ملامح ثورة أخمدها الطغيان الوحشي
قبل مائتي عام من لحظتنا الآن، كان الصعيد يمور بالثورة ضد حكم محمد علي باشا، ولكن من المؤسف أن معلوماتنا عن هذه الثورات قليل جدا وضئيل جدا..
ثورة الشيخ أحمد عبيد في قنا، 1820م، لم نعرف عنها إلا هذا القليل.. أغلبه مأخوذ من رحالة بريطاني معاصر توافق وجوده هناك في ذلك الوقت، فسجل عنها صفحات قليلة في كتابه (مصر والنوبة: مشاهدها الطبيعية وشعوبها).
وهذه الصفحات السبعة -في النص الإنجليزي- كانت كأنها منشور على الفيسبوك أو فيديو على اليوتيوب.. بقي رغم الزمن، وتسرب في غفلة من قبضة الدولة..
في هذه الصفحات عيوب قادحة، فهي منشور كتبه أجنبي رحالة، لم يفهم طبيعة خطاب الثورة الديني، فكان يظن أن الشيخ أحمد، قائد هذه الثورة، قد ادعى النبوة، وادعى معها لنفسه الخوارق والمعجزات.. عبارة مثلا مثل قول الله تعالى {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}، فهمها هذا الأجنبي على أن قائد الثورة (النبي بمفهومه) كان يقول لأتباعه: إنه يُنَزِّل الملائكة من السماء لتقاتل معهم، ويقول: “لستم أنتم من يقاتل، أرى محمدا والملائكة يقاتلون معنا”!
ولا يمكن من خلال هذه الصفحات القليلة أن تفهم الثورة ولا دوافعها، وقد فسَّرها الرحالة الإنجليزي باعتبارها ثورة على الظلم والطغيان والإفقار الذي مارسه محمد علي، فقد شهد هذا الرحالة أن البلاد كانت تفيض ببغضه وكراهيته، وكانوا يرون أن الشيطان أرحم منه لو كان هو الذي يحكم مصر.
[فاصل]: عزيزي القارئ المعاصر.. إن كنت تملّ من حكايات الزمن القديم، فقابلني بعد الفاصل التالي.. لدي لك حكاية معاصرة تهمك جدا!!
[عدنا بعد الفاصل]
مع كل ما نراه في الصفحات القليلة من قصة قصيرة وغير وافية، إلا أنها أبقت لنا معلومات ثمينة للغاية، من أهمها: هذه الطبيعة الدينية للثورة، وأن صاحبها كان شيخا يخاطب الناس بدينهم وبآيات القرآن وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يستثيرهم لكرامتهم وحقوقهم.
وكان مع ذلك رفيقا رحيما، ينهى عن القتل إلا بحقه، ورفض بشدة بعض المقترحات بقتل بعض الأقباط والأجانب، بل تكفل بتأمينهم وحمايتهم، وأرسل بذلك مبعوثيه، وأعلن ذلك للجميع.. (لو أنك عزيزي القارئ بعثت في زمن محمد علي فستفهم أن النصاري والأجانب وقتها كانوا بمثابة أركان للنظام الحاكم.. فالاقتراح بالتخلص منهم هو اقتراح حصل في كل الثورات، وليس اقتراحا دينيا نابعا من التعصب الديني كما يفهمه كثيرون).
وكان أتباعه الثائرون في غاية من القوة والعزم والصبر والرجولة، حتى في لحظات أسرهم وقتلهم بأبشع الطرق لم تند عنهم كلمة واحدة بالاستراحام ولا التألم.. ولقد تعجب الرحالة من شدة ثباتهم، وأن كبرياءهم لم يكن أقل من كبرياء آسريهم.
وأما السلطة المتوحشة المجرمة التي حركت جيوشها للقضاء على هذه الثورة، فقد عاثت في البلاد فسادا، فأحرقت القرى عن بكرة أبيها، ولم ترحم لا رجلا ولا امرأة ولا طفلا رضيعا، بل الكل قُتِل بلا تردد.. وقد تسبب هذا الفزع في أن تُهْجَر القرى التالية، فخرج منها حتى النساء والرضع، ولجؤوا إلى المقابر!!
واستعانت السلطة في حربها بضباط فرنسيين قادوا كتائب جيشها، وأولئك كانت لهم اليد العليا في تشتيت جيش الشيخ أحمد وأتباعه.
واستعانت أيضا ببلطجية (شبيحة) ذلك العصر.. العربان من قطاع الطرق، فقد منحهم أحمد عثمان باشا (قائد الجيش) وعدا بأموال على كل رأس يقطعونها لرجل لا يجدونه في قريته.. فقد اعتبر أن كل من لم يوجد في قريته من أتباع الثورة.. وقد انطلق هؤلاء بكل إجرامهم ليأتوا بمن استطاعوا من الرؤوس لحصد المال.. فلا هم سيحققون مع الناس قبل قتلهم، ولا أحد سيحقق معهم عن وسائلهم في تمييز الناس.. بل انطلق كل منهم فعاد بما استطاع من الرؤوس وأخذ الأموال!!
وأفرد الرحالة فقرات يتحدث فيها عن الأساليب الشنيعة في قتل الأسرى، فبعض الأسرى ربطوهم في فوهات المدافع، ثم أطلقوا قذيفة المدفع فتناثرت أشلاؤهم في كل مكان (أنا شخصيا قبل قراءة هذه الفقرة عنده، كنت أظن أن أول من فعل ذلك: الإنجليز حين أخمدوا ثورة المسلمين في الهند فربطوا علماءهم في فوهات المدافع وقتلوهم بتلك الطريقة). ومن الأسرى من قُتِلوا إغراقا وشنقا وطعنا بالسكين وبالسيوف!!
إذن، هذا مقال قديم، أفلت من قبضة السلطة القديمة، فتعرفنا منه على ملامح ثورة أخمدها الطغيان الوحشي.. والسؤال الآن: هل نحب أن نفعل هذا بأنفسنا الآن؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق