“الحنيفية” رافعةٌ أخلاقيةٌ حاسمة
د. عطية عدلان
المعنى العميق والمبنى الرشيق
الحنيفيّة كلمة عبقريّة في مبناها ومعناها، فذّة في مقصدها ومغزاها، فهي من جهة المبنى مأخوذة من الْحَنَفِ، وهو ميل في القدم، فيقال لمن في قدمه ميلٌ: “الأحنف”، فاستُعير اللفظُ للتعبير عن حالة إنسانيّة أخلاقيّة سلوكيّة، تظهر وتتجلى في أزمان يكون فيها أهل الاعتدال والاستقامة استثناءً من أوضاع مظلمة مطبقة، فيُطلَق على هذه الحالة “الحنيفيّة” ويُطلَق على الأناس الذين يسعدون بهذه الحالة “الحنفاء”، بينما يسميهم الواقع الذي خرجوا عليه ومالوا عنه “صابئة” أو ما شابه ذلك من الأسماء.
فالحنيفيّة ميلٌ عن الباطل إلى الحقّ، وعن الزيغ والضلال إلى الهدى والرشاد، وعن الظلم والبغي إلى العدل والقسط، والحنيف شخصٌ يمتلك نفسيّةً نزّاعة إلى الخير والحقّ والجمال والكمال، تسافر أبدًا وتهاجر دومًا من درك التملُّق للاستبداد والرضى بالذل والاستعباد، إلى آفاق التحرر والتحضّر، وكلما أطبق الظلم وأحكم قبضته على الخلق ازدادت هذه النفسيّة لمعانًا وبريقًا وسطوعًا؛ فكأنّ اشتداد الأوضاع نارٌ تطهرها وتنقِّيها وتنفي خَبَثها وتُظْهِرَ أصالةَ مبدئها ونَفاسَة معدنها، وقد عرف في التاريخ الإنسانيّ قلائل من الناس بهذه الطبيعة، سماهم القرآن حنفاء، وأطلق عليهم أقوامُهم غيرَ ذلك من الأسماء.
التأسّي والاقتداء بإمام الحنفاء
لماذا أمر الله هذه الأمّة باتباع ملّة إبراهيم؟ ولماذا يأتي هذا الوصف “حنيفًا” ملازمًا للأمر بالاتباع وملتصقًا به؟ على هذا النحو المتكرر: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (النساء: 125)، (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (آل عمران: 95)، (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (الأنعام: 161)، (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (البقرة: 135)، (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (النحل: 123)؛ فهل هذا لأنّ الله يعلم أنّ البشريّة سيضربها زلزال الباطل حتى يصير الحقُّ وأهلُهُ استثناءً في هذه الحياة؟ بالتأكيد: أجلْ.
وبالتأكيد نحن مأمورون بأنْ نقتدي بالحنفاء فنتبرأ من ذلك الباطل الذي لفّ كوكبنا: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ) (الممتحنة: 4)؛ ونكون مثلما كان إبراهيم: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) (النحل: 120)، ونقول مثلما قال إبراهيم: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) (الأنعام: 79)، فما أروعَهُ وأبدعَهُ ذلك الإنسان الذي يكون في هذا الزمان حنيفًا، يكون مائلًا – دومًا وأبدًا – عن الباطل إلى الحق، وعن الظلم إلى العدل، وعن الزيغ إلى الهدى والرشد، ويكون نزّاعًا بطبيعته إلى الحقّ والخير والصلاح، وتكون هذه الطبيعة ملازمةً له لا تفارقه.
نماذج تاريخية ومعالم إنسانيّة
وقد لَمَعَ في سماء الحنيفيّة نجومٌ كبار، يمثلون للإنسانية المعالمَ الكبرى المضيئة، فكان منهم في الجاهليّة “قس بن ساعدة الإياديّ”، الذي قام في سوق عكاظ خطيبًا، ففاجأ المحيط البشريّ الذي عمّته الجاهلية ولفّه ظلامها الدامس بهذه الكلمات المنيرة: “أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَعُوا، إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، لَيْلٌ دَاج، ونهارٌ سَاج، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أبْرَاج، ونُجُومٌ تُزْهِر، وبحَارٌ تزْخَر، وجِبالٌ مُرْسَاة، َأَرْضٌ مُدْحَاة، وأَنَّهَارٌ مُجْرَاة، إنَّ في السَّمَاءِ لَخَبَرَا، وإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَرَا”.
وكان منهم الشاعر الفذّ الحنيف، الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه يبعث أمّة وحده؛ لأنّه كان في زمانِ غُرْبة الحق وفَتْرَة الوحي شمعةً مضيئة، تأمَّلْ ماذا قال عند الكعبة:
أربًّــــا واحـــدًا أم ألـــــــــــــفَ ربٍّ … أَدِينُ إذا تقســــمت الأمور
عَزَلْتُ اللاتَ والعزَّى جميعًا … كذلك يفعل الجلد الصــــــــبور
فلا العزّى أَدينُ ولا ابنتيــهــــا … ولا صَنَمَيّ بني عمـــــرو أزور
ولا هُبَــــلًا أَدينُ وكـــــــان ربـــــًـا … لنا في الدهر إذْ حلمي يسير
أمّا النموذج الفذُّ الهمام فهو إبراهيم عليه السلام، ألم تَرَهُ قد تجانف عن الأصنام وهي تصنع في بيت أبيه وأهله، وتباع في سوق عشيرته وقومه؛ ليخلص إلى الحنيفيّة السمحة؟! تأمّلْ الميلَ إلى الحقّ والنزوعَ باتجاه الصدق: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 48)، ولقد استحقّ بهذه الحنيفيّة أن يصير إمامًا للبشريّة، وأن ينحدر هذا الشرف في ذريته: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، لينتهي إلى هذه الأمّةِ وارثةِ الحنيفيّةِ السمحة، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» الذي رواه أحمد والطبرانيّ واعتضد بما رواه البخاريّ معلقًا: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»، ألم تَرَهُ ومَنْ معه من الحنفاء قد هاجروا مرارًا لميلهم الدائم عن الباطل؟!
فما أحوج الأمّة إلى إحيائها!
فما أحوجنا في هذا الزمان إلى هذه النماذج العبقريّة! وما أحوج الأمّة إلى إحياء الحنيفيّة! وما أحوج هذا الجيل تحديدًا إلى الحنفاء، الذين يشذّون عن قاعدة الفساد التي ترسخت رغم شذوذها في الأصل، وينزعون باستمرار إلى الحق والصدق، ويميلون ليل نهار عن الزور والكذب والبهتان .. والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق