بقعة ضوء (17)
دأب المسلمين:
في كل زمان ومكان محو الشرك وآثار الكفر حيثما حلوا، فقط الإسلام بتفرده كعقيدة تنزه عن الله الشرك والشركاء، منذ هبوط آدم وإلى قيام الساعة إن شاء الله، لذا فهو دائما وأبدا محارب بضراوة.
نعود إلى قتيبة الذي بلغ الصغد وسمرقند بجنده «البدو الأجلاف» الذين كان أشداء على الكفار، ما إن بلغوا سمرقند وامتلكوا مقاليدها حتى أطفئوا بيوت النار (إله الفرس) وجمعوا الزينة من الذهب والفضة والحرير التي كانوا يزينون بها التماثيل (هذه البلاد كان بها شركة متعددة الآلهة مما يصعب حصرها) وقد حذر غوزك ملك الصغد قتيبة من عاقبة التعرض لآلهتهم خوفا من أن يطالهم غضب الآلهة ولكن البدو الأجلاف لم يبالوا، واستخدم الذهب والفضة في سك عملات تخص الدولة الإسلامية الوليدة على هذه الأرض.
عاد قتيبة مع جنده إلى محاولة السيطرة على طريق الحرير فتراوحوا بين الشد والجذب بينهم وبين القوات الصينية حتى بلغوا الإمبراطور الصيني حيث كان المتبع في ذلك الزمان السجود من الوفود بين يدي الإمبراطور ولكن وفد المسلمين لم يسجد بين يديه فاعتبرت آنذاك فضيحة دبلوماسية للصين.
(لم يكن المسلمون بلغوا مرحلة غثاء السيل التي نرتع فيها الآن)
سياج من العزة:
طلب ملك الصين من قتيبة أن يرسل له عشرة رجال يعرف من خلالهم المزيد عن العرب ودينهم، فاستجاب له قتيبة بإرسال عشرة رجال، وعندما وصلوا البلاط الصيني ذهبوا إلى الحمام ثم خرجوا وقد ارتدوا ملابس بيضاء وتعطروا ودخلوا البلاط فلم يتحدث أحد من الجانبين، ولم يلبثوا أن انسحبوا فسأل ملك الصين الحاضرين عن رأيهم فأجابوه:
«رأينا قوما ما هم إلا نساء (لأنهم تحمموا وتعطروا، النظافة كانت سبة في وجه البدو الأجلاف) ما بقى أحد منا حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده»
في اليوم التالي لبسوا الوشى وعمائم الخز والمطارف، وعندما ذهبوا قال من في البلاط إنهم أشبه بالرجال وهم كذلك، وفي اليوم الثالث ذهبوا لرؤية الملك، فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر، وتقلدوا السيوف وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا فنظر إليه صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم، ثم أقبلوا نحوهم مشمرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا ارجعوا، لما دخل في قلوبهم من الخوف.
لما قابل رئيس الوفد الملك مساء شرح له فعلهم، ففي اليوم الأول فعلوا ما فعلوه في عائلاتهم، وفي اليوم الثاني فعلوا ما يفعلوه عندما يقابلون الأمير، أما في اليوم الثالث فعلوا ما يفعلوه عند ملاقاة الأعداء، فرد عليهم الملك بأنه كان من الممكن أن يكون واسع الصدر معهم، ولو كان الأمر خلاف ذلك لأرسلت إليكم من يقضي عليكم وعليهم.
فرد عليه رئيس وفد المسلمين في حنق قائلا بأن جيش سيده كبير لدرجة انه بينما يكون قادته في الصين تكون مؤخرة الجيش في منابت الزيتون (الشام) وكيف يكون محتاجا وهو الذي ترك الدنيا بأسرها خلفه وهو قادر عليها، وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل فلسنا نكرهه أو نخافه، قال فما الذي يرضي صاحبك؟ قال انه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية، قال فإنا نخرجه من يمينه، ونبعث إليه ترابا من تراب أرضنا فيطأه، ونبعث له بعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها
وعقب كينيدي بالقول:
«وتم حفظ شرف الجميع ولا يمكن أن نرى الزعماء المسلمين وقد قبلهم الحكام القدامى الراسخون أندادا لهم»
اعتراف ضمني من كينيدي بنظرة الملوك القدامى للمسلمين سوى أنهم أندادا لهم، وهذه النظرة لم تأتي من فراغ بل باتباع المنهج وانتصارهم لله في كل موضع دون وجل، فقد كانوا يقضون على شركة الآلهة المتعددة في كل مكان أمام أعين عبادهم وبين ظهرانيهم كي تعود الجموع إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، عقيدة التوحيد.
قد يقول قائل حليق الفكر مخنث البنيان، «كسره الآخر» فلم يعد يرى سوى الانصياع والرضوخ الكامل لأي آخر أن هذه وحشية وهمجية في الوقت الذي يمارس عليه الآخر كل صنوف القهر والذل على مدار الساعة فنقول للمخنث الذي نبرأ إلى الله منه:
عد إلى ما ذكرت آنفا للوفد الذي ذهب لمقابلة ملك الصين، عندما تحمموا وتعطروا وجلسوا في هدوء وأريحية رأوهم «نساء» وعندما دخلوا على الملك بدروعهم ومدججين بالسلاح عاملهم ملك الصين الند بالند، ولا تعليق.
قصور النظرة:
أن ترى بعيون زرقاء اليمامة ما يغيب عن الأفق المرئي لغيرك، فتلك نعمة لا تقدر بمال، وبمعنى أدق أن ترزق البصيرة التي بها تهتدي فذلك المن الإلهي لا يكون إلا لمن يستحق، قتيبة القائد الفذ الذي حقق الانتصارات في بلاد ما وراء النهر انتهى نهاية مأساوية، فطالما الملك عضوض «الدولة الأموية» فلابد أن تتصاعد النعرات القبلية كما في الجاهلية الأولى وهي التي قال عنها نبينا «دعوها فإنها منتنة» فقد عادت بقوة مرة أخرى بعد موت الحجاج بن يوسف والخليفة عبد الملك بن مروان وتولي ابنه سليمان الخلافة، فطالما الانتماء للأشخاص يفوق الانتماء للدين فلابد أن ينتكس الكل لأن لكل منهم شيعته وبطبيعة الحال سيكثر المنافقون والوصوليون الذين سيكونون بوق الشيطان، وهذه من أجل الأسباب التي قضت على الدولة الأموية، دولة الفتوحات الكبرى، فقد حدثت الفتنة ودبت الخلافات بين الجيش الذي رتق قتيبة فتقه فيما سبق، وعلت النفوس الضعيفة بعد اختراق الصف، لتتجلى ضغائن القلوب ويتبادل السباب بين قتيبة وجنده الذين ارتكنوا إلى حيان النبطي (هو من خرسان ولكن يقال نبطي للكنته الناتئة) الذي ألب عليه الجند بل وألب عليه الملوك وأشياعهم من عباد الآلهة المتعددة حتى تم قتل قتيبة ومن بعده عائلته مما جعل كينيدي يقول:
أن الذي قضى على قتيبة ليست القوة العسكرية الصينية ولكن الخلافات السياسية الداخلية في الدولة الإسلامية، الحرب الأهلية بين العرب الفاتحين كانت ماثلة أمام قتيبة ولم يستطع رأب الصدع،
فقد قال حيان النبطي لأتباعه جملة تكتب بماء الذهب:
«هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا»
القتل على غير دين هو قتل على دنيا، والقتل لأجل الأخيرة يكون كصراع الوحوش لا حدود له ولا سقف، يندفع القاتل ينهل من معين الشيطان الذي لا يتركه حتى يهلك الكل.
ولما قتل قتيبة قال رجل من خرسان:
«يا معشر العرب قتلتم قتيبة، والله لو كان منا فمات لجعلناه في تابوت، فكنا نستسقي به ونستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد بخرسان قط ما صنع قتيبة، إلا انه غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه أن اختلهم واقتلهم لله».
الصراعات والانقسامات الداخلية هي أكثر ما يهدد سلامة أي كتلة، لم يستطع أي عدو صائل الانتصار على المسلمين إلا من خلال حدوث صدوع في داخل الجسم، فهذه الأخيرة كانت القاصمة طوال تاريخ المسلمين.
وللحديث بقية إن شاء الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق