في المدرسة حتى يهتدي اليها أخيرا !!
و تظل هذه الحالة العابثة المرحة حتى تقرب مركب او قارب من عرض الفيضان و يخشى ان يكون فيها احد الافنديات
( فقد كانوا يصلون متفرقين حسب المراكب التي تقوم من بلادهم المختلفة ) و في لمحة عين يكون كل تلميذ على مقعده ، و أمامه مصحف أو كتاب يقرأ فيه ، و النظام مستتب و الأصوات خافتة ، إلا من هيمنة القراءة دليلا على شدة الاستغراق !
فاما اذا كان احدهم في المركب فبها و نعمت وها هم اولاء جميع التلاميذ في نظام تام ! واما اذا كانت فارغة فقد نفخ في الصور مرة أخرى وعادت الضجة باعنف مما كانت وعاد القفز و الوثب الى الماء من النوافذ و على الارض في الفناء و يتكرر هذا في كل سبت طوال مدة الفيضان .
و ذلك كله على الرغم من جهود " سيدنا عبدالله " ..
و " سيدنا عبدالله " هذا هو خليفة إبراهيم الفراش ، وهو من أهل البلد ، وقد عين فراشاً في المدينة ، بعد ان كان عريفا في كتاب ، لإن المرتب الثابت وقدره تسعون قرشا في الشهر أضمن من نصيبه في " خميس " صبية الكتاب الذي قد لايتجاوز خمسة قروش في كل أسبوع !
ومع انه اشتغل فراشا فقد ظل يحتفظ بلقبه القديم " سيدنا عبدالله " .
ثم يذكر " المفتش" ولو أنها ذكرى مرعبة ، ولكنها الآن تبدو فكاهة لذيذة :
كان يزور المدرسة مفتشان شيخان : أحدهما من مجلس المديرية والآخر من وزارة المعارف ، ومع ان حضور واحد منهما كان ينشف ريق الأطفال دائما ويلقي الذعر في قلوبهم ، فوق هذا مايربك المدرسين والمدرسة ، ويخلع عليها ظلا قاتما وجوا خانقا ، فإن مفتش الوزارة كان مصدر رعب أكبر من مفتش المجلس !
كان رجلا فارعا ، أسمر الأديم ، قاسي الملامح ،حاد النظرات ، يخيل إليك دائما أنه حاقد على شيء ما ، وأنه يصرّف أنيابه من الغيظ الكظيم.. ولما كان مفتش الوزارة ، لم يكن بد أن يخلع على نفسه وعلى زيارته أهمية غير أهمية مفتش المجلس ! .. لذلك كان يبدو رزينا اكثر من اللازم ، عنيفا قاسيا في حركاته وكلماته وإشاراته ، وكانت جبته وقفطانه المنسدلان على بدنه الفارغ يزيدانه هيبة وهولا .
وكان يبدو على المدرسين فزع اكبر ، فينتقل منهم بالعدوى إلى التلاميذ .. حتى لتبدو ساعات وجوده بالمدرسة كأنها دهر طويل ، وكأن الزمن لايمر إلا ببطء شديد ..
أما الحادث الفذ الذي لا ينساه ، فهو هذا الحادث !
كانت المدرسة جارية كعادتها في هينة وتؤدة ، الجو قائظ في نهاية العام والتلاميذ خاملون ، والمدرس قد ثقلت عليه جبته فتخفف منها وألقاها على مسند المقعد ، وثقلت عليه عمامته فأمسك بها من مقبض الزر في رفق كي لاتنكث ، وألقى بها على قمطر التلميذ الأول ، وجلس على كرسيه في تراخ ظاهر ، وباعد ما بين فخذيه ، فانفسخ القفطان ، وبدت منه " تكة " السرواويل المتدلية في غير ما كلفة .. بينما الوقت يمر والدنيا هادئة ، والجميع في تهويمة لذيذة ، إذا بشبح طويل فارع يقفز من النافذة متدليا الى حجرة الدراسة فيصبح معهم في لحظة !
وريع التلاميذ ، وجمد الدم في عروقهم ، وشخصت أبصارهم إلى الشبح المتسلق ، وندت منهم صيحات مذعورة ،
واضطرب المدرس ، وقام يمسك عمامته بيد ، ويحاول ان يرتدي جبته باليد الأخرى فلا يستطيع .. والشيخ تنفرج ثناياه عن إبتسامة صفراء كالحة ، ولسانه ينطق في تهكم مر وهو يهز رأسه هزا دائما : ماشاء الله ، ماشاء الله !.
ماذا ؟
إنه المفتش - مفتش الوزارة- قد أوقف حماره الذي يركبه عادة للحضور من البندر إلى القرية ، أوقفه تحت النافذة تماما ، وأنصت ، ثم قفز على ظهره واقفا فأصبح قريبا من النافذة ثم تسلقها ليضبط كل شيء.
وكانت هذة طريقة مبتكرة في التفتيش !! .
وصورة أخرى لايملك ان ينساها كذلك :
كان النظار والمدرسون يتعاقبون على المدرسة والتلاميذ بسبب التنقلات السنوية المعتادة .
وحينما كان في السنة الرابعة عين ناظرا شيخ مسن ، تلقى تعليمه في الأزهر ، ثم التحق بمجلس المديرية .
كان الرجل أشيب ، صلع رأسه سوى دائرة حلقية ، وكانت العمامة تستر هذة الصلعة ، فإذا رفعها تبدت من تحتها كاملة ، وكانت هذة الصلعة مثار ضحك التلاميذ الشياطين وسخريتهم .
وفي يوم تمت مؤامرة بين عفاريت التلاميذ ، وبينما الشيخ جالس يصحح الكراسات والتلاميذ من حوله مجتمعون ، وهو مستغرق في العمل .. شاهد التلاميذ عمامة ترتفع شيئا فشيئا عن رأس الشيخ حتى تتوسط الحجرة ، ثم تسقط فجأة عندما يقف الشيخ غاضبا مزمجرا ، بينما ينفجر الضحك من حلوق التلاميذ وعيونهم ، ويترقرق في عيونهم الدمع لشدة مغالبة الضحك المكتوم .
كانت لعبة الشط والبكرة قد عملت عملها في عمامة الشيخ المسكين ، فلما تنبه ترك التلميذ الخيط فسقطت سقطة مفاجئة !.
كان هذا الشيخ مغرما بالإعراب ، والتلاميذ صغار في المدرسة الأولية ، لكن ماذا يعنيه هو ... انه يستدعي تلميذا منهم ليكتب على السبورة ، فقد كان خط الشيخ لا يُقرأ ، ويملي عليه أبيات كاملة من الشعر ، ثم يكلف التلاميذ ان يعربوها ، فإذا لم يعرفوا ففيه هو البركة ، وانه ليحفظهم الإعراب تحفيظاً .
ولاعليه الا يفهم التلاميذ شيئا من الاصطلاحات الإعرابية العميقة ، ولم يكن نادرا ان يلوك تلميذ صغير مثل هذة الكلمات :
" وطني : مبتدأ مرفوع بالضمة المقدرة على ماقبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة " ، أو " إذا : ظرف لمايستقبل من الزمانخافض لشرطه منصوب بجوابه .... " الخ .
وعلى كل حال فقد ازدحمت حافظة التلاميذ بشيء من هذا كثير ؟.
وتمر الأيام ويحضر العلماء وطلاب الأزهر من القاهرة إلى القرية في العطلة ، ويتطوع عالم منهم بإلقاء درس في التفسير على الجمهور في أحد مساجد القرية ، وهذا الدرس لا يتجاوز ان يجلس الشيخ ويلتف حوله القرويون الأميون ، فيسحب من صدره "ملزمة" من تفسير الزمخشري ، ويروح يتلوه عليهم ، وهو يصفق بيديه بين آن وآخر ويقول : مفهوم ؟ ، فيجيب بعضهم : مفهوم .. ، ويمضي يصب عليهم مافي الزمخشري من بلاغة ونحو وصرف وتأويلات لايدرون منها شيئا .
وكان الطفل يحضر هذة الدروس كي يصير رجلا ! ، وفي ليلة كان الشيخ يقرأ تفسير سورة الكهف ومر بقوله تعالى :
{ ذلك ماكنا نبغِ فارتدا على آثارهما قصصا } ، ولما كان الطفل حريصا على محصوله من النحو فقد لفت نظره ان كلمة
" نبغِ " محذوف حرف العلة بلا مبرر ظاهر ، فرفع إصبعه كما يصنع في المدرسة وقال : ياسيدنا الشيخ لماذا حذفت الياء في "نبغِ" بدون جازم ؟ ، ورفع الشيخ رأسه بلا إهتمام ، ثم مضى يقول وكأنه يستمر في التلاوة :
" ياسيدي حذفت الياء إعتباطا للتسهيل "
ومضى لايلوي على شيء ولايلتفت الى الطفل الصغير ، وسمع الطفل " إعتباطا للتسهيل " فلم يجد ان هذا في طوقه ، انه يعرف إعراب إذا وإعراب المنادى ، وحرف الجزم وحروف العلة ، أما " إعتباطا للتسهيل "هذة فشيء لايصل إلى مستواه .
انه علم الأزهر ، وهو هنا في القرية ، وفوق كل ذي علم عليم ! ، ومضت سنون كثيرة قبل ان يعرف الطفل : " إعتباطا " وقبل ان يعرف :" للتسهيل " ! .
ثم يذكر أشياء أخرى أهم في نظره وأعمق في نفسه ... كانت المدرسة قد فتحت أبوابها لبنات القرية أخيرا على ان يتعلمن مع الصبيان طوال اليوم فلم يكن نظام نصف اليوم للبنين ونصفه الآخر للبنات وقد اخترع في القرى ، وقبل بعض الأباء ان يرسلوا ببناتهم الى المدرسة - ولاسيما وهن طفلات صغيرات لايتجاوزن العاشرة - وكان عددهن في المدرسة كلها سبع بنات ... ومع انهن لايمتزن بشيء عن بقية بنات القرية ، فإن وجودهن في المدرسة قد أوجد فيها جوا غريبا ، وأشاع فيها عطرا خاصا ... ذلك الجو هو مزيج من الحساسية الحادة ، والرغبة المكبوتة في محادثة هذا الجنس الغريب في المدرسة ومن الحياء القروي الساذج ، والحذر من تجاوز الحد فيقع المتجاوز تحت طائلة العقاب المدرسي والمنزلي على السواء.
ولكن هذا كله لم يمنع بعض التلاميذ وخاصة الكبار منهم ، ان يأخذوا الى معاكسة البنات عند انصرافهن من المدرسة ، بالكلمات التي قد يكون بعضها نابيا ، وبالحركات والأصوات العابثة .. وكان الغرض كله هو لفت النظر بطبيعة الحال !
أما هو فإن حياءه الشديد وتقاليده العائلية قد أمسكت به بعيدا عن هذة الحركات ، ولكن هذا لم يكن معناه ان اقل رغبة من الآخرين في لفت النظر إليه .. انما كانت وسيلته إلى ذلك مما يتفق مع نشأته ، فأخذ جانب المدافع عن كرامة البنات حيثما وجه إليهن اعتداء ! ، ومع هذا فقد راعه ان يكسب الموقعة بلا نضال .. فقد كان في البيت ذات يوم ، فما راعه إلا البنات السبع يطرقن الباب ويسألن عن شقيقته الصغيرة للعب معها داخل الدار ، لم يكن هذا كله بلا تمهيد ..
فقد كان من بين البنات أخت لزوجة أحد أعمامه ، ومن بينهن ابنة عمها أيضاً كذلك ، وكان لهذة في نفسه شيئا خاصا !
ولم يكن الحديث ممنوعا بينه وبين الأولى بلا كلفة ، أما الأخرى فمع ان صلة المصاهرة البعيدة كانت تسمح له بالحديث ، إلا انه كان يرهبه ويتوقاه في قداسية صوفية وفي حياءعميق .
ولكنه على كل حال لم يدعهن الى المنزل ، وماكان يستطيع ان يوجه هذة الدعوة ... فلما حضرن جميعا على هذا النحو تقودهن الطفلة الأولى وتتمنع الأخرى في خفر محبب .. أحس في نفسه نشوة لم يشعر بمثلها قط ، لقد أدرك انه هو المقصود بهذة الزيارة لا أخته الصغيرة! ، وأحس ان هذة الأخرى تخصه بما يخصها به ، وان لم يتبادلا الكلام .
وتكررت هذة الزيارات ، ولم يزد الأمر فيها على مقابلات خاطفة ، ولكنها تركت في نفسه أثرا لايمحى .
كانت هذة الثانية خمرية اللون ، ذات طابع خاص غير مكرر في الوجوه ... ولم تكن حسب مقاييس القرية جميلة ، فليست بيضاء البشرة ، وليس أنفها دقيقا بالقدر المطلوب ، وليس فمها كذلك " خاتم سليمان " ...
ولكنها هي وحدها من بين بنات القرية جميعا كانت تبدو في نظره جميلة ، وكان سر جمالها عنده أنها ذات طابع خاص ! ، وان لم يكن يدرك في ذلك الحين معنى الطابع الخاص .
وعندما غادر القرية الى القاهرة ظل هذا الوجه يخايل له ويرسم نماذج الجمال في نظره ، حتى عاد بعد ثلاثة أعوام
وقد تغيرت حياته وتغيرت ثقافته وتغير عالمه ..
إلا ان السؤال الأول الذي توجه به في حذر والتواء ، كان هو السؤال عن مصير تلك الطفلة التي فتنته أول مرة .
وعلم انها تزوجت ، وانها تزوجت في جهة نائية عن القرية ، ورأى نفسه في حاجة لأن ينسحب من الجمع ، ورأى أن عينيه تتغرغران بالدموع !!!
ثم لكي يفرغوا لنقل ما تحمله جيبوهم من بعض الأطعمة إلى بطونهم ، فلقد حملوا نحو ساعتين و لكن " النظام " في الفصل لم يكن ليسمح لهم بعملية تفريغ الجيوب ! ثم لكي لينصرف أبناء الأثرياء منهم إلى " عشة عم خليل " بائع القصب و البلح ، فيشتروا منه بمليم ! ، و لم تكن هذه كل قيمة " الفسحة " فلقد كان لهؤلاء الأطفال مآرب أخرى في تلك الفسحة القصيرة - ربع ساعة - لقد كانت المدرسة في طرف القرية على حدود الحقول الواسعة .
و اذا كانت وظيفة الحقل ان ينبت للناس و للمدرسة الحب و الأب ، فلقد كانت له وظيفة أخرى عند تلاميذ المدرسة ، وعند غيرهم من سكان القرية ... إنه يقوم لهم بوظيفة المراحيض العمومية ! .
انطلق التلاميذ اذا في كل مكان يفرغون ما تحمله جيوبهم في بطونهم ، وما تحمله بطونهم في الحقول القريبة ... و
لكنهم فوجئوابجرس المدرسة يدق دقا عنيفا متواصلا قبل الميعاد المقرر للحصة الثالثة .
ومع أنهم لم يكونوا يحملون ساعات بطبيعة الحال ، فإنهم لم يكونوا ليخطئوا في معرفة الوقت بالضبط ، فإن احساسهم به لا يخطئ إلا في النادر القليل !.
وانتظموا صفوفا بعد قليل ، و لم يسمعوا تلك النداءات المعهودة التي يؤدون على أساسها بعض الحركات الرياضية الساذجة :
" صغادون " - أي إلى اليمين - " صولادون " أي إلى اليسار .. و " مارش " أي سر إلى الفصول .
لم يسمعوا شيئا من هذا ، و لكنهم سمعوا ناظر المدرسة يلقي عليهم خبرا غريبا عجيبا لم يسمعوا به قبل الآن ...
إنهم الآن ذاهبون إلى دوار العمدة و سيسيرون في الطريق بنظام ، وكان هذا يقتضيهم أن يقطعوا شوارع القرية كلها تقريبا فدوار العمدة في أقصى الطرف الآخر من القرية ، و الناظر يحذرهم من الإخلال بالنظام في أثناء السير ، والإلتفات
إلى اليسار أو إلى اليمين ، و بخاصة عند مرورهم " بسويقة القرية " حيث يعرض القصب و البلح و التفاح البلدي الفج .
يذهبون إلى دوار العمدة ، و لماذا ؟ ، و هم لم يدخلوا هذا الدوار قط ، و ان سمعوا عن أبائهم و أهليهم أنهم يذهبون
في بعض الأحيان ، عندما يستدعيهم أحد الخفراء لأداء المتأخر من الأموال الأميرية ، أو أموال الخفراء ، أو لأداء
شهادة ، أو للشكوى من بعض الفلاحين ...
أما هم ... هم تلاميذ المدرسة ، فما لهم و كل هذه الأشياء ؟ .
و كان هو جريء بعض الشيء على ناظر المدرسة و مدرسيها ، كان متفوقا في دروسه ، وكان قبل كل هذا ابن رجل مضيافمتنور بعض الشيء ، فهو كثير الإختلاط " بالأفنديات " كثير الضيافة لهم ، و لهذا قيمته الكبرى .
أقول كان جريئا على " الأفنديات " فاستطاع أن يسأل : ولماذا نذهب إلى دوار العمدى ؟ ، سأل وليته لم يسأل !، لقد كان الجواب كارثة عظما لم تخطر له و لا لزملائه على البال ...
إن " الحكيم " هناك - أي الطبيب - و هو يطلبهم جميعا !
الحكيم ؟ ، يا للداهية ! ، اليوم دنت آخرتهم ولا شك ، فعهدهم بالحكيم هذا إلا يزور القرية إلا في يوم أغبر أكدر يوم يقع في البلد قتيل،ثم تحضر النيابة و يحضر معها الحكيم لتشريح الجثة .
و النيابة و الحكيم هذان هما الشيئان الهائلان المخيفان في القرية كلها ، أما في أذهان الأطفال فهما " هيولي " لا يتصورون لهما شكلاو لا حجما ، فخيالهم الصغير يستطيع أن ينطلق في تصورهما كيف شاء ، و لكنه لن يميزهما بحدود من ما يميز الأشخاص و الأشياء ...
نعم كان هناك أشخاص غيرالنيابة و الحكيم ، مثل " الدورية " و هم بعض جنود البوليس اللذين يزورون القرية ليلا في بعض السنوات لإمتحان يقظة الخفراء ، بقيامهم بواجبهم ، و للقبض على كل من يجدونه يتجول في شوارع القرية ، أو مداخلها بعد منتصف الليل ...
و مثل المعاون والملاحظ ثم المأمور ، و هؤلاء لا يزورون القرية غالبا إلا مرافقين للنيابة و الحكيم ... و لكن هؤلاء جميعا دون النيابة و الحكيم في خيال القرية كلها و خيال الأطفال بوجه خاص .
ثم ها هو ذا الحكيم يطلبهم ، يطلبهم هم بالذات ، فما ذا يكون الأمر ؟ ، إنهم لا يعرفون لماذا يطلبهم مطلقا ، ولكنهم واثقون في قرارة نفوسهم أنه لن يكون خيرا و أنهم لن يخرجوا من " الدوار " إذا خرجوا ، و هم سالمون مثلما دخلوا بحال من الأحوال .
و ما وظيفة الحكيم ؟
أليست وظيفته أن يشرح جثث الموتى ، و أن يبقر بطون المصابين ، أو يقطع أيديهم و أرجلهم بمجرد الإيذاء ، أو لكي يفحصها و يلتذ بفحصها ، أو أن يسقي بعض المرضى " الفنجان " أي السم ليمتوا ، حتى لا يتعب في علاجهم ، أو تلبية لرغبة العمدة الذي يرشوه للتخلص من خصومه اللذين يصابون في الحوادث !
فما هم و هذا الحكيم ؟
انهم ليسوا قتلى يشرحهم ، و ليسوا مصابين بقطع أوصالهم ، أو يسقيهم الفنجان ، و لكن أو يستدعيهم إلا لأمر
ما ؟؟....
أخف شيئ يصنعه بهم ، هو التجريح ، و هو الإصطلاح الذي يطلقونه على عملية التطعيم .
تلك العملية المرعبة التي يندب لها بعض معاوني الصحة ، وبعض الممرضين في الحين بعد الحين ، فتروع القرية ترويعا ..
وما ان يعلن ان في البلد " الحكيم الصغير" ( تمييزا له من " الحكيم الكبير" الذي يطلبهم الآن ، والذي يرافق النيابة دائما ولايحضر منفردا ) ما ان يعلن هذا في القرية حتى ترتج وترتجف ، فتخرج الأمهات إلى الشوارع مولولات مذعورات ،
يلتقطن اطفالهن من كل مكان في ذعر وعجلة، ثم يغلقن على أنفسهن الأبواب ، ويصعدن إلى السطوح استعدادا للقفز عليها من بيت الى بيت ، فكثيرا مايدق هؤلاء الشياطين الأبواب ، ويكسرونها بمساعدة الخفراء ، ويهجمون على من فيها " للتجريح" .
فأما من تستطيع القفز إلى البيوت المجاورة ، فلن تقصر في سلوك طريق النجاة ، وأما من لاتستطيع ، فإنها تختبيء في صومعة الغلال ، أو في خم الدجاج حيث لايخطر على قلب " الحكيم" انها هناك !
هذا هو الحكيم الذي يعرفونه .. فما بالهم بالحكيم الكبير الذي لايحضر إلا مع النيابة ، والذي لايقع أحد في يده ، ثم ينجو إلا بمعجزة من معجزات القدر ، أو ببركة " تميمة" لولي من كبار الأولياء !.
وارتجفت مفاصلهم جميعا وهو يسمعون الخبر الفاجع ، واصفرت وجوههم ، وعلا صوت بعضهم بالنحيب والعويل ، وعبثا حاول " الأفنديات " ان يهدئوا من روعهم ، وان يبعثوا بالطمأنينة إلى نفوسهم ، بانهم سيرافقونهم ، وانهم لن يتركوهم وحدهم .
يرافقونهم ! ، وماذا يعني ؟ .. انهم ذاهبون إلى الحكيم .. فما غناء الأفنديات وغير الأفنديات - وذلك مع احترامهم الكبير لهم واعتقادهم انهم من طينة أخرى غير طينة القرويين - إلا ان الأمر أمر الحكيم ، لا أمر مسألة بشرية ، مما يجدي فيه البشريون .
ولما لم يكن من القدر بد ، وقد قيل لهم : انه لافائدة من محاولة الهرب ، فانهم سيقادون صفوفا في حراسة خفراء
القرية ، بإشراف الأفنديات ... ثم ان اسماءهم راحت للحكيم من دفاتر المدرسة ، فإذا هرب منهم أحد فسيقبض عليه، حيث يتعرض للعقاب !
لامفر إذن من المقدور ! وليكن مايكون !
ولكن الا يسمح لهم بإخبار أهليهم ورؤية بيوتهم وعائلاتهم قبل أن يساقوا إلى هذا المصير المجهول ؟
وقيل لهم أن هذا أيضا ممنوع .. فساروا صاغرين .
* * *
ووصلوا إلى الدوار ، ولايعلم إلا الله كيف وصلوا ، وقفوا صفا طويلا ، أوله في داخل الدوار - أي في منطقة الخطر - وآخره في الشارع أمامه ... وعن اليمين والشمال وقف أحد الأفنديات في أول الصف وأحدهم في آخره ، أما الناظر فقد سبقهم إلى الحكيم ليطمئنهم قليلا ، ويظهر أمامهم بمظهر الشجاعة المطلوب ! ، وكان ترتيب الصف حسب الطول ، فتقدم كبار التلاميذ وتبعهم الصغار أو القصار ، وفي هذة اللحظة فقط أصبح القصر نعمة كبرى من نعم الله !
فأما الذين تقدموا فلايعلم عنهم أحد شيئا إلا الله ، وأما المتخلفون فهم في تطلع مستمر وقلق دائم ، ينتظرون ماذا سيفعل بأول الداخلين ، ليعرفوا نوع المصير الذي ينتظرهم بعد حين!
وكانت مفاجأة حينما بدأ بعض الكبار يخرجون ، بينما بقية الصغار لايزالون في الصف الطويل ...
وانبعثت الصيحات والأسئلة التي لم يستطع كبحها الخفراء ولا الأفنديات :
- دخلتم للحكيم ؟
- نعم دخلنا !
- وماذا صنع بكم ؟
- لا شيء ! ، غزّنا في إصبعنا بالدبوس وشفط الدم !
الدم ! و لكن رؤيتهم لهم أحياء أصحاء مطمئنة على كل حال !
- وماذا هذا في أيديكم ؟
- حق من الصفيح نأتي فيه بعينة براز و زجاجة صغيرة نأتي فيها بعينة بول !
- عينة براز و عينة بول ؟ ولماذا ؟
- لا ندري ! هكذا طلب من الحكيم !
- الحكيم نفسه طلب منكم هذا ؟
- لا ... الحكيم الكبير غزّنا . والحكماء الصغيرون سلمونا الحق و الزجاجة وطلبوا منا العينة للحكيم !
و توارى الفزع قليلا ليحل محلة التساؤل المصحوب بالدهشة و الإستغراب لهذا الطلب الغريب ! ، ان أحدا لم يطلب اليهم مثل هذا الطلب من قبل .
وماذا يصنع الحكيم بهذة العينات العجيبة ؟ انهم ان فهموا غزهم بالدبوس و شفط الدم ، فانهم لا يفهمون طلب العينات .
إن الغز و الدم لازمتان طبيعيتان للحكيم .. ولكن هذا ؟ من يدري ؟ انه الحكيم !
وعلى سهولة الطلب ورخصه ، فانه بدا صعبا عزيزا في كثير من الحالات ..
لقد طلب اليهم جميعا ان ينطلقوا إلى دورات المياه بمساجد القرية ، وان يعودوا بعد نصف ساعة ومعهم المطلوب ..
وليس كل تلميذ بمستعد لتلبية هذا الطلب في مثل هذا الوقت ، ولا سيما ان الفسحة المدرسية كانت قد أفرغت ما في البطون .. لو كان هذا قبل الفسحة لكان كل شيء حاضرا - وبخاصة احدى العينتين التي لا تأتي هكذا عند اللزوم !
فأما الذين كان في أمعائهم بقية فقد انطلقوا مطمئنين ، وأما الذين أحسوا ان أمعاءهم لا تستجيب لهم ، او حاولوا ولم يفلحوا ، فقد علا وجههم الاصفرار ، وارتفعت دقات قلوبهم من الخوف ، وركبتهم الحيرة التي تركب المذعورين !
ماذا يصنعون ؟ وكيف يعودون الى الدوار ؟ ، أو كيف يغيبون عن الموعد المرسوم ؟ ، ان اقل ما يتصورونه ان هم عادوا فارغين ان يبقر الحكيم بطونهم ليتناول منها العينة المطلوبة ، أو ان يدخل في أجسامهم قنوات طويلة لسحب هذه العينة .
و في الأولى الموت أو خطر الموت ، وفي الثانية العار أمام اخوانهم وعند القرويين !
ومن ذا الذي يعصمهم من هذا المصير ، وهم بين يدي الحكيم ؟ ان أهليهم على شدة بأسهم وقوة أجسادهم لا حول لهم ولا طول امام أخطر رجل في الحكومة .. صنو النيابة .. وكفى !
وهنا تتفق الحيلة ، وتبدو قيمة التعاون !
ان التلاميذ لأخوة ، فمتى تظهر قيمة هذه الأخوة ان لم تظهر الآن ؟
لقد انطلق المحرجون يرجون اخوانهم ان يمدوهم بعونهم ، وان يتولوا عنهم ملء هذه الأحقاق الصغيرة !
ملأها، فلقد كثر التساؤل بينهم : أو يكفي نصف الحق أم لا بد من ملئه ؟ ...
وكانت أغلبية الآراء تشير بأنه لا بد من امتلاله إلى نهايته ، فاصبح هذا هو المقرر في اذهان الجميع !
وهنا تظهر الطبائع على حقيقتها ، فالشدائد هي أفضل محك لها ! فأما ذوو الاصل و الطبع النبيل من التلاميذ فقد تقدموا لمعاونة زملائهم بلا تردد . وأما قليلوا الأصل و ذوو الطبائع اللئيمة فبعضهم شفاء لحزازات قديمة وبعضهم لؤما وانتهازا للفرصة !
ولكن هذا التعاون لم يسد الحاجة الا لحد معين ، وبقي عدد كبير من الأخوان الذين لا يجدون ما ينفقون ! ..
وهنا تفتقت عبقرية أحدهم عن حيلة بارعة :
ان في مراحيض المساجد متسعا للجميع !
أما كيف كان ذلك ؟ فلا بد من بيان عن هذه المراحيض .
كان في القرية حوالي عشرة مساجد مبنية كلها على الطراز العتيق . وكانت دورات المياه بها عجيبة فهمي مؤلفة من
" مغطس " هو حوض مبني من الطوب و مطلي بالسمنت من الداخل و الخارج ، يملؤه عامل خاص يمتح بالدلو من بئر المسجد و يصب فيه حتى يمتلئ .
وفي الحائط الخارجي للمغطس ركبت صنابير تصل من البناء مباشرة إلى الماء بداخله .
ومنها يتوضأ المصلون .. ولكن المغطس لا يستخدم فقط للوضوء .. انما هو الحمام المختار لعدد كبير من الناس الذين يعوزهم الماء في بيوتهم للغسل حين يحتاجون ، فيذهبون اليه في جنح الظلام قبيل الفجر حيث يتسورون حائطه ، ويرفعون غطائه الخشبي ، ثم يغطسون ، فينقون أجسامهم من الأوضار المادية و المعنوية ، ويدعونها عناك للمتوضئين!
و يلحق بدورة المياه المراحيض ، وبناؤها عجيب ، فهي تقع في صف طويل ، يفصل بين كل اثنين منها حائط .
ولكنها من الداخل متصلة بقناة مكشوفة يجري فيها الماء للجميع من منفذ في الحوائط الفاصلة بسعة القناة ، وتملأ هذه القناة بالماء من البئر كما يملأ المغطس ، ومن هذا الماء " الجاري " المتصل يتناول المصلون وغير المصلين للاستنجاء بأيديهم ، وهم داخل المراحيض ، والماء يجري و يتصل بالجميع !
أما بناء المراحيض ذاتها فأعجب . فالمرحاض يتكون من " كتفين " يجلس فوقهما من يريد ، وبينهما فجوة واسعة تضطر الجالس الى ان يباعد ما بين رجليه كي لا يسقط في الفتحة الكبيرة ... في هذه الفتحة يتساقط ما يتساقط فيتراكم قريبا من الجالس ، لأن خزانات المساجد محدودة . والعدد الذي يتردد عليها ضخم جدا - اذ ليس في المنازل
مراحيض إلا نادرا - وجميع الرجال و الأولاد و الكبار يلجأون إلى المساجد و الحقول ، أما النساء و الأطفال ففي سطوح المنازل تتسع للجميع !
وتبقى هذه الحالة طوال السنة ، و الرائحة التي لا تطاق تنبعث من هذه المراحيض المكشوفة ، و المواد النازلة على مرأى من الجالس لقضاء الحاجة ، والبعوض يتبادل مواقفه تارة على هذه المواد المكشوفة ، وتارة على وجوه
الجالسين ، فإذا خلت منهم المراحيض أخذ طريقه الى المصلين والى البيوت المجاورة جيئة و ذهابا حيثما يريد !
وفي موعد خاص يستقدم " السرباتية " أي الذين يكسحون المجارير يستقدمون من المدينة القريبة بمقاولة خاصة لنزح خزانات مسجد أو عدة مساجد .. ولهذا النزح طريقة عجيبة .. ان العربات الخاصة لم تكن تستخدم هناك على النحو المتبع في بعض المدن الخالية من المجاري .
وما الداعي لهذه العربات ؟ وهناك طريقة طبيعية مقتبسة من البيئة الزراعية ؟ إلا تستخدم القنوات في الحقول لنقل الماء من مكان إلى مكان ؟ فلماذا لا تستخدم كذلك في نقل هذه المواد من المجارير إلى الحقول ؟ إلا أنها لتستخدم ! فما هو إلا ان تحفر قناة مكشوفة من المسجد الذي يراد كسح خزاناته إلى الحقول خارج القرية .
وتمر هذه القناة بالبيوت و الحوانيت في وسط الشارع ، ثم يربط جردل بحبل و يعلق هذا ببكرة ، و يقف عاملان يتناوبان فوق الخزان ، يملئون هذا الجردل من الخزان و يصبونه في اصل القناة .
وبعد هنيهة يجري التيار حاملا كل شيء إلى الحقول المحفوظة بهذا السماد الطبيعي الثمين !
هذا وقد يتفق ان تكون عدة مساجد متفرقة من القرية في حاجة الى التطهير ، فتوفيرا للقنوات المتعددة ، توصل قناة بقناة ، وإذا بالقرية كلها شبكة واحد من القنوات المتصلة .. ولا على سكان البيوت و الحوانيت ان يتمتعوا بالنظر الفذ و الرائحة القوية اسبوعا أو أسبوعين ... فتلك بيوت الله ، و لايجوز ان يتأذى أحد من فضلات المصلين !
قرب المواد المطلوبة في فتحات هذه المراحيض العجيبة ، هو الذي فتق الحيلة البارعة التي نبتت في ذهن هذا التلميذ العبقري ! وما اطلع بها على اخوانه الملهوفين ، حتى طلع عليهم الفرج بعد الضيق ..
وماهي إلا دقائق حتى كانت الأحقاق كلها مليئة ، فتسلمها الحكماء في اطمئنان عميق ... وسمح للتلاميذ بإجازة بقية اليوم ، فعادوا إلى منازلهم غير مصدقين !
* * *
وعلم فيما بعد أنها كانت بعثة طبية للقيام بإحصاء طبي عن حالات الانيميا و البلهارسيا والانكلستوما و الاسكارس . ولكنه لم يعلم كيف كانت النتائج الني دونتها البعثة في احصاءاتها الرسمية الوثيقة !!! .
الفصل القادم : [ سيد الحكيم ]
حينما اصبح الصباح ، وارتفعت الشمس قليلا ، وتجاوز الوقت الضحى ، فإذا جميع من في البيت مرضى ، يقيئون
ويتوجعون ، بينما كانوا جميعا بالأمس أصحاء تملأ أجسامهم العافية ، ماعداه إذ كان متوعكا منذ أيام .
كانوا قد تناولوا طعام العشاء المؤلف من اللحم ومن نوعين من الخضر ومن الرز ومن البطيخ .. أما السر في تعدد الألوان
هكذا ، فقد كان هو " الختمة " !
والختمة كانت عادة موسمية في منزلهم ، تكرر أربع مرات أو خمسا في العام .. وفحواها ان يدعى بعض " الخطباء" أي
قراء القرآن في النمزل لتلاوته ، تبركا وتيمنا ورحمة على أرواح الأموات في مواسم معينة : في يوم عاشوراء ، وفي
العيدين الصغير والكبير ، وفي اليوم السابع والعشرين من رجب ، وفي نصف شعبان ... كما كان يتلى طوال شهر رمضان .
وسميت ختمة لأن القراء الأربعة أو الخمسة كانوا يختمون فيها قراءة المصحف كاملا ، يجودون بعضه ، أي يقرأونه بصوت مرتل مرتفع ، ويسرون بعضه ... وهذا متروك لذمتهم ! ، فبعضهم - وهم الأتقياء - يتحرجون فيقرأون نصيبهم كاملا في سرهم ، ان لم يكن يوم الختمة فبعدها، وبعضهم يهمهم ويتمتم ويمضغ بضع آيات ، وهو يرفع صوته بين آن وآخر بكلمة مفردة أو مقطع من كلمة ، يعود بعده إلى الخفوت والأسرار ، ثم يعلن انه انتهى من قسمه المقرر ... وصدق الله العظيم ! .
كان هؤلاء القراء يدعون قبل الختمة بليلة استعدادا للصباح المقبل ، فإذا صلوا الفجر حضروا إلى الدار وجلسوا في
" دوار البيت"يتلون القرآن بصوت خفيض حتى تطلع الشمس ، وعندئذ يقدم لهم طعام الإفطار ، وهو غالبا من الأرز المطبوخ باللبن ، أو من خبز القمح المفتوت في اللبن المسكر - وذلك ان كان هذا موسم اللبن بين الخريف والربيع - فإذا كان في الصيف وكان اللبن شحيحا في المنزل وفي القرية ، لأن حيوان اللبن يكون في هذة القرية قد رفع -أي رفع لبنه وقطعه استعدادا للولادة في الخريف- فيما عدا الحيوان " الكندوز" وهو الذي لم يتم لقاحه ، فيظل يحلب إلى العام التالي على ولادة العام الماضي.
إذا كان كذلك فان طعام الإفطار يكون غالبا من العسل والجبن ، مع خبز القمح في بعض الأحيان ، أو مع الفطائر في أحيان أخرى .. ثم يظلون يقرأون القرآن وتارة بصوت مرتفع مرتل ترتيلا ، وطورا بصوت خفيض أو همهمة لاتكاد تبين ، حتى يقترب الظهر فيخرجوا إلى الصلاة ، ثم يعودون ليجدوا غداء من خبز القمح ومن الجبن والعسل حتما .. فيأكلوا ، ثم يقيلون ان كان الوقت صيفا الى العصر ، أو يستريحون قليلا ويشربوا الشاي والقرفة والمدفئات الأخرى إذا كان الوقت شتاء .. فإذا وجبت العصر خرجوا إلى الصلاة أو صلى بعضهم في الدار ..
ثم يجتمعون مرة أخرى بعد العصر ، فيظلون يقرأون تلاوة وترتيلا بصوت عال يسمعه معظم أهل الحي ... إلى المغرب حيث تقدم لهم الوجبة الرئيسية من اللحم والخضر والأرز والفاكهة الطازجة أو المطبوخة ... فيأكل بعضهم في تعفف وأدب، وهذة هي القلة القليلة ... أما الأكثرية الغالبة ، فتتناول الطعام في نهم ظاهر ، وبطريقة خشنة عنيفة.
ولايزال يذكر ان بعضهم كان يقسم الرغيف من الخبز الشمسي الكبير ، الذي يعادل ضعف رغف المدينة .. إلى أربعة أقسام فقط ، ويغمس كل ربع في صفحة الطعام بجشع ونهم ، بحيث يبتلع اكبر قدر ممكن من الأدام ، ثم يرفعه والسمن يسيل على كفه كلها وكراعه وينقط على ملابسه كذلك .. ثم يقذف هذا الحمل كله في فم واسع ، ومايكاد يلوي شدقيه لية هنا ولية هناك ، حتى يدهوره في بلعومه بصوت ظاهر ، بينما تكون يده مشغولة بتحضير القضمة التالية .. وهكذا حتى يصل إلى الرغيف التاسع أو العاشر في مثل لمح البصر ، ومن باب أولي يصنع ذلك باللحم والفاكهة ، وكان يوزع عليهم بسخاء حتى ليبلغ نصيب أحدهم رطلين !.
لذلك كانت طائفة القراء في القرية محسودة ، وكان الاقبال على تحفيظ القران شديدا ، فالقاريء مكفول الرزق معظم أيام السنة ، وهو يظفر من الطعام بما لايظفر به كبار أثرياء القرية في كثير من الأحيان .. ثم هو يتناول بعد ذلك كله أجرا قد يبلغ خمسة قروش في كل ختمة ، وان كان المتعارف ان يكون نصف هذا المقدار ..
ولم تكن أيام " الختمة" هي كل الأيام السعيدة في حياة القراء ، فهناك المآتم وكانت تقام سبع ليال كاملة في القرية ، يتلى فيها القرآن عصرا وليلا وصبحا في بعض الأحيان ، ويقدم فيها الطعام للقراء مرتين في اليوم ، فيهما وجبة من اللحم والخضر حتما وهي وجبة العشاء .
ثم هناك " الطلعة" وهي التي تعقب الأيام السبعة ، حيث يذهب أهل البيت إلى المقبرة ، ويتوافد عليهم المعزون ، وهناك يقرأ القرآن ، وينال القراء كمية لابأس بها من الفطير .. ثم يعودون إلى الدار فيقرأون " ختمة" شأنها شأن الختمات المستقلة في المواسم .. وهذة يستوي في إقامتها الفقراء والأغنياء .. وعلاوة على هذا الطعام الفاخر طوال الأسبوع يقبض القاريء أجرا سخيا نظير إحياء المأتم سبع ليال ، قد يبلغ في بعض الأحيان نصف الجنيه ، وغالبا يكون خمسة وعشرين قرشا! .
أما " سهرة رمضان" فكانت موسما طويلا سعيدا لطائفة القراء .. فأكثر من عشرين بيتا في القرية كانت تقيم هذة السهرة ، فتستغرق بين الأربعين والستين قارئا - هم المحظوظون الذين ينظر إليهم زملاؤهم بعين الغبطة والحسد- وهؤلاء يتناولون في كل ليلة سحورا فخما ، وفي بعض البيوت يتناولون طعام الفطور أيضا ، فإذا كان العيد أقاموا " الختمة" وأكلوا الأكلة ، وقبضوا أجرهم عاليا ، جنيها في الغالب لكل " خطيب" !.
فلا عجب ان كانت هذة الطائفة مرموقة في القرية .. فهم ببركة كتاب الله يحملونه على قلوبهم ! ، مكفولوا العيش ، مستورون سعداء !! .
كانت ليلة نصف شعبان ، وكانت هذة الألوان المتعددة من الطعام ، وتناولوا طعام العشاء بعد أكل " الخطباء" ووزع الطعام على الفقراء ، وبقيت بقية من اللحوم ومن البطيخ " المشقوق" فبات إلى الصبح !
وحينما متع النهار في الضحى ، اجتمعت العائلة فتناولت شيئا من اللحم مع الجبنة والخبز ، وتناول بعضهم شيئا من البطيخ .. اما الطفل فنظرا لتوعكه لم يمس اللحم ، وإنما تناول قطعة صغيرة من البطيخ ، مع لقمة مأدومة بالجبن .. وكفى! .
ولم تمض ساعة حتى بدأوا يشكون المغص ، ثم يسبق بعضهم فيفرغ مافي جوفه ، ويتأخر البعض قليلا ليلحق بالسابق ثم يغلبهم الألم ، ويأخذهم الدوار ، وترتفع في المنزل كله نغمة واحدة : الأكل مشموم !
كانت العائلة إلى هذا الوقت صغيرة ، مؤلفة من الوالدين و هذا الطفل الوحيد وشقيقتين له إحداهما تكبره بثلاث سنوات و الأخرى تصغره بهذا القدر أيضا .. ولكن كان يحيط بهذه العائلة الصغيرة عدد من الخدم ، لم يكونوا خدما في الواقع كما يفهم سكان المدينة هذه الكلمة .. كانوا ناسا من الفقراء ، يعضهم يمت إلى العائلة بصلة القرابة في أصولهم البعيدة ، وبعضهم يجاورهم في السكنى .. وكان هؤلاء ، وفيهم الرجال و النساء و الأطفال ، يقومون بشؤون المنزل - ما عدا اعداد الطعام الذي كانت تنفرد به أمه حتما - في فترات من النهار و الليل مقابلة أكلة ! أو شيء من الوقود الذي يلزم لهم من روث الدواب و في مقابل بعض الملابس التي يخلعها أهل البيت ، ويستطيع هؤلاء الفقراء ان يجدوا من الصلاحية
ما لم يجده أهل الدار ، ثم في مقابل كيلات من الحبوب في المواسم ، وكميات من التبن و أعواد الذرة الجافة للوقود .
وكانت الصلة بينهم وبين أهل البيت عائلية ، لا صلة الخادم بالمخدوم ، فهم يلقبون صاحب البيت " عمي الحاج " - وكان أبوه حاجا - ان كانوا صغارا ، و ينادونه بلقب " الحاج " فقط ان كانوا كبارا . بلا ذلة " سيدي " المتعارفة في المدينة .
أخذ أفراد العائلة واحدا بعد الآخر تظهر عليهم دلائل التسمم وارتفعت الصيحة : الأكل مشموم .. بالشين لا بالسين . والفارق بينهما هو تحديد التسمم بان بعض الزواحف قد شمته . وكان الذهن ينصرف غالبا إلى الثعابين وفي بعض الأحيان إلى الأبراص .
فكل طعام يترك مكشوفا - وبخاصة اللبن و البطيخ - يكون في اعتقادهم عرضة لأن يشمه الثعبان ، يشمه أي يلعقه . و " يبخ " فيه ، أي يترك فيه لعابه السام .. ومتى تناوله الناس سرى في أجسادهم السم سريعا ، كما وقع لهم جميعا !
لم تمض ساعة حتى كان الخبر قد انتشر في جميع أنحاء القرية وحتى كان الناس قد بدأوا يفدون أفرادا و جماعات ، فيهم الأهل و الأصدقاء ،وغير الأهل و الأصدقاء ، وازدحمت الدار على سعتها بالوافدين من الجنسين . فأما والده فكان قد فرش له في " الدوار " المستقل عن قسم " الحريــم " وازدحم مكانه بالرجال من كل طبقة و سن . و أما هو ووالدته و أختاه ، فكانوا في القسم الآخر ، ولم يعد فيه موضع لقدم من الزائرات العائدات !
كانت الحالة تنذر بالخطر ، و السوابق في القرية لا تبشر بالخير في مثل هذه الحالات التي كثيرا ماكانت تتكرر ، و يكون سببها أما الأطعمة الفاسدة بسبب تناول البطيخ البائت يومين أو ثلاثة ، أو بسبب ثاني أكسيد النحاس الذي يتراكم في آنية الطبخ النحاسية ، ثم يعزى دائما إلى شم الثعابين ! أما في حالتهم هذه فأكسيد النحاس مستبعد ، لآن أواني الطبخ كلها كانت مطلية في اليوم ذاته بالقصدير ، لآن هذه المناسبة كانت تنال استعدادا خاصا و تهيؤا لها في كل شيء ! و الغالب ان هذا التسمم نشأ عن فساد البطيخ المشقوق ، فالبطيخ يناله هذا التسمم الذاتي في
كثير من الأحيان .. و ان كانت بقيته قد تناولها آخرون من الخدم فلم يتأثروا إطلاقا و كذلك بقية الطعام !
و قد كانت هذه الظاهرة مدعاة لفرض آخر - غير شم الثعبان - ذلك هو ... الحسد ! فهذا اعتقاد شائع في القرية .. محسودين على أشياء كثيرة و بخاصة مستوى معيشتهم ، وهذا ما يثير اعظم الحسد في القرية ، ولا يعادله شيء من مظاهر النعمة الأخرى .. فيكفي أن يطلع الناس على كمية اللحم التي تدخل البيت ، وعلى كمية السمن التي تستهلك فيه ، وعلى الفاكهة و سواها مما لا يتمتع به إلا بعض الناس ، حتى تثور أحاسيس الحسد في نفوس العدد الأكبر من القرويين ، و هم جد معذورين .
اتجه الرأي إذن إلى الحسد ، لتعليل هذا التسمم الفجائي الجمعي لأهل البيت ، بينما الذين تناولوا الطعام الطعام من الخدم لم يتسمموا .. ومع ان هناك تعليلات كثيرة لهذه الظاهرة، فان تعليل الحسد كان هو التعليل الأول المذكور . ولكن والده و هو رجل متنور لم يقبل هذا التعليل ، و لم يركن إليه ، فاتجه الرأي إلى التطبيب ، و علاج هذا التسمم بما يناسب من الترياق !
أما الطفل فلو انك اطلعت على حقيقة شعوره في هذا اليوم لرأيته شعور البهجة و الاغتباط .. فهذه " الهيطة " في الدار ، وامتلاؤه بالناس من مختلف الأشكال و الطبقات ، و دخول الناس و خروجهم ، واهتمامهم الظاهر بهم و به هو بنوع الخاص - اذ كان وحيد العائلة - وهذه الحركة الدائبة التي لا تهدأ ... هذا كله كان يثير حسه ، و يبهج خاطره - على الرغم من كل شيء - ولولا انه كان متوعكا من قبل ، لتضاعفت هذه البهجة . فما في كل يوم يظفر بهذا الهرج و المرج في الدار !!!
* * *
بين هذه الجموع الدائبة الحركة ، الكثيرة العدد ، كان هناك رجل ملحوظ ... كان طويلا نحيفا ابيض البشرة يرتدي جلبابا ابيض نظيفا ، مفصلا على طريقة البندر لا طريقة القرية ، و يرتدي فوقه ميدعة نظيفة كذلك ، ويلبس في قدميه " شبشبا " بادي الأناقة .
كان هذا الرجل الأنيق الملحوظ من بين الجمع كله ، يأمرو ينهي و لكن في رفق و لطف و ظرف ، وكانت أوامره و نواهيه تتعلق باستحضار كميات من اللبن ، يتولى بنفسه إذابة مادة خاصة فيها ، ثم يأمر فتحمل في أكواب إلى المرضى ... فلقد كان هو المشرف على علاج هذا العدد الضخم من المسومين . ذلك الرجل الملحوظ .. هو السيد الحكيم !
و يجب ان تعرف ان هذا السيد هو أحد التمورجية المفصلوين من المستشفى الأميري بالبندر ، وقد آثر - بعد فصله - ان يفتتح عيادة في القرية ، يتمتع بها بلقب الحيكم !!! و يذكر الطفل هذه العيادة : لقد كانت تشغل حجرتين كبيرتين نظيفتين فوق دكانين في سوق القرية .. وطالما دخل هذه الحجرة " للغيار " على جروحه الكثيرة التي كانت تناله من المطواة الحادة التي يحتفظ بها دائما لتقطيع القصب ، وخدش الأبواب و النوافذ الخشبية ، وقطع بكرات الخيط الفارغة نصفين وتصليحها لتعود " ظعانين " جمع " ظعنينة " وهي أنواع من الخذروف يوضع في ثقبها نواة بلحة بحجمها ، ثم تدار بإصبعين ، فتدور فترة من الزمن ، تطول أو تقصر حسب قوة اللاعب ، وصلاحية النواة للدوران ، وثقل الخذروف !
ثم لمرافقة أخته الصغيرة ، وهي طفلة كانت اذنها مريضة ، وكانت تفرز مادة تحتذب اليها الذباب ، حيث يموت هنالك ، و يصبح وجوده خطر !.. و عندئذ يذهب بها الى السيد الحكيم فيتولى تنظيف اذنها و اخراج الذباب منها بواسطة أنبوبة ضاغطة من المطاط .
ولم تكن هذه الأعمال الصغيرة وحدها هي التي يتولاها سيد الحكيم فجميع أنواع أمراض العيون ، و أمراض البطون ، و أمراض الصدر ... كانت تجد لها عنده دواء .. وكثير من العمليات كان يجري بالعيادة أو في البيوت ، ففتح " خرّاج " في اي موضع من الجسم ، وجبر كسر مهما يكن مركبا ... وعشرات من هذه العمليات البسيطة كان مشرط الرجل يجري فيها بكل اطمئنان ! نوع واحد من العمليات لم يكن يقدم عليه .. ذلك هو فتح البطن .. و لم يكن ذلك عن عجز - لا سمح الله - ولكن عن رقة قلب ، وعمق إيمان ! فهذه العمليات الوحشية هي من خصائص الحكيم الكبير . الحيكم الذي يحضر مع النيابة لتشريح الجثث و بقر البطون و التمثيل بالقتلى و المصابين ! أما هذا الرجل الطيب القلب الوديع الأنيق اللطيف ، فلا يقدم على هذه العمليات الوحشية وانا هو آس لطيف رحيم ! و هو اليوم - يوم التسمم - في ميدانه الأصيل . ميدان الرحمة و التطبيب .
واحب ان يفهم القارئ ، ان هذا السيد كان صديق المتنورين فحسب من رجال القرية ، وهم الذين كانوا وحدهم يلجأون إليه بأنفسهم و أبنائهم حينما يصيبهم مكروه .. وذلك تمييزا لهم من الآخرين الذين يلجأون إلى الوصفات البلدية وإلى حلاقي القرية ..! ان أصدقاء هذا السيد هم المؤمنون في القرية بالطب الحديث !!
وكان ان شفي المتسممون جميعا ، فكان هذا سببا في زيادة شهرته وارتفاع صيته ، وإقبال الكثيرين عليه حتى من غير المؤمنين بالطب الحديث ! و لم تكن " أتعاب " هذا السيد كبيرة ولا مرتفعة ، فهي لا تتجاوز القرش و القرشين .
بما في ذلك ثمن الدواء ... أما كيف كان يعيش من هذا الدخل القليل ، فيجب ان تعرف ان البلدة كريمة مضيافة فالعيادة بالمجان لا اجر لها وفيها يبيت ، و هو قلما يتناول الطعام على حسابه . فهم كل يوم ضيف عند أحد أصدقائه من سراة القرية المتنورين .. أولئك الذين يؤمنون بالطب الحديث لا بالخرافات و التدجيل !!!
[ العفاريت ]
[ حركة ثقافية ]
[ قانون اللصوص ]
[ جمع الأسلحة ]
[ الحصاد ]
[ أحزان الريف ]
[ الرحيل ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق