طفل من القرية -2-
أرانب الدرب الضيق ، وامرأة البئر المهجورة ، كلتاهما مع تعاليم الأستاذ المحبوب ، كان لها أثر في الطفل ، وكانت سنه قد بغلت العاشرة ، وكاد يتم دراسته بالمدرسة ، فأخذت أسطور العفاريت تفقد شيئا من قوتها في نفسه .. أخذت تتزعزع إلى الحد الذي يمكنه من إجراء التجارب بنفسه ، وهذا تقدم عظيم .
و كان يجتاز شوارع القرية بعد العشاء - فلقد أخذ يصلي في المساجد تشبها بالرجال - ومنذ ان بلغ العاشرة كان في وهمه قد صار رجلا مسئولا ذا أهمية خاصة ، فما يليق ان يترك الصلاة الجامعة مع الرجال ! - كما بدأ يسهر و يتأخر في السهر حتى ليصل في بعض الأحيان إلى الساعة العاشرة .
أليس رجلا ؟ فلم لا يسهر كما يسهر الرجال ؟
وكان هذا يقتضيه ان يعود إلى الدار في الظلام ، وان يمر بمكان العفاريت ، وهي متناثرة في القرية ، لا يخلو طريق منها من مكمن أو اثنين على الأقل ..
وهكذا .
وعلم الناس انه يجتاز هذه المخاطر ، فأشفق بعضهم عليه ، واعجب بعضهم به ، وزاده هذا الإعجاب إمعانا في تجاربه ، فلم يصادف بعد اليوم عفريتا واحدا من العفاريت الكثيرة التي تأخذ على المارة طريقهم في كل مكان .
كان قد بلغ الحادية عشرة ، وكان مع أفراد عائلته مدعوين إلى عرس ابنة عمته ، وكان مفروضا ان يبقوا هنالك إلى نحو منتصف الليل ثم يعودوا .
ولكن بدا ان والدته قد افتقدت شيئا من اشيائها نسيته في منزلهم وأرادت استحضاره ، فتطوع هو في شهامة الرجال للقيام بهذه المأمورية ! ولكنها لم تأمن ان يذهب وحده ، فآذى هذا التخوف كبرياءه ، وأصر على ان يذهب و يعود . وكان هناك طريقان من منزل عمته إلى منزلهم . أحدهما :
طريق طويل يطوف بالقرية من أطرافها . والآخر : طريق قصير ، ولكنه يمر بالدرب الضيق ، فحذرته أمه ان يمر بهذا الطريق القصير ! وكان هذا التحذير كافيا لأن يقتحم الطريق القصير في هذا الوقت المتأخر - و الوقت يعد متأخرا في القرية بعد عودة المصلين من صلاة العشاء ! - وهنا يحس بالرهبة على مدخل الدرب ، و لكنه مع ذلك يجتاز .. فيقع ما يثير الرهبة الكامنة وراء الشجاعة المصطنعة :
كان في ركن من أركان البيت - الذي هو الدرب الضيق - كومة من الآجر ، فأحس عندما قرب منها أن هناك حركة تخلخلها فيسمع صوت لاصطدام القوالب ، ثم نظر فرأى وهجا يوصوص بين فتحات الكومة الكبيرة .. عندئذ استل سلاحه و أوقد عود الثقاب ، فعاد كل شيء ساكنا ، واختفي الوهج الذي كان يوصوص له .. وانطفأ الثقاب ، وإذا بالحركة الأولى تعود . و كاد يفقد تمساكه عندما كرر العملية مرات ، وفي كل مرة تتحد النتيجة .
وتسمرت رجلاه في مكانهما فلم يعد يجرؤ على الخطو ، و لايغادر موقف الخطر ، وطال الوقت ، و أخذته حمى عنيفة في إشعال الثقاب ، حتى كاد ينفد ، وهو لايملك التقدم ولا التأخر ، ولايملك الكف عن إشعال الثقاب .
و أدركته عناية الله ، فإذا بأحد المارة من الرجال ، و قد راعه النور والظلام المتناوبان ، فأوجس خيفة ، و تقدم في حذر حتى وقع نظره عند إشعال الثقاب على وجه آدمي ، فصاح مذعورا :
" انس ولا جن ؟ "
ووجد الطفل نفسه ، فقال :
انا فلان ابن فلان !
واقترب منه الرجل ، و هو في استغراب و دهشة ، فأوقد هو عود الثقاب الأخير ، وقال الرجل في اشفاق ظاهر :
وما الذي جاء بك هنا في هذا الوقت المتأخر ؟ لقد ستر الله عليك !
عندئذ عاودته شجاعته المصطنعة فقال : أنا لست خائفا ، فأنا لا أصدق مايقال عن العفاريت التي يقولون عنها !!!
وعلم فيما بعد انها فئران تسكن كومة الآجر ، وتشع عيونها في الظلام ولكنها تسكن وتختفي وهج عيونها في نور الثقاب !
* * *
اشتهر صاحبنا بالكتب و بالقراءة في اوساط المثقفين بالقرية ، فارتفع في اعينهم درجات ، واخذ الجميع يتنبؤون له بالمستقبل الزاهر .. ماذا ؟ أليس على صغره يقتني مكتبة ضخمة يبلغ من ضخامتها ان تملآ صفيحة كاملة ؟
نعم صفيحة ، فقد اختار لها هذا النوع من الصيانة بوصاية " عم صالح " الذي قال له ان الخشب " يربي العث والصراصير . أما الصفيح فلا ، إذ يسهل بين الحين و الحين مسحه بزيت البترول ، حيث لا يقربه العث و لا الصراصير .. ولما كان حريصا على كتبه ، فقد اعد لها هذا الصندوق من الصفيح ، وجعل له غطاء محكما ، صنعه له " السمكري " من الصفيح أيضا ، وبذلك صينت المكتبة التي ظلت تتضخم وتتضخم ، حتى وصلت في بعض الأحيان إلى خمسة وعشرين كتابا !
الحق انه كان عاشقا لهذه المكتبة الفريدة من نوعها في القرية ، بما تحويه من شتى ألوان الثقافة ، فما كان ينقصها لتصير مكتبة جامعة الا ان تكون فيها نسخة من " البخاري " .
ولكن من أين له بنسخة البخاري و هو طفل ، وهذه لا يقتينها إلا رجال الأزهر - وكانو نحو عشرة في القرية (1) - ولهم فيها مقام ملحوظ واحترام كبير ، فأيديهم تقبل من الجميع ، كما لو كانوا أولياء ، و الحق أنه لم يكن يعلو على مقام العلماء في القرية الا مقام المجاذيب و الأولياء !
عند هؤلاء كان يوجد كتاب البخاري .. وعند رجلين آخرين في القرية : خطيبين أي قارئين للقرآن .. ولكنهما يتعاطيان مع هذا صناعة الرقي والتمائم و التعاويذ .. والسحر أيضا .. فالطفل المريض ، و المرأة الممسوسة ، و الزوجة المكروهة ، و الرجل المربوط ( أي الذي يسحر له ليلة زفافة فتسلب رجولته حتى يفك الرباط ! ) ، كل هؤلاء كانوا يجدون عند هذين الرجلين وعند سواهما الكثيرين من مزاولي " الكتابة " - أي كتابة السحر -ما يطلبونه من رغبات في نظير الأجر المعلوم .
الا ان هذا الرجلين كانا يمتازان بأن كلا منهما يملك نسخة من " البخاري " التي لا يملكها الا علماء الازهر القادمون من القاهرة .
اما لماذا كان لنسخة البخاري هذه القيمة فإليك البيان :
تقع في كثير من الأحيان سرقات من البيوت ، يكون أبطالها أما ربة الدار أو زوجة الإبن و اما أحد الأبناء ، واما واحد أو واحدة من الخدم في بيوت الأثرياء ، وهي غالبا من الغلة المخزونة في الدار او الجرن أو قطعة ذهبية أو نقود .
وان يسرق الخدم من البيت هذا أمر معروف ، اما لماذا يسرق الأبناء أو زوجة الابن ، أو زوجة صاحب الدار ، فتفسير ذلك راجع إلى الحالة الاقتصادية التي تجعل المصروفات اليومية للأبناء أمرا غير معترف به حتى و لو كبروا و تزوجوا - وهم يزوجون طبعا عن طريق الاباء و الأمهات , و يظل الآباء يكفلونهم و زوجاتهم سنوات طويلة حتى يموت الوالد فيرث الأبناء !
فإذا كبر الولد و بلغ مبلغ الشباب ، لم تكن له مندوحة عن السرقة ، لأنه لا بد ان ينفق شيئا في مجامع الشبان أمثاله : يشاركهم في شراء القصب حيث يمصونه جماعات و يشاركهم في الشاي ، حيث يستحضرونه هو و السكر بالتناوب ، و يشاركهم في اللحوم والكلاي و الكبد ، التي يشترونها معا
و يأكلونها خفية في [الحقل](2) أو في بيت أحدهم ، لأن الكمية التي يحصلون عليها في وسط العائلة لا تكفي لنموهم في هذه المرحلة ، لا بد إذن ان يسرق هؤلاء لهذه الأسباب ولغيرها ، كأن يكون أحدهم قد خطب له ليتزوج ، و لابد له من هدايا يقدمها لخطيبته وأهلها - زيادة على الهدايا التي يقدمها أهله وهي غالبا قليلة .. لا بد له ان يحمل إليها منديلا " بأوية " أي " مشغولا " مزخرفا ، أو رطلين من العنب ، أو ربع كيلة من البلح ، أو" لبشة " قصب - وهي حزمة عددها أربعة و عشرون عودا - .. إلى آخر هذه الهدايا التي لا بد لها من ثمن ، و التي لا يجد الشاب ثمنها الا ان يسرق
شيئا من بيت أبيه في طور الخطوبة ، وفي شهر العسل كذلك ، إذ يحضر لزوجته سرا و بعيدا عن علم أمه و أبيه كميات من " المكسرات " أي الجوز والبندق و اللوز و شيئا من الحلوى و الملبن و كمية من الصابون ليستحما بنسبة عالية ، لا تنهض بها الكميات المعتادة في منازل القرية ...
وتسرق زوجة الإبن هي الأخرى ، لأنها شابة ، لها مطالب غير مطالب الدار المقتّر فيها غالبا .. تلزم لها كمية من المناديل المشغولة و الصابون " الممسك " اي ذي الرائحة وزجاجات الروائح تتطيب بها لزوجها الشاب ، و الأمشاط المصنوعة من العظم - والتي تسميها عاجا - تلك التي تحملها " الدلالة " وتدخل بها إلى البيوت فتبهر النسوة و الشابات بوجه خاص - و لاسيما في الفترة الأولى من الزواج .
و تسرق لأنها شابة يتطلب جسدها الفائر أنواعا من التغذية لا تتوافر غالبا فيما يقدمه لها البيت من طعام .. فأما في أوائل أيام الزواج ، فان أهلها يتكلفون بذلك ، ففي السبوع الأول يظل أهلها يرسلون ما يسمى " العشاء الكبير " كل يوم . وهذا العشاء يتألف من ذبيحة أو نصف ذبيحة من الضأن أو الماعز ، ومن ملء إناء كبير أو إناءين بالخضر المطبوخة ، ومن " المشمشية " وهي المشمش الجاف مطبوخا في الماء و السكر و السمن . وهذا كله يقدم لأهل الزوج ، بينما يرسل للعروس و العريس قدر كاف من هذا الطعام مصنوعا صنعا أجود من العشاء الكبير ، وكمية السمن فيه اغزر لأنه خاص العروسين.
وتحمل هذا العشاء جماعة من البنات و النساء كل منهن تحمل اناء و يخرجن به بعد العصر من منزل أهل العروس إلى منزل أهل العريس في مظاهرة واضحة !
وبعد الأسبوع يتفاوت الناس في ارسال العشاء الكبير و العشاء الصغير فبعضهم يظل يرسل عشاء كبيرا في كل أسبوع وعشاء صغيرا في كل يوم لمدة شهر من الزمان ، ثم ينقطع العشاء الكبير و يستمر العشاء الصغير فترة اخرى ، و بعضهم يطيل المدة أو يقصرها ، حسب الحالة المادية من جهة وحسب البخل و السخاء من جهة أخرى ، ويظل هذا كله مذكورا على لسان القرية كلها بضعة أعوام أو على مدى الأعوام !
ولكن هذا كله إلى امد ينتهي على الأكثر عند نهاية العام الأول ، و تظل العروس شابة لا تكتفي بنيتها بالطعام المشترك مع أهل الدار ... فلا بد لها من ان تسرق إذن من وراء حماتها و " حماها " لتكمل نقص التغذية ، ولتدس لها بائعة الأرجل و القلوب و الأكباد و الكلاوي والكرش كمية مناسبة في يومي الخميس و الإثنين - اليومين الذين تذبح فيهما الماشية في القرية - وتطهيها لها في دارها ، ثم تحضرها زاعمة أن اهلها هم الذين بعثوا لها بهذه الكمية الإضافية ، التي تكون لحما وقد تكون شيئا من هذه الأحشاء . أو لتدسها لها نيئة فإذا غفلت العيون قامت في الليل ، و أنضجتها في حجرتها الخاصة وطعمتها هي و زوجها الشاب في غفلة من الرقباء .
وتسرق ربة الدار ، لأن لها مطالب كمطالب زوجة الإبن ، أو لأنها تريد أن " تحوّش " أو لكي تمد ولدها في دور خطوبته بما لا يمده به والده من نفقات .
وبعض أصحاب البيوت يكشفون هذه السرقات فيسكتون . وهؤلاء هم العقلاء الكرماء ، الذين يدركون حاجات أبنائهم و زوجاتهم ، و يعلمون أنهم لا يفون لهم بمطالبهم ، فيسكتون .. ولكنهم لا يحاولون أبدا ان يفوا بهذه المطالب حتى لا تقع هذه السرقات !
وبعضهم يصخب و يثور و يهدد ، و يستجوب أهل الدار والخدم و بعض الزائرين و الزائرات ، فينكر الجميع طبعا تهمة السرقة .
وهنا يأتي دور البخاري !
فهؤلاء الناس يستطيعون يحلفون بالله كاذبين و بالنبي ، وهم آمنون .. ولكن هناك أيمانا أخرى لا يقدمون عليها ، وإذا قدموا فكذبوا فقد حلت عليهم النقمة و اصابهم الأذى ، ولم يعد لهم مفر من الجزاء المعجل في هذه الدنيا !
فاليمين الأولى التي لا يقدم عليها أحد هي يمين " المصحف " يضع المستجوب يده على المصحف ويغمض عينيه ، ثم يقسم انه لم يفعل ما يستجوب عنه.
واليمين الأقوى من يمين المصحف هي : " الشورى " ، يقول المتهم " بشورى لم أفعل كذا " فإذا كان كاذبا نفذت في جنبه " الشورى " ! فأصيب بالعمى أو الكسر أو بمرض عضال لا ينجو منه بحال !
و الأقوى من " الشورى " الحلف بولي من الأولياء ، و هؤلاء يتفاوتون - فبعضهم لا يطيق الحلف به فيسارع بعقاب الكاذب في التو و الساعة بأن يأتي له في الرؤيا ويحذره أو يبطش به ، وغالبا ما يقوم الحالم من نومه مفزوعا فيقر بذنبه و يرجو الصفح و المغفرة - وبعضهم طويل البال يمهل الحالف قليلا او كثيرا ، ولكنه لن يتركه بحال ، ولا سيما إذا كان الحالف قد وضع يده على قبة الشيخ .
أما اليمين المرهوبة المفزعة التي تهز أعصاب الحالف هزا ، والتي لا يقدم عليها الا من كان واثقا من صدقه ، أو مستعجلا اجله ، فهي البخاري ..
ما ان يضع السارق يده على البخاري ويغمض عينه حتى يرتجف و ينتفض جسده ، وتعلو وتهبط دقات قلبه ، وتبدو عليه علائم الفزع الكامل ، فيعترف
في الحال أو ينكل عن اليمين فيدل على نفسه بهذا النكول .. فإذا هو خاطر و اقدم ، فلن يكمل ثلاثة أيام ، حتى ينفذ فيه البخاري ، فيقع له ما يقع من الأحداث ، وكثيرا ما يكون ذلك ا ختلاطا في عقله واضطرابا في أعصابه يفضي به غالبا إلى الموت أو إلى الجنون !
ولما كانت ليمين البخاري تقاليد خاصة ومراسيم ، فلا بد ان ينتقل صاحبه به إلى الدار المسروقة ، أو يأتي بالمتهمين إلى داره ليتولى تحليفهم اليمين ،في مقابل اجر معلوم .
نعم هناك طرق أخرى لكشف السارق وهي طريقة " المندل " وطريقة " الفنجان " فأما المندل : فهو ابريق يملأ بالماء ويعلق بحبل من رقبته يمسك به " العراف " و المتهمون كلهم حوله في حلقة ، ثم يتلو على المندل بعض الرقي و التعاويذ و يوقد بخورا خاصا ، ثم يدير الإبريق من الحبل على الجالسين و هو يهزه بيده ، فإذا كان الإبريق في محتذتة السارق دفق من صنبوره الماء ، فيعرف الجاني بلا كلام ! واما " الفنجان " فيستحضر صبي صغير سهل التنويم . ويمسك بيده فنجانا به آثار قهوة ، ثم يتلو عليه العراف ، رقى وتعاويذ ، ثم يأمره ان ينظر في قاع الفنجان ليرى فيه حركة ، ورجالا ونساء - هم طائفة من الجن حضرت للخدمة يسمون خداما - فيكلفه أن يأمرهم بالكنس و الرش وصف الكراسي،
فيرى الصبي انهم يصنعون ذلك ! ثم يكلفه ان يأمرهم بإحضار المتهم ، فيرى الصبي انهم احضروا رجلا وامرأة ، فيطلب إليه ان يتذكر من يشبهه هذا الذي احضر ، ويكون الصبي قد أرهق فيذكر اسما ممن يعرف .. فيأمره ان يصرف الخدام فيصرفهم ويستغرق في سبات عميق !
وإذن فقد عرف السارق ، الذي كثيرا ما يكون قد اقر للعراف عندما علم انه سيفتح الفنجان أو يدير المندل !!
ولكن المندل و الفنجان على السواء لا يبلغان من القوة ما يبلغه البخاري ، وبذلك تبقى يمين البخاري متفردة بين الأيمان ولعلك تدرك بعد ذلك كم يكون لوجوده عند أحد الناس من قيمة كبيرة في مثل هذه الأحوال .
اشتهر صاحبنا بالكتب و بالقراءة في اوساط المثقفين بالقرية ، فارتفع في اعينهم درجات ، واخذ الجميع يتنبؤون له بالمستقبل الزاهر .. ماذا ؟ أليس على صغره يقتني مكتبة ضخمة يبلغ من ضخامتها ان تملآ صفيحة كاملة ؟
نعم صفيحة ، فقد اختار لها هذا النوع من الصيانة بوصاية " عم صالح " الذي قال له ان الخشب " يربي العث والصراصير . أما الصفيح فلا ، إذ يسهل بين الحين و الحين مسحه بزيت البترول ، حيث لا يقربه العث و لا الصراصير .. ولما كان حريصا على كتبه ، فقد اعد لها هذا الصندوق من الصفيح ، وجعل له غطاء محكما ، صنعه له " السمكري " من الصفيح أيضا ، وبذلك صينت المكتبة التي ظلت تتضخم وتتضخم ، حتى وصلت في بعض الأحيان إلى خمسة وعشرين كتابا !
الحق انه كان عاشقا لهذه المكتبة الفريدة من نوعها في القرية ، بما تحويه من شتى ألوان الثقافة ، فما كان ينقصها لتصير مكتبة جامعة الا ان تكون فيها نسخة من " البخاري " .
ولكن من أين له بنسخة البخاري و هو طفل ، وهذه لا يقتينها إلا رجال الأزهر - وكانو نحو عشرة في القرية (1) - ولهم فيها مقام ملحوظ واحترام كبير ، فأيديهم تقبل من الجميع ، كما لو كانوا أولياء ، و الحق أنه لم يكن يعلو على مقام العلماء في القرية الا مقام المجاذيب و الأولياء !
عند هؤلاء كان يوجد كتاب البخاري .. وعند رجلين آخرين في القرية : خطيبين أي قارئين للقرآن .. ولكنهما يتعاطيان مع هذا صناعة الرقي والتمائم و التعاويذ .. والسحر أيضا .. فالطفل المريض ، و المرأة الممسوسة ، و الزوجة المكروهة ، و الرجل المربوط ( أي الذي يسحر له ليلة زفافة فتسلب رجولته حتى يفك الرباط ! ) ، كل هؤلاء كانوا يجدون عند هذين الرجلين وعند سواهما الكثيرين من مزاولي " الكتابة " - أي كتابة السحر -ما يطلبونه من رغبات في نظير الأجر المعلوم .
الا ان هذا الرجلين كانا يمتازان بأن كلا منهما يملك نسخة من " البخاري " التي لا يملكها الا علماء الازهر القادمون من القاهرة .
اما لماذا كان لنسخة البخاري هذه القيمة فإليك البيان :
تقع في كثير من الأحيان سرقات من البيوت ، يكون أبطالها أما ربة الدار أو زوجة الإبن و اما أحد الأبناء ، واما واحد أو واحدة من الخدم في بيوت الأثرياء ، وهي غالبا من الغلة المخزونة في الدار او الجرن أو قطعة ذهبية أو نقود .
وان يسرق الخدم من البيت هذا أمر معروف ، اما لماذا يسرق الأبناء أو زوجة الابن ، أو زوجة صاحب الدار ، فتفسير ذلك راجع إلى الحالة الاقتصادية التي تجعل المصروفات اليومية للأبناء أمرا غير معترف به حتى و لو كبروا و تزوجوا - وهم يزوجون طبعا عن طريق الاباء و الأمهات , و يظل الآباء يكفلونهم و زوجاتهم سنوات طويلة حتى يموت الوالد فيرث الأبناء !
فإذا كبر الولد و بلغ مبلغ الشباب ، لم تكن له مندوحة عن السرقة ، لأنه لا بد ان ينفق شيئا في مجامع الشبان أمثاله : يشاركهم في شراء القصب حيث يمصونه جماعات و يشاركهم في الشاي ، حيث يستحضرونه هو و السكر بالتناوب ، و يشاركهم في اللحوم والكلاي و الكبد ، التي يشترونها معا
و يأكلونها خفية في [الحقل](2) أو في بيت أحدهم ، لأن الكمية التي يحصلون عليها في وسط العائلة لا تكفي لنموهم في هذه المرحلة ، لا بد إذن ان يسرق هؤلاء لهذه الأسباب ولغيرها ، كأن يكون أحدهم قد خطب له ليتزوج ، و لابد له من هدايا يقدمها لخطيبته وأهلها - زيادة على الهدايا التي يقدمها أهله وهي غالبا قليلة .. لا بد له ان يحمل إليها منديلا " بأوية " أي " مشغولا " مزخرفا ، أو رطلين من العنب ، أو ربع كيلة من البلح ، أو" لبشة " قصب - وهي حزمة عددها أربعة و عشرون عودا - .. إلى آخر هذه الهدايا التي لا بد لها من ثمن ، و التي لا يجد الشاب ثمنها الا ان يسرق
شيئا من بيت أبيه في طور الخطوبة ، وفي شهر العسل كذلك ، إذ يحضر لزوجته سرا و بعيدا عن علم أمه و أبيه كميات من " المكسرات " أي الجوز والبندق و اللوز و شيئا من الحلوى و الملبن و كمية من الصابون ليستحما بنسبة عالية ، لا تنهض بها الكميات المعتادة في منازل القرية ...
وتسرق زوجة الإبن هي الأخرى ، لأنها شابة ، لها مطالب غير مطالب الدار المقتّر فيها غالبا .. تلزم لها كمية من المناديل المشغولة و الصابون " الممسك " اي ذي الرائحة وزجاجات الروائح تتطيب بها لزوجها الشاب ، و الأمشاط المصنوعة من العظم - والتي تسميها عاجا - تلك التي تحملها " الدلالة " وتدخل بها إلى البيوت فتبهر النسوة و الشابات بوجه خاص - و لاسيما في الفترة الأولى من الزواج .
و تسرق لأنها شابة يتطلب جسدها الفائر أنواعا من التغذية لا تتوافر غالبا فيما يقدمه لها البيت من طعام .. فأما في أوائل أيام الزواج ، فان أهلها يتكلفون بذلك ، ففي السبوع الأول يظل أهلها يرسلون ما يسمى " العشاء الكبير " كل يوم . وهذا العشاء يتألف من ذبيحة أو نصف ذبيحة من الضأن أو الماعز ، ومن ملء إناء كبير أو إناءين بالخضر المطبوخة ، ومن " المشمشية " وهي المشمش الجاف مطبوخا في الماء و السكر و السمن . وهذا كله يقدم لأهل الزوج ، بينما يرسل للعروس و العريس قدر كاف من هذا الطعام مصنوعا صنعا أجود من العشاء الكبير ، وكمية السمن فيه اغزر لأنه خاص العروسين.
وتحمل هذا العشاء جماعة من البنات و النساء كل منهن تحمل اناء و يخرجن به بعد العصر من منزل أهل العروس إلى منزل أهل العريس في مظاهرة واضحة !
وبعد الأسبوع يتفاوت الناس في ارسال العشاء الكبير و العشاء الصغير فبعضهم يظل يرسل عشاء كبيرا في كل أسبوع وعشاء صغيرا في كل يوم لمدة شهر من الزمان ، ثم ينقطع العشاء الكبير و يستمر العشاء الصغير فترة اخرى ، و بعضهم يطيل المدة أو يقصرها ، حسب الحالة المادية من جهة وحسب البخل و السخاء من جهة أخرى ، ويظل هذا كله مذكورا على لسان القرية كلها بضعة أعوام أو على مدى الأعوام !
ولكن هذا كله إلى امد ينتهي على الأكثر عند نهاية العام الأول ، و تظل العروس شابة لا تكتفي بنيتها بالطعام المشترك مع أهل الدار ... فلا بد لها من ان تسرق إذن من وراء حماتها و " حماها " لتكمل نقص التغذية ، ولتدس لها بائعة الأرجل و القلوب و الأكباد و الكلاوي والكرش كمية مناسبة في يومي الخميس و الإثنين - اليومين الذين تذبح فيهما الماشية في القرية - وتطهيها لها في دارها ، ثم تحضرها زاعمة أن اهلها هم الذين بعثوا لها بهذه الكمية الإضافية ، التي تكون لحما وقد تكون شيئا من هذه الأحشاء . أو لتدسها لها نيئة فإذا غفلت العيون قامت في الليل ، و أنضجتها في حجرتها الخاصة وطعمتها هي و زوجها الشاب في غفلة من الرقباء .
وتسرق ربة الدار ، لأن لها مطالب كمطالب زوجة الإبن ، أو لأنها تريد أن " تحوّش " أو لكي تمد ولدها في دور خطوبته بما لا يمده به والده من نفقات .
وبعض أصحاب البيوت يكشفون هذه السرقات فيسكتون . وهؤلاء هم العقلاء الكرماء ، الذين يدركون حاجات أبنائهم و زوجاتهم ، و يعلمون أنهم لا يفون لهم بمطالبهم ، فيسكتون .. ولكنهم لا يحاولون أبدا ان يفوا بهذه المطالب حتى لا تقع هذه السرقات !
وبعضهم يصخب و يثور و يهدد ، و يستجوب أهل الدار والخدم و بعض الزائرين و الزائرات ، فينكر الجميع طبعا تهمة السرقة .
وهنا يأتي دور البخاري !
فهؤلاء الناس يستطيعون يحلفون بالله كاذبين و بالنبي ، وهم آمنون .. ولكن هناك أيمانا أخرى لا يقدمون عليها ، وإذا قدموا فكذبوا فقد حلت عليهم النقمة و اصابهم الأذى ، ولم يعد لهم مفر من الجزاء المعجل في هذه الدنيا !
فاليمين الأولى التي لا يقدم عليها أحد هي يمين " المصحف " يضع المستجوب يده على المصحف ويغمض عينيه ، ثم يقسم انه لم يفعل ما يستجوب عنه.
واليمين الأقوى من يمين المصحف هي : " الشورى " ، يقول المتهم " بشورى لم أفعل كذا " فإذا كان كاذبا نفذت في جنبه " الشورى " ! فأصيب بالعمى أو الكسر أو بمرض عضال لا ينجو منه بحال !
و الأقوى من " الشورى " الحلف بولي من الأولياء ، و هؤلاء يتفاوتون - فبعضهم لا يطيق الحلف به فيسارع بعقاب الكاذب في التو و الساعة بأن يأتي له في الرؤيا ويحذره أو يبطش به ، وغالبا ما يقوم الحالم من نومه مفزوعا فيقر بذنبه و يرجو الصفح و المغفرة - وبعضهم طويل البال يمهل الحالف قليلا او كثيرا ، ولكنه لن يتركه بحال ، ولا سيما إذا كان الحالف قد وضع يده على قبة الشيخ .
أما اليمين المرهوبة المفزعة التي تهز أعصاب الحالف هزا ، والتي لا يقدم عليها الا من كان واثقا من صدقه ، أو مستعجلا اجله ، فهي البخاري ..
ما ان يضع السارق يده على البخاري ويغمض عينه حتى يرتجف و ينتفض جسده ، وتعلو وتهبط دقات قلبه ، وتبدو عليه علائم الفزع الكامل ، فيعترف
في الحال أو ينكل عن اليمين فيدل على نفسه بهذا النكول .. فإذا هو خاطر و اقدم ، فلن يكمل ثلاثة أيام ، حتى ينفذ فيه البخاري ، فيقع له ما يقع من الأحداث ، وكثيرا ما يكون ذلك ا ختلاطا في عقله واضطرابا في أعصابه يفضي به غالبا إلى الموت أو إلى الجنون !
ولما كانت ليمين البخاري تقاليد خاصة ومراسيم ، فلا بد ان ينتقل صاحبه به إلى الدار المسروقة ، أو يأتي بالمتهمين إلى داره ليتولى تحليفهم اليمين ،في مقابل اجر معلوم .
نعم هناك طرق أخرى لكشف السارق وهي طريقة " المندل " وطريقة " الفنجان " فأما المندل : فهو ابريق يملأ بالماء ويعلق بحبل من رقبته يمسك به " العراف " و المتهمون كلهم حوله في حلقة ، ثم يتلو على المندل بعض الرقي و التعاويذ و يوقد بخورا خاصا ، ثم يدير الإبريق من الحبل على الجالسين و هو يهزه بيده ، فإذا كان الإبريق في محتذتة السارق دفق من صنبوره الماء ، فيعرف الجاني بلا كلام ! واما " الفنجان " فيستحضر صبي صغير سهل التنويم . ويمسك بيده فنجانا به آثار قهوة ، ثم يتلو عليه العراف ، رقى وتعاويذ ، ثم يأمره ان ينظر في قاع الفنجان ليرى فيه حركة ، ورجالا ونساء - هم طائفة من الجن حضرت للخدمة يسمون خداما - فيكلفه أن يأمرهم بالكنس و الرش وصف الكراسي،
فيرى الصبي انهم يصنعون ذلك ! ثم يكلفه ان يأمرهم بإحضار المتهم ، فيرى الصبي انهم احضروا رجلا وامرأة ، فيطلب إليه ان يتذكر من يشبهه هذا الذي احضر ، ويكون الصبي قد أرهق فيذكر اسما ممن يعرف .. فيأمره ان يصرف الخدام فيصرفهم ويستغرق في سبات عميق !
وإذن فقد عرف السارق ، الذي كثيرا ما يكون قد اقر للعراف عندما علم انه سيفتح الفنجان أو يدير المندل !!
ولكن المندل و الفنجان على السواء لا يبلغان من القوة ما يبلغه البخاري ، وبذلك تبقى يمين البخاري متفردة بين الأيمان ولعلك تدرك بعد ذلك كم يكون لوجوده عند أحد الناس من قيمة كبيرة في مثل هذه الأحوال .
* * *
لم يقدر لصاحبنا ان تحوي مكتبته العظيمة نسخة من كتاب البخاري ، لأنه ليس عالما في الأزهر ، وليس خطيبا كهذين الخطيبين الشهيرين في القرية كلها بهذا البخاري وبالقدرة على السحر وبخاصة سحر الزوجات للأزواج ، والضرائر للضرات ، وربط الرجال وفكهم . والسحر للاعداء عامة بالبخل و المرض و الجنون .. وكثير ما هم أولئك الذين يعيشون في القرية مسحورين في كل زمان ومكان !
ولكن إذا كانت قد فاتته نسخة البخاري ، فلقد كان في مكتبته كتب أخرى ، ضمنت له شهرة ذائعة ، وصيتا كبيرا - على صغره - في بيوت القرية ، وعند كثير من نسائها خاصة ، وكذلك عند فريق من الشبان .
كان في مكتبته كتابان :
كتاب أبي معشر الفلكي . وكتاب شمهورش . ولكل منهما قصة ، ساعدت على نشر شهرته ، وإذاعتها :
فأما كتاب أبي معشر فكان في التنجيم . وكان يحوي عدة فصول . ويذكر منها فصلا خاصا بالحظوظ المختلفة لمواليد كل شهر وكل فصل وكل يوم ، وفصلا خاصا بالحظوظ المختلفة تستخلص من حروف اسم الشخص واسم امه واسم الشهر الذي ولد فيه . وجمعها بحساب " الجمل " ذلك الحساب المعروف الذي يستخدمه بعض النظامين في التاريخ :
الألف تساوي واحدا ، و الباء تساوي اثنين ، والجيم تساوي ثلاثة على التوالي : " أبجد . هوز .حطى . كلمن . سعفص . قرشت ... " فالحرف العاشر فيها و هو الطاء بعشرة ، ثم تبدأ الياء بعشرين والكاف بثلاثين . إلى نهاية العشرة الثانية وهي القاف ثم تبدا الراء بمائتين و ... وهكذا - على ما أذكر - و هو حساب مأخوذ من اللغة العبرية القديمة .
ثم كان في هذا الكتاب فصل ، يغمض طالب البخت عينه ويضع اصبعه على أعلى الصفحة التي تحوي أرقاما متناثرة ، فالرقم الذي تقع عليه اصبعه هو رقم صفحة خاصة في الفصل خطت فيها حظوظة في الماضي و الحاضر و المستقبل ، كما قد خطت معلومات عن صفاته واخلاقه و خصومه واحبائه ، وسائر من يتعلق به ، وما ينبغي ان يعمله ، وما يجب ان يحذره ... الخ .
واما كتاب شمهورش ، فيحتوي على كثير من الرقي و التعاويذ و صور القمائم ، ووصفات البخور ، وبعضها يجلب المحبة وبعضها يجلب السعد ، و بعضها مما يدخل به على الحكام ، فينال صاحبه القبول و قضاء الحاجات مع الاحترام .
تسامع نساء القرية وشبانها بالكتابين ، فأقبل الجميع على صاحبنا الصغير إقبالا منقطع النظير ، وذلك لاسباب كثيرة ! منها انه لا يتناول أجرا على الخدمات التي يقوم بها لهؤلاء ومنها انه صبي يدخل البيوت وتقابله النسوة والفتيات بلا تحرج ، ودون ان يثير وجوده بينهن تساؤلا كالذي يثيره وجود من يتعاطون هذه الأعمال من الكبار , ومنها ان السيدة أو الفتاة ، لا تتحرج ان تفضي برغباتها و أسراراها ومخاوفها لصبي لم يبلغ الحلم ولا تدعو سنه إلى الخجل منه .
وشيء من هذه العوامل كان في نفوس الشبان ، إذ كانت معظم المهام التي يندبونه لها هي مهام سرية من هذا النوع أيضا !
كان يحضر من المدرسة فيجد كثيرا من التوصيات بطلبه من عدة بيوت ، وبعضها كان يرسل رسولا يترقبه ليحضر به ، وبخاصة بعد ان عرف الجميع انه " مشغول " بالكثير من هذه الدعوات .
والحق انه كان يحس بنشوة عجيبة و الطلبات تتوالى عليه ، و الأبواب جميعها تفتح له . ولقد كان صغيرا لم تثر في نفسه نوازع الجنس بعد ، وتربيته المنزلية جعل في نفسه كثيرا من الحشمة والحياء حتى لو ثارت بعض هذه النوازع .. ولكن إحساسه بالجمال الحي كان مرهفا .. فكانت هذه الزيارات والمقابلات ، و معظم موضوعاتها يدور على الحب و دواعيه . مما يغذي فيه هذا الشعور الوليد الغامض ، ويحبب إليه هذه الزيارات و المقابلات التي يجد فيها لذة غامضة عجيبة !
ومن الحق أيضا ان نقرر انه لم يخالف وصايا " عم صالح " وعهده الذي عاهده عليه ، وهو يستأمنه على هذه الكتب الخطيرة ، فلم يطع هوى ضرة تريد ان تكتب لضرتها بالعمى ، ولا حتى بكراهية زوجها لها . إنما كان يستجيب لرسائل المحبة بين الأزواج واستهواء الكاره ليعود إلى مطاقته ،والشاب المرغوب ليتقدم لخطبة فتاة تهواه !
اما معرفة الحظوظ فلم يكن هناك ما يمنعه ان يفضي فيها بما تكشف عنه النجوم ، حسب تعاليم كتابه العظيم !
* * *
من هذه النواحي كان راضيا عن نفسه ، راضيا عن مكتبته ، مغتبطا بسعة ثقافته ، وبسعة شهرته كذلك !
ولكن كتابا آخر كانت منه نسخة واحدة في القرية كلها ، يملكها شاب قريب له يكبره في السن . هذا الكتاب كان يود لو يملكه ، فتتم له معالم الثقافة والشهرة في القرية جميعا . ولكن هذا الكتاب الفريد ظل عزيزا عليه ، فلم يستطع سبيلا إليه .
ولو كان لهذا الكتاب نظير يشترى بالمال لاشتراه ، ولأوصى عم صالح ان يستجلبه له بأي ثمن كان ، ولكنه مع الأسف مخطوط بخط النبي سليمان عليه السلام ، وسليمان قد مات ، و يبدو انه - رحمه الله - لم يكتب الا نسخة واحدة من هذا الكتاب ، هي التي وقعت في يد قريبه الشاب ، حملها إليه مغربي يفتح الكتاب ، ثم لم يعد بعد ذلك أبدا ، ولن يعود ! لقد باعه له بكياتين من القمح ، بذل النفس والنفيس في سرقتهما من مخزن الغلال ، وذلك فوق ريال من النقود أمدته به والدته ، التي كانت حفية بمثل هذا الكتاب النادر الثمين !
ذلك كان " كتاب الكنوز " !
ان ما على ظهر هذة الأرض من الأموال و الجواهر لا يعادل عشر معشار ما يحويه بطنها من الكنوز .. ولكن هذه الكنوز مرصودة ، ولاتفتح الا بقتل الأرصاد التي هي ديوك مسحورة غالبا ، أو كلاب أو خدام جنيون . وهذه لا تقتل الا ببخور خاص وتعاويذ خاصة ، وتجار تذهب في سبيلها الأرواح ولما كان " المغاربة " هم المختصون بهذه الشؤون كلها ، فقد كانوا يفدون واحدا بعد الآخر إلى القرية - والقرية حافلة بالكنوز - منها كنز يصل بين كنيستها والدير .
وهذا الدير في حضن الجبل ، فهو يستغرق مساحة يزيد طولها على خمسة كيلو مترات كلها حافلة بالكنوز من شتى الألوان ، لا بل ان بيت جده لوالدته ليحوي كنزا كادوا يظفرون به في مرة ، لولا نفاد البخور المغربي . و البخور ينفد دائما قبل إتمام العمل ، ويحتاج إلى نقود كثيرة ليأتي به من البلاد البعيدة ، والمهالك الكثيرة , فان كتبت له السلامة عاد ، وإلا استعوضوا الله فيه وفي نقودهم . و هو دائما لا يعود ، الا ان ياتي بقسط من البخور ينفد من جديد !!
هذا الكنز الذي في بيت جده لوالدته مرصود ، رصده ديك ، وطريقة استخراجه ان يجلس الساحر في ركن مظلم و أمامه البخور ، وفوق البخور " طاسة " من النحاس ، ثم " يعزم " فتتحرك الطاسة طائرة من ركن الحجرة إلى الركن الآخر ، ثم تهبط . وعندئذ تنشق الأرض ، ويخرج منها الديك يصفق بجناحيه ويصيح ، فترتج قوائم البيت ويكاد يسقط على من فيه ... وحينئذ يكون جماعة من الرجال مستعدين بالبنادق ، فيضربون هذا الديك برصاصهم بينما يستمر الساحر في التعاويذ وفي البخور ، فإذا أصابوه فتح الكنز ، وإذا اخطأوه تعرضت حياتهم للخطر .
ولقد تمت هذه المراحل كلها في مرة من المرات ، الا الخطوة الأخيرة . ويقسم الرجال انهم رأوا الطاسة تطير ، ورأوا الأرض تنشق ، ورأوا الديك يخرج ، و سمعوه يصيح ، وصوبوا عليه ، ولكن البخور كان قد نفد ، وانطفأ البخور ، فأظلم المكان ، وخروا جميعا مصروعين . لأن الرصد كاد يفتك بهم، لولا ان ذكر الساحر اسم الله الأعظم ،فكان هو المنقذ الوحيد !
وذهب الرجل ليعود بالبخور ، ولا يزالون إلى اليوم في انتظاره ، أو انتظار " مغربي جديد !
لو ملك هذا الكتاب إذن لتغير كل شيء في حياته ، ولكن قريبه هذا ضنين بالكتاب ، فهو مصدر ثروة خيالية مغرية ، وان كانت ثروة معطلة ، فالبخور المطلوب غيرموجود ولا بد من مغربي يستحضره من المهالك و المفاوز .. وقد ظل قريبه ينتظر ، كما ظل يجري بعض التجارب الممكنة في كتابه ، حتى انتهى به المطاف إلى دنيا جميلة طليقة من كل القيود ، يجد فيها كنوزه هذه بلا رقي و لاتعازيم ، وبلا بخور ولا كتاب .
وهو الآن ينعم في هذه الدنيا الجميلة الطليقة ، ويتمتع بهذه الكنوز الغالية كل المتاع !!!
اما الطفل فقد رضي بنصيبه من الكتب ، وظل زبونا مخلصا لعم صالح ، وشيئا فشيئا أصبحت مكتبته هذه مصدر حركة ثقافية دائمة ، بما اجتمع له فيها من كتب ثمينة ، تظل تستعار على مدار العام ! اما في السنتين الأخيرتين من إقامته بالقرية فقد حدث تطور خطير في هذه المكتبة لا يخطر على بال.
كان ذلك في نهاية الحرب العظمى الماضية . وكان بالمدرسة ناظر شاب يتقد وطنية ، ولما كان والد الطفل عضوا في لجنة الحزب الوطني ، ومشتركا في صحيفة يومية ، فقد كان منزلهم مثابة للوطنيين من رجال القرية ، ولهذا الناظر الشاب كذلك ، الذي انعقدت صداقة حميمة بينه وبين والده .
في هذه الإجتماعات كانت تدور أحاديث يحضر بعضها الصبي وبعضها كان سريا لا يعلم عنه أحد شيئا . وكان يسمع اسم " افندينا عباس " واسم الشيخ عبدالعزيز جاويش ، واسم فريد ، واسم أنور باشا التركي ، وطلعت ، و رؤوف وسفينته " حميدية " التي أذاقت الحلفاء الويل ! وكانت تروى عنها وقائع كالأساطير !
كان شعور القرية كلها متجها إلى تركيا دولة الخلافة ضد الحلفاء الذين كانوا يمثلون " الكفرة " يصارعون دولة الإسلام ! وكان يبدو ان هناك شعورا معينا يختمر . يذكر الآن ذلك ، ويدرك انه و هو طفل كان يتوقع في حسه - مع هؤلاء الرجال - شيئا غامضا لا يدري ما هو ولا كيف يقع .
ولكن شيئا ما سيحدث و السلام .
وكانت الاجتماعات السرية التي تعقد في منزلهم تلقي في روعه هذا الشيء الغامض الذي لا يدريه . وشيئا فشيئا اخذ
يشارك الكبار فيما يخوضون فيه ، ولا سيما انه كان قد وصل إلى السنة الرابعة الأولية ، وكان كثيرا ما يتولى بدلا عن والده قراءة الجريدة للجمع الحاشد الذي يحضر لاستماعها في منزلهم .
وكان هذا قد لفت إليه نظر الأستاذ الناظر ، مضافا إليه تفوقه في الدراسة ، ولا سيما في دروس اللغة العربية .. عند ذلك وجده أهلا لأن يعيره كتابين عظيمين ، وجد فيهما الصبي طرازا آخر غير ما تحوي مكتبته العظيمة من شتى الثقافات . أحدهما ديوان رجل يسمى " ثابت الجرجاوي " والآخر كتاب تاريخي لمحمد بك الخضري في مقدمته صورة عباس الثاني وتنويه بمآثره .
فاما الديوان الأول فيحوي قصائد وطنية ، يدرك الطفل الآن انها كانت نظما في غاية الركة والسذاجة .
أما في ذلك الحين فقد كانت في نظره إعجازا من الإعجاز ، إذ كانت أفضل من قطع المحفوظات التي تحملها ذاكرته ، مثل :
اسلك بنيّ نهج السادات ... وتخلقن باشرف العادات
أو :
احسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فاطالما استعبد الإنسان إحسان
أو :
قال ذو الإصبع العدواني يوصي ابنه :
عليك بالمال وتنميته ، فان المال آلــة المكارم ، وعون على الدهر ، وقوة على الدين , ومألفة للإخوان ، ومعين
على حوادث الزمان .. " إلى آخر هذا الكلام الذي لم تكن بينه وبين نفسه صلة ما ، إنما هو كلام يحفظه و السلام .
كان يجد في هذا الديوان كلاما يغذي الروح الوطنية في نفسه تلك الروح التي أيقظتها الجو العائلي الذي يعيش فيه ، و الجو العام الذي كان مليئا بتيارات كهربائية خفية تستعد للانفجار .
ولا يزال يذكر بعض مقطعاته مثل :
وطني عزيز لا أروم ســـــــــــــواه ... مهما تسور العدا مبنـــــــاه !
أمسي واصحوا من عناه على لظى ... بيدي نشيده للملا معنــــــاه !
وفي النهاية :
ما ثابت الجرجاوي قال مؤرخــأ ... وطني عزيز لا أروم سواه !
وقد زاد من قيمة هذا الديوان في نظره ، علمه بأن صاحبه سجين سياسي ، وان هذا الديوان مصادر بحكم الأحكام العرفية في ذلك الحين .
واما كتاب التاريخ ، فقد اعزه في نفسه ان صاحبه كتب في نهاية مقدمته :
" وقد لا يعاد طبع هذا الكتاب ، حتى تكون قد محيت منه هذه الفقرات "
يعني الفقرات الخاصة بتمجيد " الخديوي عباس حلمي الثاني " .
وإذن فبين يديه كتابان نادران ثمينان ، وفيهما مادة وطنية تشتاق لها نفسه المتعطشة لهذا النوع من الغذاء . ولما كان لا يتصور ان لهذين الكتابين نظيرا ، ولا ان صاحبهما ينزل له عنهما ، فقد احتفظ بهما في صورة أخرى :
جمع من كراساته في السنوات الماضية الأوراق البيضاء منها ، فصارت له كراسة ضخمة من الورق الأبيض . أما المداد و الأقلام فموفوران .. واخذفي صبر ودأب عجيبين ينقل الديوان بيتا بيتا إلى هذه الكراسة ، وينقل كتاب التاريخ الأثرية ، التي لن يعاد طبعها حتى تمحى منها هذه الفقرات !
وانه ليعجب اليوم لنفسه كيف استطاع ان ينهض بهذا العمل ، ولكن الأعجب منه انه حفظ هذا الديوان حفظا جيدا ظل يذكره بعدها سنوات وسنوات !
وحينما انطلق في القرية يحدث أصحابه بمحفوظاته الجديدة ، ويزعم ان هذا الشعر لرجل يعيش هذه الأيام ، لم يصدقه أحد .. فالشعر خاصة عربية لسكان الجزيرة الأوائل ، ولن يستطيع أحد بعدهم ان ينظم بيتا واحدا من الشعر . ولما زاد لهم ان هناك شعراء آخرين يعيشون . اسم واحد منهم شوقي واسم الآخر حافظ - وكان قد علم نبأهم من أستاذه العظيم - لم يبق واحد لم يستنكر هذا الزعم الذي لا يصدق بحال .
وإذ كان حريصا على إثبات صحة دعواه فقد تراهنوا على ان يصبروا حتى يعود الذين يتعلمون في القاهرة من علماء الأزهر ، أو ذلك الذي يتعلم في دار العلوم . او ذلك الذي يتعلم في الحقوق - ومن هنا ترى ان القرية كانت قد نهضت نهضة كبيرة ! .. ليستفتوهم في هذه القضية الخطيرة ، ويصلوا فيها إلى قرار صحيح ! (1)
أما هو فقد كان واثقا ان هنالك في هذا العصر من يكتبون شعرا ونثرا كالذي يقرؤه في الكتب . ودليله على وجود الشعر ذلك الديوان ، وما قاله له الأستاذ عن شوقي وحافظ . أما دليله على النثر فقطعة الإملاء التي جاءت لهم في الإمتحان ، وهي من تأليف هذا الأستاذ نفسه :
" انظر إلى الجمل ، تر رقبته طويلة ، و رأسه مستطيلة ( كذا ) خلقا على هذه الهئية ليتزن بها جسمه ... " و هو نثر من ابلغ النثر ! وهو من صنع انسان معاصر !
ثم لقد سمع ان هذا الرجل الذي يدرس في دار العلوم حين يحضر في العطلة الصيفية يخطب في المساجد خطبا من تأليفه ، لا يستقيها من كتاب . على انه كان متشككا في هذه الواقعة بالرغم من حلف بعض أقرباء هذا الرجل على صحة هذه المعجزة ، وانهم رأوه " ينشء من باله " ولا ينقل من كتاب !
لم يقدر لصاحبنا ان تحوي مكتبته العظيمة نسخة من كتاب البخاري ، لأنه ليس عالما في الأزهر ، وليس خطيبا كهذين الخطيبين الشهيرين في القرية كلها بهذا البخاري وبالقدرة على السحر وبخاصة سحر الزوجات للأزواج ، والضرائر للضرات ، وربط الرجال وفكهم . والسحر للاعداء عامة بالبخل و المرض و الجنون .. وكثير ما هم أولئك الذين يعيشون في القرية مسحورين في كل زمان ومكان !
ولكن إذا كانت قد فاتته نسخة البخاري ، فلقد كان في مكتبته كتب أخرى ، ضمنت له شهرة ذائعة ، وصيتا كبيرا - على صغره - في بيوت القرية ، وعند كثير من نسائها خاصة ، وكذلك عند فريق من الشبان .
كان في مكتبته كتابان :
كتاب أبي معشر الفلكي . وكتاب شمهورش . ولكل منهما قصة ، ساعدت على نشر شهرته ، وإذاعتها :
فأما كتاب أبي معشر فكان في التنجيم . وكان يحوي عدة فصول . ويذكر منها فصلا خاصا بالحظوظ المختلفة لمواليد كل شهر وكل فصل وكل يوم ، وفصلا خاصا بالحظوظ المختلفة تستخلص من حروف اسم الشخص واسم امه واسم الشهر الذي ولد فيه . وجمعها بحساب " الجمل " ذلك الحساب المعروف الذي يستخدمه بعض النظامين في التاريخ :
الألف تساوي واحدا ، و الباء تساوي اثنين ، والجيم تساوي ثلاثة على التوالي : " أبجد . هوز .حطى . كلمن . سعفص . قرشت ... " فالحرف العاشر فيها و هو الطاء بعشرة ، ثم تبدأ الياء بعشرين والكاف بثلاثين . إلى نهاية العشرة الثانية وهي القاف ثم تبدا الراء بمائتين و ... وهكذا - على ما أذكر - و هو حساب مأخوذ من اللغة العبرية القديمة .
ثم كان في هذا الكتاب فصل ، يغمض طالب البخت عينه ويضع اصبعه على أعلى الصفحة التي تحوي أرقاما متناثرة ، فالرقم الذي تقع عليه اصبعه هو رقم صفحة خاصة في الفصل خطت فيها حظوظة في الماضي و الحاضر و المستقبل ، كما قد خطت معلومات عن صفاته واخلاقه و خصومه واحبائه ، وسائر من يتعلق به ، وما ينبغي ان يعمله ، وما يجب ان يحذره ... الخ .
واما كتاب شمهورش ، فيحتوي على كثير من الرقي و التعاويذ و صور القمائم ، ووصفات البخور ، وبعضها يجلب المحبة وبعضها يجلب السعد ، و بعضها مما يدخل به على الحكام ، فينال صاحبه القبول و قضاء الحاجات مع الاحترام .
تسامع نساء القرية وشبانها بالكتابين ، فأقبل الجميع على صاحبنا الصغير إقبالا منقطع النظير ، وذلك لاسباب كثيرة ! منها انه لا يتناول أجرا على الخدمات التي يقوم بها لهؤلاء ومنها انه صبي يدخل البيوت وتقابله النسوة والفتيات بلا تحرج ، ودون ان يثير وجوده بينهن تساؤلا كالذي يثيره وجود من يتعاطون هذه الأعمال من الكبار , ومنها ان السيدة أو الفتاة ، لا تتحرج ان تفضي برغباتها و أسراراها ومخاوفها لصبي لم يبلغ الحلم ولا تدعو سنه إلى الخجل منه .
وشيء من هذه العوامل كان في نفوس الشبان ، إذ كانت معظم المهام التي يندبونه لها هي مهام سرية من هذا النوع أيضا !
كان يحضر من المدرسة فيجد كثيرا من التوصيات بطلبه من عدة بيوت ، وبعضها كان يرسل رسولا يترقبه ليحضر به ، وبخاصة بعد ان عرف الجميع انه " مشغول " بالكثير من هذه الدعوات .
والحق انه كان يحس بنشوة عجيبة و الطلبات تتوالى عليه ، و الأبواب جميعها تفتح له . ولقد كان صغيرا لم تثر في نفسه نوازع الجنس بعد ، وتربيته المنزلية جعل في نفسه كثيرا من الحشمة والحياء حتى لو ثارت بعض هذه النوازع .. ولكن إحساسه بالجمال الحي كان مرهفا .. فكانت هذه الزيارات والمقابلات ، و معظم موضوعاتها يدور على الحب و دواعيه . مما يغذي فيه هذا الشعور الوليد الغامض ، ويحبب إليه هذه الزيارات و المقابلات التي يجد فيها لذة غامضة عجيبة !
ومن الحق أيضا ان نقرر انه لم يخالف وصايا " عم صالح " وعهده الذي عاهده عليه ، وهو يستأمنه على هذه الكتب الخطيرة ، فلم يطع هوى ضرة تريد ان تكتب لضرتها بالعمى ، ولا حتى بكراهية زوجها لها . إنما كان يستجيب لرسائل المحبة بين الأزواج واستهواء الكاره ليعود إلى مطاقته ،والشاب المرغوب ليتقدم لخطبة فتاة تهواه !
اما معرفة الحظوظ فلم يكن هناك ما يمنعه ان يفضي فيها بما تكشف عنه النجوم ، حسب تعاليم كتابه العظيم !
* * *
من هذه النواحي كان راضيا عن نفسه ، راضيا عن مكتبته ، مغتبطا بسعة ثقافته ، وبسعة شهرته كذلك !
ولكن كتابا آخر كانت منه نسخة واحدة في القرية كلها ، يملكها شاب قريب له يكبره في السن . هذا الكتاب كان يود لو يملكه ، فتتم له معالم الثقافة والشهرة في القرية جميعا . ولكن هذا الكتاب الفريد ظل عزيزا عليه ، فلم يستطع سبيلا إليه .
ولو كان لهذا الكتاب نظير يشترى بالمال لاشتراه ، ولأوصى عم صالح ان يستجلبه له بأي ثمن كان ، ولكنه مع الأسف مخطوط بخط النبي سليمان عليه السلام ، وسليمان قد مات ، و يبدو انه - رحمه الله - لم يكتب الا نسخة واحدة من هذا الكتاب ، هي التي وقعت في يد قريبه الشاب ، حملها إليه مغربي يفتح الكتاب ، ثم لم يعد بعد ذلك أبدا ، ولن يعود ! لقد باعه له بكياتين من القمح ، بذل النفس والنفيس في سرقتهما من مخزن الغلال ، وذلك فوق ريال من النقود أمدته به والدته ، التي كانت حفية بمثل هذا الكتاب النادر الثمين !
ذلك كان " كتاب الكنوز " !
ان ما على ظهر هذة الأرض من الأموال و الجواهر لا يعادل عشر معشار ما يحويه بطنها من الكنوز .. ولكن هذه الكنوز مرصودة ، ولاتفتح الا بقتل الأرصاد التي هي ديوك مسحورة غالبا ، أو كلاب أو خدام جنيون . وهذه لا تقتل الا ببخور خاص وتعاويذ خاصة ، وتجار تذهب في سبيلها الأرواح ولما كان " المغاربة " هم المختصون بهذه الشؤون كلها ، فقد كانوا يفدون واحدا بعد الآخر إلى القرية - والقرية حافلة بالكنوز - منها كنز يصل بين كنيستها والدير .
وهذا الدير في حضن الجبل ، فهو يستغرق مساحة يزيد طولها على خمسة كيلو مترات كلها حافلة بالكنوز من شتى الألوان ، لا بل ان بيت جده لوالدته ليحوي كنزا كادوا يظفرون به في مرة ، لولا نفاد البخور المغربي . و البخور ينفد دائما قبل إتمام العمل ، ويحتاج إلى نقود كثيرة ليأتي به من البلاد البعيدة ، والمهالك الكثيرة , فان كتبت له السلامة عاد ، وإلا استعوضوا الله فيه وفي نقودهم . و هو دائما لا يعود ، الا ان ياتي بقسط من البخور ينفد من جديد !!
هذا الكنز الذي في بيت جده لوالدته مرصود ، رصده ديك ، وطريقة استخراجه ان يجلس الساحر في ركن مظلم و أمامه البخور ، وفوق البخور " طاسة " من النحاس ، ثم " يعزم " فتتحرك الطاسة طائرة من ركن الحجرة إلى الركن الآخر ، ثم تهبط . وعندئذ تنشق الأرض ، ويخرج منها الديك يصفق بجناحيه ويصيح ، فترتج قوائم البيت ويكاد يسقط على من فيه ... وحينئذ يكون جماعة من الرجال مستعدين بالبنادق ، فيضربون هذا الديك برصاصهم بينما يستمر الساحر في التعاويذ وفي البخور ، فإذا أصابوه فتح الكنز ، وإذا اخطأوه تعرضت حياتهم للخطر .
ولقد تمت هذه المراحل كلها في مرة من المرات ، الا الخطوة الأخيرة . ويقسم الرجال انهم رأوا الطاسة تطير ، ورأوا الأرض تنشق ، ورأوا الديك يخرج ، و سمعوه يصيح ، وصوبوا عليه ، ولكن البخور كان قد نفد ، وانطفأ البخور ، فأظلم المكان ، وخروا جميعا مصروعين . لأن الرصد كاد يفتك بهم، لولا ان ذكر الساحر اسم الله الأعظم ،فكان هو المنقذ الوحيد !
وذهب الرجل ليعود بالبخور ، ولا يزالون إلى اليوم في انتظاره ، أو انتظار " مغربي جديد !
لو ملك هذا الكتاب إذن لتغير كل شيء في حياته ، ولكن قريبه هذا ضنين بالكتاب ، فهو مصدر ثروة خيالية مغرية ، وان كانت ثروة معطلة ، فالبخور المطلوب غيرموجود ولا بد من مغربي يستحضره من المهالك و المفاوز .. وقد ظل قريبه ينتظر ، كما ظل يجري بعض التجارب الممكنة في كتابه ، حتى انتهى به المطاف إلى دنيا جميلة طليقة من كل القيود ، يجد فيها كنوزه هذه بلا رقي و لاتعازيم ، وبلا بخور ولا كتاب .
وهو الآن ينعم في هذه الدنيا الجميلة الطليقة ، ويتمتع بهذه الكنوز الغالية كل المتاع !!!
اما الطفل فقد رضي بنصيبه من الكتب ، وظل زبونا مخلصا لعم صالح ، وشيئا فشيئا أصبحت مكتبته هذه مصدر حركة ثقافية دائمة ، بما اجتمع له فيها من كتب ثمينة ، تظل تستعار على مدار العام ! اما في السنتين الأخيرتين من إقامته بالقرية فقد حدث تطور خطير في هذه المكتبة لا يخطر على بال.
كان ذلك في نهاية الحرب العظمى الماضية . وكان بالمدرسة ناظر شاب يتقد وطنية ، ولما كان والد الطفل عضوا في لجنة الحزب الوطني ، ومشتركا في صحيفة يومية ، فقد كان منزلهم مثابة للوطنيين من رجال القرية ، ولهذا الناظر الشاب كذلك ، الذي انعقدت صداقة حميمة بينه وبين والده .
في هذه الإجتماعات كانت تدور أحاديث يحضر بعضها الصبي وبعضها كان سريا لا يعلم عنه أحد شيئا . وكان يسمع اسم " افندينا عباس " واسم الشيخ عبدالعزيز جاويش ، واسم فريد ، واسم أنور باشا التركي ، وطلعت ، و رؤوف وسفينته " حميدية " التي أذاقت الحلفاء الويل ! وكانت تروى عنها وقائع كالأساطير !
كان شعور القرية كلها متجها إلى تركيا دولة الخلافة ضد الحلفاء الذين كانوا يمثلون " الكفرة " يصارعون دولة الإسلام ! وكان يبدو ان هناك شعورا معينا يختمر . يذكر الآن ذلك ، ويدرك انه و هو طفل كان يتوقع في حسه - مع هؤلاء الرجال - شيئا غامضا لا يدري ما هو ولا كيف يقع .
ولكن شيئا ما سيحدث و السلام .
وكانت الاجتماعات السرية التي تعقد في منزلهم تلقي في روعه هذا الشيء الغامض الذي لا يدريه . وشيئا فشيئا اخذ
يشارك الكبار فيما يخوضون فيه ، ولا سيما انه كان قد وصل إلى السنة الرابعة الأولية ، وكان كثيرا ما يتولى بدلا عن والده قراءة الجريدة للجمع الحاشد الذي يحضر لاستماعها في منزلهم .
وكان هذا قد لفت إليه نظر الأستاذ الناظر ، مضافا إليه تفوقه في الدراسة ، ولا سيما في دروس اللغة العربية .. عند ذلك وجده أهلا لأن يعيره كتابين عظيمين ، وجد فيهما الصبي طرازا آخر غير ما تحوي مكتبته العظيمة من شتى الثقافات . أحدهما ديوان رجل يسمى " ثابت الجرجاوي " والآخر كتاب تاريخي لمحمد بك الخضري في مقدمته صورة عباس الثاني وتنويه بمآثره .
فاما الديوان الأول فيحوي قصائد وطنية ، يدرك الطفل الآن انها كانت نظما في غاية الركة والسذاجة .
أما في ذلك الحين فقد كانت في نظره إعجازا من الإعجاز ، إذ كانت أفضل من قطع المحفوظات التي تحملها ذاكرته ، مثل :
اسلك بنيّ نهج السادات ... وتخلقن باشرف العادات
أو :
احسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فاطالما استعبد الإنسان إحسان
أو :
قال ذو الإصبع العدواني يوصي ابنه :
عليك بالمال وتنميته ، فان المال آلــة المكارم ، وعون على الدهر ، وقوة على الدين , ومألفة للإخوان ، ومعين
على حوادث الزمان .. " إلى آخر هذا الكلام الذي لم تكن بينه وبين نفسه صلة ما ، إنما هو كلام يحفظه و السلام .
كان يجد في هذا الديوان كلاما يغذي الروح الوطنية في نفسه تلك الروح التي أيقظتها الجو العائلي الذي يعيش فيه ، و الجو العام الذي كان مليئا بتيارات كهربائية خفية تستعد للانفجار .
ولا يزال يذكر بعض مقطعاته مثل :
وطني عزيز لا أروم ســـــــــــــواه ... مهما تسور العدا مبنـــــــاه !
أمسي واصحوا من عناه على لظى ... بيدي نشيده للملا معنــــــاه !
وفي النهاية :
ما ثابت الجرجاوي قال مؤرخــأ ... وطني عزيز لا أروم سواه !
وقد زاد من قيمة هذا الديوان في نظره ، علمه بأن صاحبه سجين سياسي ، وان هذا الديوان مصادر بحكم الأحكام العرفية في ذلك الحين .
واما كتاب التاريخ ، فقد اعزه في نفسه ان صاحبه كتب في نهاية مقدمته :
" وقد لا يعاد طبع هذا الكتاب ، حتى تكون قد محيت منه هذه الفقرات "
يعني الفقرات الخاصة بتمجيد " الخديوي عباس حلمي الثاني " .
وإذن فبين يديه كتابان نادران ثمينان ، وفيهما مادة وطنية تشتاق لها نفسه المتعطشة لهذا النوع من الغذاء . ولما كان لا يتصور ان لهذين الكتابين نظيرا ، ولا ان صاحبهما ينزل له عنهما ، فقد احتفظ بهما في صورة أخرى :
جمع من كراساته في السنوات الماضية الأوراق البيضاء منها ، فصارت له كراسة ضخمة من الورق الأبيض . أما المداد و الأقلام فموفوران .. واخذفي صبر ودأب عجيبين ينقل الديوان بيتا بيتا إلى هذه الكراسة ، وينقل كتاب التاريخ الأثرية ، التي لن يعاد طبعها حتى تمحى منها هذه الفقرات !
وانه ليعجب اليوم لنفسه كيف استطاع ان ينهض بهذا العمل ، ولكن الأعجب منه انه حفظ هذا الديوان حفظا جيدا ظل يذكره بعدها سنوات وسنوات !
وحينما انطلق في القرية يحدث أصحابه بمحفوظاته الجديدة ، ويزعم ان هذا الشعر لرجل يعيش هذه الأيام ، لم يصدقه أحد .. فالشعر خاصة عربية لسكان الجزيرة الأوائل ، ولن يستطيع أحد بعدهم ان ينظم بيتا واحدا من الشعر . ولما زاد لهم ان هناك شعراء آخرين يعيشون . اسم واحد منهم شوقي واسم الآخر حافظ - وكان قد علم نبأهم من أستاذه العظيم - لم يبق واحد لم يستنكر هذا الزعم الذي لا يصدق بحال .
وإذ كان حريصا على إثبات صحة دعواه فقد تراهنوا على ان يصبروا حتى يعود الذين يتعلمون في القاهرة من علماء الأزهر ، أو ذلك الذي يتعلم في دار العلوم . او ذلك الذي يتعلم في الحقوق - ومن هنا ترى ان القرية كانت قد نهضت نهضة كبيرة ! .. ليستفتوهم في هذه القضية الخطيرة ، ويصلوا فيها إلى قرار صحيح ! (1)
أما هو فقد كان واثقا ان هنالك في هذا العصر من يكتبون شعرا ونثرا كالذي يقرؤه في الكتب . ودليله على وجود الشعر ذلك الديوان ، وما قاله له الأستاذ عن شوقي وحافظ . أما دليله على النثر فقطعة الإملاء التي جاءت لهم في الإمتحان ، وهي من تأليف هذا الأستاذ نفسه :
" انظر إلى الجمل ، تر رقبته طويلة ، و رأسه مستطيلة ( كذا ) خلقا على هذه الهئية ليتزن بها جسمه ... " و هو نثر من ابلغ النثر ! وهو من صنع انسان معاصر !
ثم لقد سمع ان هذا الرجل الذي يدرس في دار العلوم حين يحضر في العطلة الصيفية يخطب في المساجد خطبا من تأليفه ، لا يستقيها من كتاب . على انه كان متشككا في هذه الواقعة بالرغم من حلف بعض أقرباء هذا الرجل على صحة هذه المعجزة ، وانهم رأوه " ينشء من باله " ولا ينقل من كتاب !
* * *
وحين نفخ في بوق الثروة المصرية الكبرى ، وقف هذا الأستاذ أمام صفوف التلاميذ والقى خطبة وطنية نارية ، وقال لهم : ان المدرسة ستغلق الى اجل غير مسمى ، لأنه هو وزملاؤه ذاهبون للعمل في الثروة فهذا واجب كل انسان ! ووقعت المعجزة التي كان يتشكك فيها تارة ، ويؤمن بها تارة : وقعت المعجزة على يده هو ، فانطلق في حماسة الثروة وفورتها ، يكتب هو الخطب و يضمنها أبياتا من الشعر - يحسبها موزونة وهي متهالكة - ويلقيها في المجامع و المساجد حيث نفخت الثروة المقدسة في الجميع ، فصاروا يستمعون لكل هاتف بالثروة ، ولو كان طفلا صغيرا مثله لم يكد يتجاوز العاشرة !
لقد كان الاسم المقدس الجديد .. هو اسم سعد زغلول ...
[ قانون اللصوص ]
استطاع الصبي ان يقاوم في نفسه أسطورة العفاريت ، و أن يسير في منعرجات القرية آمنا أو شبه آمن ولكن لم يستطع ان يغالب الفزع الذي كان يستولي على نفسه عندما يلتقي وجها لوجه بذلك المخلوق المقيت .. المسمى حرحوراً !
و مع ان حرحورا هذا كان يهش له إذا مر بمنزله ذاهبا إلى بيت جده ، ومع ان امرأته التي كانت تجلس دائما داخل الباب المفتوح وترقب الرائحين و الغادين ، ينما زوجها يجلس على " المصطبة " خارج الدار وبيده مغزله غالبا أو نبوته في بعض الأحيان ، مع ان امرأته هذه انت توصوص له بعينيها وتبتسم وتدعوه إليها فانه ظل يفزع من حرحور ، وظل يمقت زوجته حتى بعد ان كبر قليلا وصار يستطيع التفكير .
كان حرحور هذا لصا ، ولكنه لم يكن اللص الوحيد في القرية الا انه دون من يسمع عنهم جميعا كان يسبب له الفزع الذي يتحول بسرعة في نفسه إلى مقت ، حتى لـيود ان يقابل الشيطان ولا يقابل هذا الرجل بالليل و النهار . لم تكن امرأة حرحور من القرية ، بل كان أصلها " غجرية " تعشقته في شبابه " فحازها " كما يعبر اهل القرية عن العشيقات ، ثم تزوجها . تعشقه لأنه كان فاتكا من الفتاك " ولد الليل " كما يسمون اللصوص الأشقياء ، اللذين لا يتورعون عن القتل ، بل الذين يتخذونه إلهية يتلهون بها في مغامراتهم الكثيرة .
ثم ولدت له ثلاث بنات ، فنشأن جميعا كأمهن . وطارت لهن شهرةخاصة فاصبح البيت مصدر مفزع للأمهات اللواتي يرجون أبناءهن في سن الشباب ، وللزوجات اللاتي يختطف منهن أزواجهن هذا البيت المقيت !
وكان له هو أخ غير شقيق يكبره بجيل كامل ، ولكنه كان شابا وكان له بهذا البيت صلة ، وكانت الأسرة كلها تهمس بهذه الصلة في خوف و ذعر ، والطفل يسمع هذا منذ نشأته ، و لا يعرف حقيقة الأمر ، إنمايخيل له ان هذا البيت يخطف الشبان حقيقة فلا يخرجون منه أبدا .
ولما كان يحب أخاه هذا ، فقد كان دائم الخشية عليه من ذلك الوكر اللعين ! ثم عرف ، فلم تزده المعرفة الا مقتا إلى جانب الفزع و الخوف الأصليين .. وهكذا ظل يتحاشى المرور بالوكر المخيف .. حتى غادر القرية في سن المراهقة .. بل انه ليحس شعورا غامضا كلما مر بهذا البيت حتى الآن !
وحين نفخ في بوق الثروة المصرية الكبرى ، وقف هذا الأستاذ أمام صفوف التلاميذ والقى خطبة وطنية نارية ، وقال لهم : ان المدرسة ستغلق الى اجل غير مسمى ، لأنه هو وزملاؤه ذاهبون للعمل في الثروة فهذا واجب كل انسان ! ووقعت المعجزة التي كان يتشكك فيها تارة ، ويؤمن بها تارة : وقعت المعجزة على يده هو ، فانطلق في حماسة الثروة وفورتها ، يكتب هو الخطب و يضمنها أبياتا من الشعر - يحسبها موزونة وهي متهالكة - ويلقيها في المجامع و المساجد حيث نفخت الثروة المقدسة في الجميع ، فصاروا يستمعون لكل هاتف بالثروة ، ولو كان طفلا صغيرا مثله لم يكد يتجاوز العاشرة !
لقد كان الاسم المقدس الجديد .. هو اسم سعد زغلول ...
استطاع الصبي ان يقاوم في نفسه أسطورة العفاريت ، و أن يسير في منعرجات القرية آمنا أو شبه آمن ولكن لم يستطع ان يغالب الفزع الذي كان يستولي على نفسه عندما يلتقي وجها لوجه بذلك المخلوق المقيت .. المسمى حرحوراً !
و مع ان حرحورا هذا كان يهش له إذا مر بمنزله ذاهبا إلى بيت جده ، ومع ان امرأته التي كانت تجلس دائما داخل الباب المفتوح وترقب الرائحين و الغادين ، ينما زوجها يجلس على " المصطبة " خارج الدار وبيده مغزله غالبا أو نبوته في بعض الأحيان ، مع ان امرأته هذه انت توصوص له بعينيها وتبتسم وتدعوه إليها فانه ظل يفزع من حرحور ، وظل يمقت زوجته حتى بعد ان كبر قليلا وصار يستطيع التفكير .
كان حرحور هذا لصا ، ولكنه لم يكن اللص الوحيد في القرية الا انه دون من يسمع عنهم جميعا كان يسبب له الفزع الذي يتحول بسرعة في نفسه إلى مقت ، حتى لـيود ان يقابل الشيطان ولا يقابل هذا الرجل بالليل و النهار . لم تكن امرأة حرحور من القرية ، بل كان أصلها " غجرية " تعشقته في شبابه " فحازها " كما يعبر اهل القرية عن العشيقات ، ثم تزوجها . تعشقه لأنه كان فاتكا من الفتاك " ولد الليل " كما يسمون اللصوص الأشقياء ، اللذين لا يتورعون عن القتل ، بل الذين يتخذونه إلهية يتلهون بها في مغامراتهم الكثيرة .
ثم ولدت له ثلاث بنات ، فنشأن جميعا كأمهن . وطارت لهن شهرةخاصة فاصبح البيت مصدر مفزع للأمهات اللواتي يرجون أبناءهن في سن الشباب ، وللزوجات اللاتي يختطف منهن أزواجهن هذا البيت المقيت !
وكان له هو أخ غير شقيق يكبره بجيل كامل ، ولكنه كان شابا وكان له بهذا البيت صلة ، وكانت الأسرة كلها تهمس بهذه الصلة في خوف و ذعر ، والطفل يسمع هذا منذ نشأته ، و لا يعرف حقيقة الأمر ، إنمايخيل له ان هذا البيت يخطف الشبان حقيقة فلا يخرجون منه أبدا .
ولما كان يحب أخاه هذا ، فقد كان دائم الخشية عليه من ذلك الوكر اللعين ! ثم عرف ، فلم تزده المعرفة الا مقتا إلى جانب الفزع و الخوف الأصليين .. وهكذا ظل يتحاشى المرور بالوكر المخيف .. حتى غادر القرية في سن المراهقة .. بل انه ليحس شعورا غامضا كلما مر بهذا البيت حتى الآن !
* * *
لم يكن حرحور وحده في القرية .. فاللصوصية في الريف حرفة معترف بها في اغلب الأحيان ! حرفة لها أصولها وتقاليدها بل لها قوانينها المعلومة للجميع .
ثم هي المجال المفتوح للشبان من كل طبقة - حتى أبناء الأثرياء اللذين لا يقال انهم يسرقون ليعيشوا - إنما هي فتوة يدعونها " فتوَنَة " يمارسها الشاب في أول صباه تصريفا للطاقة المختزنة في بدنه ، والتي لا يجد لها تصريفا الا في هذا النشاط الليلي المرذول .
فكثير من هؤلاء يلتحقون بمناسر اللصوص - أولا الليل . الفلاتية . الرّجالة - إذ تشوقه المغامرات التي يسمع عنها ، والتي لا يجد من الوسط استنكارا لها ، بل ربما وجد الإعجاب في موضع الاستنكار ( ولعل هذه بقية تقاليد الأعراب التي اندست في البيئة المصرية والتي تعد الفتك و السلب بطوله وشجاعة ).
وميزة هؤلاء الفتيان انهم لا يقاسمون في الكسب ، فما خرجوا ليسرقوا ، ولكن ليغامروا ، فإذا وقع للمنسر شيء ، فنصيبهم منه متروك للمنسر ، أو لمن منعه مانع قاهر من أفراده عن المشاركة ، كما لو كان سجينا ، أو مصابا في حادث سابق ، فان نصيبه يظل يؤدى لأهله الذين يعود لهم ، حتى يعود إلى مزاولة عمله الشريف .
ذلك أحد قوانين اللصوص .. ومنها ان " الرجال للرجال " وتفسير هذا النص لا يسطى على منزل لا رجال فيه ، أو فيه رجال ضعفاء عجزة .. واللص الذي يسطو عل بيت أرملة أو ضعيف ، هو اللص " النتن " الذي يحتقره رفاقه وأهل القرة جميعا بينما كبار اللصوص الذي يسطون على بيوت الأقوياء و الأثرياء محل احترام من الجميع ، فوق انهم موضع الرهبة من الجميع !
ومن قوانين اللصوص ، ان تقسم القرية اقساما ، كل قسم من اختصاص منسر أو فرد , فلا يجوز لمنسر آخر ان يعتدي على اختصاص زميله ، والا وقع الدم ردا للإهانة، ومحوا للعار الذي يتسامع به الجميع ، فلا يعود للمنسر أو اللص الكبير قيمة في البلد ولا في البلاد المجاورة .
وأحيانا يكون للص أو للمنسر إتاوة مفروضة على بعض الناس في نظير الحماية التامة من السرقات . فمن اعتدى من الآخرين على هذا الذي يتمتع بالحماية ، فقد اعتدى على هذه الحماية واصحابها ولا بد ان يرد المسروق بلا " حلاوة " أو يراق الدم صيانة للشرف الرفيع !
أما هذه الحلاوة فأمرها عجيب :
تقع السرقة في بيت أوحقل ، وتسرق المواشي أو عدد الآلات الارتوازية التي تروي الأرض في غير الفيضان .
وفي تسعين في المائة من هذه السرقات يكون لدى عمدة القرية خبر سابق بها ، شأنها شأن حوادث القتل الكثيرة ، ويكون له جعل معلوم في كل ما يسرق في نظير الحماية التي يبسطها على الفاعلين لو ابلغ الخبر الى بوليس المركز . وقلما يوجد الرجل الغر الذي يبلغ أمر السرقة إلى المركز . فيضيع عليه ما سرق منه إلى الأبد .
إنما الطريقة المتعارفة ان يصبح الصباح ، فإذا القرية كلها تعلم أن بيت فلان أو حقله قد سرق .. سرقة فلان من البلد أو من لصوص البلاد المجاورة ، وكلهم معروفون . ولكل منسر " قعيدة " ( أي رجل قاعد يتولى تصريف ما يسرقون دون ان يشترك معهم في المغامرة ، وله نصيب معلوم ) .. يذهب صاحب المسروق إلى هذا القعيدة فيسأله : الشيء عندك ؟ فان كان عند أجاب بالإيجاب آمنا مطمئنا . وان لم يكن عنده صارح صاحب الشيء بأنه عند فلان - قعيدة آخر - أو ان " الشيء فرط فرطه " أي هلك نهائيا ولا سبيل إليه بعد .. فكثيرا ما يخشى اللصوص ان يضبطوا فيذبحوا الماشية ويبيعوها لحما ، أو يبيعو المسروق لمنسر آخر في جهة بعيدة يتولى أمره ، إذا اتضح ان المجال ضيق لإخفائه قريبا ..
فأما إذا قال القعيدة ان " الشيء " عنده أو في دائرة اختصاصه فتبدأ المساومة على " الحلاوة " ، أي الجعل الذي يؤديه صاحب الشيء ليرد إليه ماسرق منه ، وهو في الغالب يساوي نصف الثمن ، وتبدأ المساواة بأن يذكر القعيدة الرقم الملطوب ، فيرد صاحب الشيء متظلما من قسوة الفرض ، وربما ادخل في هذا التظلم انه رجل فقير ، وان حاله تستدعي استعمال الرأفة .
وغالبا ما تؤثر المساومة ،فتنزل(1) الحلاوة قليلا .. فإذا أفلح كان بها .. وإذا لم يفلح انصرف وبعث " بواسطة " يساوم القعيدة ، فقد يستطيع ان " يهز " الحلاوة , أي ينقصها ، وتكون حجة القعيدة دائما ان الأمر ليس أمره ، إنما هو " واسطة خير " و يكون الرد دائما " لا يا أبا فلان ، إنما أنت الكل في الكل ونحن عارفون " إلى أمثال هذه العبارات التي تنتهي دائما بأداء الجعل ورد المسروق ، رده بكل تأكيد ، فالشرف - أي والله الشرف - يقضي بهذا في قانون اللصوص .
وإذا رد المسروق بعد أداء الحلاوة أو الحلوان ، فان قانون اللصوص يقضي ان يكون هذا الذي رد في حماية من السرقة كرة أخرى ، فالشرف يأبى سرقة الشيء الواحد مرتين ! وتارة تكون هذه الحماية قاصرة وتارة تكون شاملة .
فأما الأولى فمعناها الا يعود المنسر أو اللص إلى سرقة الشيء المردود .
واما الثانية فمعناها انه يحميه من كل سارق آخر ، ويعد الاعتداء عليه اعتداء على شرفه !
لم يكن حرحور وحده في القرية .. فاللصوصية في الريف حرفة معترف بها في اغلب الأحيان ! حرفة لها أصولها وتقاليدها بل لها قوانينها المعلومة للجميع .
ثم هي المجال المفتوح للشبان من كل طبقة - حتى أبناء الأثرياء اللذين لا يقال انهم يسرقون ليعيشوا - إنما هي فتوة يدعونها " فتوَنَة " يمارسها الشاب في أول صباه تصريفا للطاقة المختزنة في بدنه ، والتي لا يجد لها تصريفا الا في هذا النشاط الليلي المرذول .
فكثير من هؤلاء يلتحقون بمناسر اللصوص - أولا الليل . الفلاتية . الرّجالة - إذ تشوقه المغامرات التي يسمع عنها ، والتي لا يجد من الوسط استنكارا لها ، بل ربما وجد الإعجاب في موضع الاستنكار ( ولعل هذه بقية تقاليد الأعراب التي اندست في البيئة المصرية والتي تعد الفتك و السلب بطوله وشجاعة ).
وميزة هؤلاء الفتيان انهم لا يقاسمون في الكسب ، فما خرجوا ليسرقوا ، ولكن ليغامروا ، فإذا وقع للمنسر شيء ، فنصيبهم منه متروك للمنسر ، أو لمن منعه مانع قاهر من أفراده عن المشاركة ، كما لو كان سجينا ، أو مصابا في حادث سابق ، فان نصيبه يظل يؤدى لأهله الذين يعود لهم ، حتى يعود إلى مزاولة عمله الشريف .
ذلك أحد قوانين اللصوص .. ومنها ان " الرجال للرجال " وتفسير هذا النص لا يسطى على منزل لا رجال فيه ، أو فيه رجال ضعفاء عجزة .. واللص الذي يسطو عل بيت أرملة أو ضعيف ، هو اللص " النتن " الذي يحتقره رفاقه وأهل القرة جميعا بينما كبار اللصوص الذي يسطون على بيوت الأقوياء و الأثرياء محل احترام من الجميع ، فوق انهم موضع الرهبة من الجميع !
ومن قوانين اللصوص ، ان تقسم القرية اقساما ، كل قسم من اختصاص منسر أو فرد , فلا يجوز لمنسر آخر ان يعتدي على اختصاص زميله ، والا وقع الدم ردا للإهانة، ومحوا للعار الذي يتسامع به الجميع ، فلا يعود للمنسر أو اللص الكبير قيمة في البلد ولا في البلاد المجاورة .
وأحيانا يكون للص أو للمنسر إتاوة مفروضة على بعض الناس في نظير الحماية التامة من السرقات . فمن اعتدى من الآخرين على هذا الذي يتمتع بالحماية ، فقد اعتدى على هذه الحماية واصحابها ولا بد ان يرد المسروق بلا " حلاوة " أو يراق الدم صيانة للشرف الرفيع !
أما هذه الحلاوة فأمرها عجيب :
تقع السرقة في بيت أوحقل ، وتسرق المواشي أو عدد الآلات الارتوازية التي تروي الأرض في غير الفيضان .
وفي تسعين في المائة من هذه السرقات يكون لدى عمدة القرية خبر سابق بها ، شأنها شأن حوادث القتل الكثيرة ، ويكون له جعل معلوم في كل ما يسرق في نظير الحماية التي يبسطها على الفاعلين لو ابلغ الخبر الى بوليس المركز . وقلما يوجد الرجل الغر الذي يبلغ أمر السرقة إلى المركز . فيضيع عليه ما سرق منه إلى الأبد .
إنما الطريقة المتعارفة ان يصبح الصباح ، فإذا القرية كلها تعلم أن بيت فلان أو حقله قد سرق .. سرقة فلان من البلد أو من لصوص البلاد المجاورة ، وكلهم معروفون . ولكل منسر " قعيدة " ( أي رجل قاعد يتولى تصريف ما يسرقون دون ان يشترك معهم في المغامرة ، وله نصيب معلوم ) .. يذهب صاحب المسروق إلى هذا القعيدة فيسأله : الشيء عندك ؟ فان كان عند أجاب بالإيجاب آمنا مطمئنا . وان لم يكن عنده صارح صاحب الشيء بأنه عند فلان - قعيدة آخر - أو ان " الشيء فرط فرطه " أي هلك نهائيا ولا سبيل إليه بعد .. فكثيرا ما يخشى اللصوص ان يضبطوا فيذبحوا الماشية ويبيعوها لحما ، أو يبيعو المسروق لمنسر آخر في جهة بعيدة يتولى أمره ، إذا اتضح ان المجال ضيق لإخفائه قريبا ..
فأما إذا قال القعيدة ان " الشيء " عنده أو في دائرة اختصاصه فتبدأ المساومة على " الحلاوة " ، أي الجعل الذي يؤديه صاحب الشيء ليرد إليه ماسرق منه ، وهو في الغالب يساوي نصف الثمن ، وتبدأ المساواة بأن يذكر القعيدة الرقم الملطوب ، فيرد صاحب الشيء متظلما من قسوة الفرض ، وربما ادخل في هذا التظلم انه رجل فقير ، وان حاله تستدعي استعمال الرأفة .
وغالبا ما تؤثر المساومة ،فتنزل(1) الحلاوة قليلا .. فإذا أفلح كان بها .. وإذا لم يفلح انصرف وبعث " بواسطة " يساوم القعيدة ، فقد يستطيع ان " يهز " الحلاوة , أي ينقصها ، وتكون حجة القعيدة دائما ان الأمر ليس أمره ، إنما هو " واسطة خير " و يكون الرد دائما " لا يا أبا فلان ، إنما أنت الكل في الكل ونحن عارفون " إلى أمثال هذه العبارات التي تنتهي دائما بأداء الجعل ورد المسروق ، رده بكل تأكيد ، فالشرف - أي والله الشرف - يقضي بهذا في قانون اللصوص .
وإذا رد المسروق بعد أداء الحلاوة أو الحلوان ، فان قانون اللصوص يقضي ان يكون هذا الذي رد في حماية من السرقة كرة أخرى ، فالشرف يأبى سرقة الشيء الواحد مرتين ! وتارة تكون هذه الحماية قاصرة وتارة تكون شاملة .
فأما الأولى فمعناها الا يعود المنسر أو اللص إلى سرقة الشيء المردود .
واما الثانية فمعناها انه يحميه من كل سارق آخر ، ويعد الاعتداء عليه اعتداء على شرفه !
* * *
فأما إذا خطر لصاحب الشيء ان يسلك الطرق الأخرى القانونية ، فيبلغ العمدة وهذا بدوره لا بد ان يبلغ المركز - لأنه هو الآخر رجل شريف ! ،فقد انتهى الأمر ، وضاعت السريقة ، وتهيأ صاحبها لسرقة أخرى لا يقيه منها أحد .. اللهم الا ان يصادف يقظة من أحد أصحاب الدار ، أو ذمة خفير يتقي الله .. و هؤلاء قليلون !
* * *
و السطو على البيوت أو الحقول لا يقع دائما للسرقة ، بل قد يقع للانتقام . يهجم الشقي على البيت فيبقر بطون الماشية أو يمزق أحشائها " بسيخ " طويل ملوث بمادة سامة ، أو غير ملوث ، انتقاما من صاحبها لا ليسرقها . ويهجم لتحطيم آلات الساقية أو إحراقها أو إحراق الآلة الارتوازية أو الجرن ، أو الحضيرة على سبيل الانتقام .
وفي هذه الحالات لا مجال " للحلاوة " انما هو انتقام بانتقام .. وهذا هو الذي يقع غالبا ، فأما ان يرد الجميل إلى بيت اللص وحقله وماشيته ! - ومعظم اللصوص لهم حقول وماشية ولهم بيت طبعا في القرية - و اما ان يترصد له لقتله بوسائل شتى . وفي النادر القليل تبلغ الحادثة للمركز للتحقيق ، فتحضر " النيابة " للمعاينة ويحضر معها الطبيب الشرعي عندما يقتضي الأمر . وتهتز القرية اهتزازا لحضور الحكام .. ولكن قلما يؤدي هذا إلى شيء، لأن القرائن غالبا مفقودة ...
اما خوفا من الفاعلين ، واما بقاء عليهم ليتولى أصحاب الشأن تسوية حسابهم معهم على انفراد ، كي لا يكونوا اعجز من الثأر لأنفسهم ، فما يلجأ إلى الحكومة الا العجزة و الضعفاء .
ومثل هذا يقع في حوادث القتل للثأر .. تلك الحوادث التي تتكرر دائما ، وتظل نارها مؤرثة جيلا بعد جيل ، وقد يقتل الرجل وله طفل صغير واحد ، فما تزال أمه ، وما يزال الناس في القرية يقصون على مسامعه حديث أبيه القتيل ، حتى يتهيأ للثأر بمجرد ان يشتد ساعده ، وحينئذ فقط تقام للقتيل جنازة ، ويقبل أهله العزاء ، وإلا بقي الأهل معيرين في القرية . لا يرتفع لهم رأس قبل الأخذ بالثأر .
ويصادف غالبا الا تقع جرائم القتل في القرية ، الا و العمدة غائب عنها قبيل وقوع الحادث بأيام .
ويؤول الناس هذه المصادفات ، بأن في الأمر سرا معلوما .. ففي كل مرة يكون العمدة غير مسؤول عن الجريمة ، ولا عن جمع القرائن و الشهادات ، لأنه لم يكن حاضرها من قبل ومن بعد بأيام !
فأما إذا خطر لصاحب الشيء ان يسلك الطرق الأخرى القانونية ، فيبلغ العمدة وهذا بدوره لا بد ان يبلغ المركز - لأنه هو الآخر رجل شريف ! ،فقد انتهى الأمر ، وضاعت السريقة ، وتهيأ صاحبها لسرقة أخرى لا يقيه منها أحد .. اللهم الا ان يصادف يقظة من أحد أصحاب الدار ، أو ذمة خفير يتقي الله .. و هؤلاء قليلون !
* * *
و السطو على البيوت أو الحقول لا يقع دائما للسرقة ، بل قد يقع للانتقام . يهجم الشقي على البيت فيبقر بطون الماشية أو يمزق أحشائها " بسيخ " طويل ملوث بمادة سامة ، أو غير ملوث ، انتقاما من صاحبها لا ليسرقها . ويهجم لتحطيم آلات الساقية أو إحراقها أو إحراق الآلة الارتوازية أو الجرن ، أو الحضيرة على سبيل الانتقام .
وفي هذه الحالات لا مجال " للحلاوة " انما هو انتقام بانتقام .. وهذا هو الذي يقع غالبا ، فأما ان يرد الجميل إلى بيت اللص وحقله وماشيته ! - ومعظم اللصوص لهم حقول وماشية ولهم بيت طبعا في القرية - و اما ان يترصد له لقتله بوسائل شتى . وفي النادر القليل تبلغ الحادثة للمركز للتحقيق ، فتحضر " النيابة " للمعاينة ويحضر معها الطبيب الشرعي عندما يقتضي الأمر . وتهتز القرية اهتزازا لحضور الحكام .. ولكن قلما يؤدي هذا إلى شيء، لأن القرائن غالبا مفقودة ...
اما خوفا من الفاعلين ، واما بقاء عليهم ليتولى أصحاب الشأن تسوية حسابهم معهم على انفراد ، كي لا يكونوا اعجز من الثأر لأنفسهم ، فما يلجأ إلى الحكومة الا العجزة و الضعفاء .
ومثل هذا يقع في حوادث القتل للثأر .. تلك الحوادث التي تتكرر دائما ، وتظل نارها مؤرثة جيلا بعد جيل ، وقد يقتل الرجل وله طفل صغير واحد ، فما تزال أمه ، وما يزال الناس في القرية يقصون على مسامعه حديث أبيه القتيل ، حتى يتهيأ للثأر بمجرد ان يشتد ساعده ، وحينئذ فقط تقام للقتيل جنازة ، ويقبل أهله العزاء ، وإلا بقي الأهل معيرين في القرية . لا يرتفع لهم رأس قبل الأخذ بالثأر .
ويصادف غالبا الا تقع جرائم القتل في القرية ، الا و العمدة غائب عنها قبيل وقوع الحادث بأيام .
ويؤول الناس هذه المصادفات ، بأن في الأمر سرا معلوما .. ففي كل مرة يكون العمدة غير مسؤول عن الجريمة ، ولا عن جمع القرائن و الشهادات ، لأنه لم يكن حاضرها من قبل ومن بعد بأيام !
* * *
حادثتان من الحوادث الرهيبة لا يزالان محفورين في ذاكرة الصبي وخياله :
فأما أولهما ، فذلك يوم استيقظت عمته و زوجها وأبناؤها ، فإذا بهائمهم جميعا اما مبقورة البطون واما ممزقة الأحشاء واما مسمومة بمادة كاوية دست في الأمعاء ..
في هذه الحادثة كانت تتجلى القسوة المقيتة ، فهذه العجماوات كان يراها تتلوى من الألم القاتل ، ولا ذنب لها الا ان شقيا لئيما أراد أن ينتقم من أصحابها بهذا الإنتقام الخسيس !
وحضرت النيابة وطبيب بيطري فيما يذكر ، حاول ان ينقذ هذه الحيوانات البائسة بكل ما يستطيع ، فاخفق الا في عجلة بقر صغيرة غسل لها أمعاءها من السم فعاشت ، بينما نفق سائر الحيوان بعد صيحات من الألم والتلوي كانت تسيل الدموع من أعين الآدميين .
وفي هذه المرة لم يكن " الحكيم " مصدر رعب و فزع ، انما أحس الناس انه رسول رحمة حتى للحيوان !
اما الحادث الثاني فلم يشهده ، ولكنه سمع قصته تروى عشرات المرات .. كان حديث القرية كلها نساء و رجالا و اطفالا . وكان بدنه يقشعر منه .
ولكنه يستعيد القصة مرة و مرة وخياله يتابع مناظرها في فزع مرغوب !
ذلك حادث ثلاثة من الشبان كان أحدهما قد تزوج ابنة عمه ، ثم أراد هذا العم ان يطلقها منه فأبى ، فرفع عليه دعوى في المحكمة الشرعية من تلك الدعاوي الكيدية ..
و في يوم من أيام الجلسات كان هذا الشاب ذاهبا إلى المحكمة - في البندر - ومعه شقيقاه , وبين القرية و البندر تنبسط الحقول الخضراء ، و يصبح الطريق الضيق الذي يقطعه السالكون على ظهور الدواب خطا دقيقا بين النباتات العالية ، لا تبين السائر فيه الا من بعد قليل .
بكر الأخوة الثلاثة لأنهم كانوا فقراء لا دواب لهم ، فهم يقطعون الطريق على أقدامهم من القرية إلى المدينة ، ويبلغ طوله نحو عشرة كيلومترات ، فلابد لهم من التبكير قبل راكبي الدواب للوصول في الميعاد .. وهذا الميعاد هو مطلع الشمس ، حيث يذهبون إلى المحكمة، ولما تفتح أبوابها بعد ، فيجلسون أمامها إلى ان يؤذن لهم بالدخول ، وذلك كله رهبة من المحكمة .. فالأسلم ان يكونوا هناك قبل موعد الجلسة بساعات !
وعرف العم الفاجر هذا فبكر قبلهم ومعه اثنان من الأشقياء استأجرهما لهذا الغرض مسلحين ، فكمنوا للأشقاء الثلاثة في مكان منقطع من الطريق ، وهم في مأمن من المارة الراكبين الذين يصلون متأخرين .
وعند مرور الاخوة بادر الشقيان فأغمدا خناجرهما في بطني اثنين منهما فخرا صريعين ، وتنبه الثالث ففر ، والثلاثة يتبعونه ، وهو يصيح مذعورا فلا يلبه أحد في الحقول النائمة ، حتى أمسكوا به اخيرا و دخلوا به حقل الفول النامي و هو يقارب قامة الرجل ، وهناك جروا الأخوين الجريحين بعيدا عن طريق المارة فقضوا عليهما القضاء الأخير ، و الأخ الثالث ينظر ولا يستطيع الصياح .
ثم جاء دوره . فإذا هو يستعطف عمه الوحش بما يلين الحديد ، يقول له :
لم تقتلني يا عمي ؟ ما ذنبي الذي صنعته معك ؟ اما يكفي أخي و أخي ؟ لقد قتلت غريمك فأطلقني ، ان أمي وحيدة وأنا عائلها بعد أخويّ هي و الطفل الصغير الذي خلفه أخوك ، اعتقني لوجه الله ، ولك علي الصمت عن كل ما حدث .
اقسم لك !
ولكن العم الفاتك لم يسمع لهذا كله ، وخاف ان هو أطلقه ان ينم عليه وعلى شريكيه ..
وقيل : ان هذا التوسل ظل ينبعث من الشقيق الثالث نصف ساعة والعم لا يلين .. ثم .. أجهز الشقيان على الثالث المسكين ..
فعل المجرمون فعلتهم وانصرفوا .. وبقيت الجثث الثلا لا يدري عنها احد شيئا ، حتى انقضى اليوم كله ولم يعد الأخوة إلى أمهم المنتظرة ، واصبح الصباح وأمسى المساء يوما ثانيا وهي تنتظر على أحر من الجمر .. وفي اليوم الثالث انبعثت الرائحة وشاعت الاشاعات , وظلت تنتقل وتنتقل , حتى تصل إلى العم الشقي فتهبط على وجهه المقيت ..
ولم تغفل عين الله عن المجرمين ، فاهتدى إليهم التحقيق .. وقيل ان وكيل النيابة المحقق كان ينسى مهمته في بعض الأحيان فتأخذه الحمية ، حتى لتمنى لو ان الأخ الرابع هو صبي قد انتهز الفرصة أمام المحقق فهجم على العم المتوحش فأرداه ، ليثبت في تحقيقه انه ارتكب ما ارتكب في حالة جنونية ، لأن جثث أخوته الثلاثة مبقورة البطون ! ممزقة الأحشاء و أمامه المجرم يذكره بالجريمة الشنعاء !
ولكن الوليد كان اعجز من هذه المحاولة ، ولعل خيال القرية هو الذي صور لها وكيل النيابة في هذه الصورة ، بل لعل وكيل النيابة كان كما هو صورة خيال القرية إزاء الجريمة الوحشية الفظيعة ، فلقد ظل هو كلما سمع القصة يتمنى هذه الأمنية . يتمنى لو شحذ الصبي الرابع مديته فبقر بها بطن العم المتوحش ..
ومع انه كان يعلم ان ذلك لم يقع ولن يقع أبدا ، فان خياله كان يتم القصة دائما بهذه الخاتمة المتمناة !.
حادثتان من الحوادث الرهيبة لا يزالان محفورين في ذاكرة الصبي وخياله :
فأما أولهما ، فذلك يوم استيقظت عمته و زوجها وأبناؤها ، فإذا بهائمهم جميعا اما مبقورة البطون واما ممزقة الأحشاء واما مسمومة بمادة كاوية دست في الأمعاء ..
في هذه الحادثة كانت تتجلى القسوة المقيتة ، فهذه العجماوات كان يراها تتلوى من الألم القاتل ، ولا ذنب لها الا ان شقيا لئيما أراد أن ينتقم من أصحابها بهذا الإنتقام الخسيس !
وحضرت النيابة وطبيب بيطري فيما يذكر ، حاول ان ينقذ هذه الحيوانات البائسة بكل ما يستطيع ، فاخفق الا في عجلة بقر صغيرة غسل لها أمعاءها من السم فعاشت ، بينما نفق سائر الحيوان بعد صيحات من الألم والتلوي كانت تسيل الدموع من أعين الآدميين .
وفي هذه المرة لم يكن " الحكيم " مصدر رعب و فزع ، انما أحس الناس انه رسول رحمة حتى للحيوان !
اما الحادث الثاني فلم يشهده ، ولكنه سمع قصته تروى عشرات المرات .. كان حديث القرية كلها نساء و رجالا و اطفالا . وكان بدنه يقشعر منه .
ولكنه يستعيد القصة مرة و مرة وخياله يتابع مناظرها في فزع مرغوب !
ذلك حادث ثلاثة من الشبان كان أحدهما قد تزوج ابنة عمه ، ثم أراد هذا العم ان يطلقها منه فأبى ، فرفع عليه دعوى في المحكمة الشرعية من تلك الدعاوي الكيدية ..
و في يوم من أيام الجلسات كان هذا الشاب ذاهبا إلى المحكمة - في البندر - ومعه شقيقاه , وبين القرية و البندر تنبسط الحقول الخضراء ، و يصبح الطريق الضيق الذي يقطعه السالكون على ظهور الدواب خطا دقيقا بين النباتات العالية ، لا تبين السائر فيه الا من بعد قليل .
بكر الأخوة الثلاثة لأنهم كانوا فقراء لا دواب لهم ، فهم يقطعون الطريق على أقدامهم من القرية إلى المدينة ، ويبلغ طوله نحو عشرة كيلومترات ، فلابد لهم من التبكير قبل راكبي الدواب للوصول في الميعاد .. وهذا الميعاد هو مطلع الشمس ، حيث يذهبون إلى المحكمة، ولما تفتح أبوابها بعد ، فيجلسون أمامها إلى ان يؤذن لهم بالدخول ، وذلك كله رهبة من المحكمة .. فالأسلم ان يكونوا هناك قبل موعد الجلسة بساعات !
وعرف العم الفاجر هذا فبكر قبلهم ومعه اثنان من الأشقياء استأجرهما لهذا الغرض مسلحين ، فكمنوا للأشقاء الثلاثة في مكان منقطع من الطريق ، وهم في مأمن من المارة الراكبين الذين يصلون متأخرين .
وعند مرور الاخوة بادر الشقيان فأغمدا خناجرهما في بطني اثنين منهما فخرا صريعين ، وتنبه الثالث ففر ، والثلاثة يتبعونه ، وهو يصيح مذعورا فلا يلبه أحد في الحقول النائمة ، حتى أمسكوا به اخيرا و دخلوا به حقل الفول النامي و هو يقارب قامة الرجل ، وهناك جروا الأخوين الجريحين بعيدا عن طريق المارة فقضوا عليهما القضاء الأخير ، و الأخ الثالث ينظر ولا يستطيع الصياح .
ثم جاء دوره . فإذا هو يستعطف عمه الوحش بما يلين الحديد ، يقول له :
لم تقتلني يا عمي ؟ ما ذنبي الذي صنعته معك ؟ اما يكفي أخي و أخي ؟ لقد قتلت غريمك فأطلقني ، ان أمي وحيدة وأنا عائلها بعد أخويّ هي و الطفل الصغير الذي خلفه أخوك ، اعتقني لوجه الله ، ولك علي الصمت عن كل ما حدث .
اقسم لك !
ولكن العم الفاتك لم يسمع لهذا كله ، وخاف ان هو أطلقه ان ينم عليه وعلى شريكيه ..
وقيل : ان هذا التوسل ظل ينبعث من الشقيق الثالث نصف ساعة والعم لا يلين .. ثم .. أجهز الشقيان على الثالث المسكين ..
فعل المجرمون فعلتهم وانصرفوا .. وبقيت الجثث الثلا لا يدري عنها احد شيئا ، حتى انقضى اليوم كله ولم يعد الأخوة إلى أمهم المنتظرة ، واصبح الصباح وأمسى المساء يوما ثانيا وهي تنتظر على أحر من الجمر .. وفي اليوم الثالث انبعثت الرائحة وشاعت الاشاعات , وظلت تنتقل وتنتقل , حتى تصل إلى العم الشقي فتهبط على وجهه المقيت ..
ولم تغفل عين الله عن المجرمين ، فاهتدى إليهم التحقيق .. وقيل ان وكيل النيابة المحقق كان ينسى مهمته في بعض الأحيان فتأخذه الحمية ، حتى لتمنى لو ان الأخ الرابع هو صبي قد انتهز الفرصة أمام المحقق فهجم على العم المتوحش فأرداه ، ليثبت في تحقيقه انه ارتكب ما ارتكب في حالة جنونية ، لأن جثث أخوته الثلاثة مبقورة البطون ! ممزقة الأحشاء و أمامه المجرم يذكره بالجريمة الشنعاء !
ولكن الوليد كان اعجز من هذه المحاولة ، ولعل خيال القرية هو الذي صور لها وكيل النيابة في هذه الصورة ، بل لعل وكيل النيابة كان كما هو صورة خيال القرية إزاء الجريمة الوحشية الفظيعة ، فلقد ظل هو كلما سمع القصة يتمنى هذه الأمنية . يتمنى لو شحذ الصبي الرابع مديته فبقر بها بطن العم المتوحش ..
ومع انه كان يعلم ان ذلك لم يقع ولن يقع أبدا ، فان خياله كان يتم القصة دائما بهذه الخاتمة المتمناة !.
[ جمع الأسلحة ]
صحت القرية مروعة على صهيل الخيل ، وقعقعة السلاح ، وخطوات الجند الثقيلة ، يأخذون مشارفها جميعا إلى الحقول ، ويجوسون خلالها في جلبة و ضوضاء على غير عادة لها من زيارة الجند في مثل هذا العديد وذلك الضجيج .
وكان أول من كشف الخبر أولئك الذين تقتضيهم أعمالهم ان ينهضوا مع الفجر مبكرين ليغادروا القرية جميعا ،فأوثقوهم بالحبال و السلاسل ، وجعلوهم عندهم رهينة حتى لا يعودوا فينبئوا القرية النبأ ، ويفسدوا التدبير الذي وضعته القوة الهاجمة على الناس وهم نيام .
ونفذت الخطة نفسها مع خفراء المشارف ، فأديرت أيديهم إلى ظهورهم ، وكممت أفواههم بحيث لا يستطيعون الكلام ولا الصياح ، ثم اقتيد الجميع في عجلة إلى دوارالعمدة الذي أتوقظ في البكور ، و حجز في غرفة من غرف دواره ، ريثما يجتمع اليه مشايخ القرية الخمسة الذين جاء بهم العسكر من بيوتهم ، فصنع بهم هناك ما صنع بالخفراء ..
وكانت القرية كلها قد استيقظت مروّعة ، لأن صهيل الخيل وقعقعة السلاح ، والهمسات الوجلة التي أخذت تتدسس إلى كل بيت و درب ، قد فزعت الناس ، وملأت قلوبهم رعبا . ماذا ؟ ماذا ؟
انها حملة لجمع السلاح ! حملة من مائتي جندي يقودها ضابط تعهد للسلطات بجمع السلاح من قرى المديرية جميعا ، واختار هذه الطريقة المروعة ليبدأ بها عمله ، فلم تعلم القرية ماذا يبغي ، ولا حتى العمدة و المشايخ ، الا بعد ان صار المقبوض عليهم بالعشرات ومن بينهم مشايخ البلد الخمسة ، وكلهم مكتوفوا الأيدي بالحبال ، تتلقاهم الأيدي بالصفع ، و الأرجل بالركل ، دون ان يعلموا شيئا عن حقيقة ما يراد بهم .. سوى ان الحكومة هنا ، والحكومة تصنع هذا و سواه .. فالذين عاصروا الحكم التركي لا يزال بعضهم يعيش .
* * *
كانت السلطات قد أصدرت أمرا عسكريا بجمع السلاح ، وعهدت في تنفيذه إلى رجال الإدارة ، وهؤلاء عهدوا بتنفيذه إلى عمد البلاد كالمعتاد ،فاجتمع بذلك عدد من قطع الأسلحة كالذي يجتمع كلما صدر أمر من هذا النوع ، وهو عادة لا يساوي الا نسبة صغيرة من الموجود في أيدي القرويين .
ولكي ندرك حقيقة الحالة يجب ان نعلم ان السلاح في القرية يملكه فريقان : الفريق الأول هم أصحاب الحقول و المواشي و خفراؤهم الخصوصيون الذين يسهرون على اموالهم من اللصوص ، و الفريق الثاني هم هؤلاء اللصوص الكثيرون الذي يجدون هذه الحرفة - على ما فيها من مخاطر - اضمن للعيش من العمل المرهق في الحقول .
ونقص السلاح في ايدي اصحاب الحقول و المواشي ومعناه زيادة في ارتكاب الجرائم ، والاعتداء على بيوتهم وحقولهم و مواشيهم ، اما نقص السلاح في أيدي اللصوص فمعناه تجريدهم من بعض وسائل الرزق التي اختاروها لأنفسهم في الحياة !
كلا الفريقين إذن حريص على اقتناء السلاح . ولما كان العمدة يخشى أفراد الفريق الثاني تارة ، وتتفق مصلحته الخاصة مع وجودهم تارة ، فان جمع السلاح في كل مرة كان ينصب على الفريق الأول بكل تأكيد .
ولكن الأمور لا تجري في القرية بالعنف ، ولا حسب الأوامر الرسمية ، إنما تجري حسب المواضعات العرفية ، فالعمدة يعلم بالضبط كم قطعة من السلاح في كل بيت ، وما نوع كل قطعة ، فإذا طلبت الحكومة جمع السلاح ، اتفق مع بعض من يملكونه على تقديم القطع القديمة منه ، ولكي لا تكون المسألة مكشوفة ، فان بعض القطع الحديثة تزين المقدار المجموع ، و يورد للسلطات كآخر ما استطاع العمدة ان يحصل عليه .
و طبيعي ان هذا كله لا يتم بالمجان ، فلكل شيء ثمن ، ولكل خدمة مقابل في الريف ، فإذا خطر للسلطات ان ترسل بقوة وعلى رأسها ضابط لتولي هذا العمل ، فالمرجع هو العمدة ، وبإشارته يتم كل شيء . وغداء فخم على " اوزي " وبعض أزواج من الديكة ، والدجاج والحمام , كفيل مع الوسائل الأخرى بتسوية كل شيء و اتمام المحاضر على خير ما يرام !
اما هذه الطريقة المبتكرة ، فقد تفتقت عنها عبقرية ذلك الضابط ، الذي تعهد للسطات بجمع السلاح جمعا حقيقيا من جميع قرى المديرية ، فاتخذ هذا الأسلوب البارع المفاجئ ، الذي روعت له القرية كلها في جنح الظلام .
ونعود إلى هؤلاء المشايخ الخمسة الذين أديرت أيديهم إلى ظهورهم ، ألصقت وجوههم بالحائط ، دون ان يعلموا شيئا مما يطلب إليهم من مهام الحكومة التي اعتادوا ان يتلقوها بين الحين و الحين ، كجمع أنفار السخرة لإصلاح الجسور ، ولتنقية الدودة من المزارع الكبيرة ، أو قتل الجراد فيها ، دون ان ينالوا على ذلك أجرا ، لأن أجورهم - ان حسبت لهم أجور - تذهب إلى جيوب أخرى ، وتؤخذ بصماتهم على أوراق لا يدرون ماهي ، ثم ينصرفون وبحسبهم انهم قد انصرفوا ناجين ، بعد ان يكونوا قد كلفوا استحضار طعامهم معهم من بيوتهم طوال مدة السخرة التي تنقص او تزيد !
لم يفصح لهم أحد عن هذه المهمة المطلوبة منهم في هذه المرة ، و لكن أفصحت لهم السياط التي أخذت تلهب ظهورهم من ايدي الجنود ، عن ان اليوم ليس كالأيام ، وانما هو العذاب الأليم ، الذي لا يملكون له ردا وهم مسجونون !
ثم أخذ الرصاص يدوي فوق رؤوسهم هم و الخفراء الموثقون ، و الأهالي الذين اصطيدوا من مشارف القرية ومن طرقاتها حسبما اتفق حتى امتلأ بهم فناء الدوار !
هذا الرصاص للإرهاب ، وبلبلة الأفكار ، واتلاف الأعصاب .. وبينما هذا الفزع الأكبر يخيم عليهم ، ويكاد يفقدهم صوابهم ، امر كل من المشايخ ان يملي على " الشاويشية " أسماء مائتي رأس أسرة ، ممن يملكون سلاحا في البلدة ، وان يعين نوع قطع السلاح التي يملكونها !
وإذا كان قد بقي فيهم إلى الآن عقل أو ذاكرة ، فقد أخذ كل منهم يملي الأسماء . وكلما توقف برهة ليتذكر نزلت السياط على ظهره وجنبيه ، فارتفعت حرارة العد ، ومضى كالمجنون يملي الأسماء !
وانتهت العملية فإذا في يد كل جاويش بيان عن مائتي عائلة تحمل سلاحا ، وأمام كل اسم نوع القطع التي ملكها رأس هذه العائلة .
ولسنا في حاجة إلى ان نقول : كيف كانت هذه البيانات ، ولا مدى مطابقتها للواقع ، فالشيخ المصلوب المجلود المهدد بالموت من الرصاص المتطاير فوق رأسه ، لا يطلب إليه في هذه الحالة ان يتحرى شيئا .. ولكننا نستطيع ان نؤكد ان أحدا من كبار الأشقياء المرهوبين لم يرد اسمه في هذه القائمة ، وإذا كانت بعض الأسماء قد وردت فانما هي لصغار الأشقياء الذين لا عصبية لهم في البلد ولا نفوذ !
وانتهت هذه المرحلة ، ووقف المشايخ الخمسة يلهثون من التعب و الفزع و الألم .. اما العمدة فقد اشترى نفسه وكرامته من أول الأمر ، لقد كان حصيفا .. رأى العين الحمراء ، فسارع إلى وسيلة مضمونة لإرضاء الحكام ، هدته إليها تجربة طويلة ، وذكاء عملي ، ومقدرة على جميع الوسائل والاتجاهات ! ثم بدأت المرحلة الثانية ، فانطلق الخفراء مع الجنود و هم مكتوفو الأيدي ، يجوسون معهم خلال القرية ليدلوهم على البيوت وليدقوا الأبواب يطلبون رؤوس العائلات ـ ويصروا على استحضار أكبرهم سنا ، وكلما استحضروا منهم جماعة ذهبوا بهم إلى الدوار ..
وهناك يصنع بهؤلاء ما صنع من قبل بالمشايخ و الخفراء قبل ان يسألوا شيئا وقبل ان يجيبوا ، حتى إذا اشبعوا ضربا و ترويعا وإهانة صرح لهم عما يطلب منهم من قطع السلاح حسب البيانات . فاما إذا صادف ان كانت القطع المطلوبة من أحدهم مطابقة لما عنده ، فقد أحس بالفرج وبادر بالإقرار ، وطلب ان يسمح له بإحضارها .. ولكنه لم يكن يجاب إلى طلبه ، انما يستدعى أحد أبنائه أو أحد افراد عائلته ، فيشاهده هكذا ، ثم يلقى هو الآخر بعض الصفعات و اللكمات ، ثم يتلقى الأمر منه ان يستحضر قطع السلاح المطلوبة ، فيخرج ركضا لاستحضارها ، حتى إذا تمت معاينتها وظهرت
مطابقاتها للبيانات المكتوبة ، افرج عن الرجل وابنه أو قريبه ، فخرجا لا يدريان النور من الظلام لشدة مالقيا من اللكم و الصفع ، ومن الفزع و الروع ، وانصرف أهله لعلاج جروحه و كدماته ، بالزيوت و المسكنات !
واما إذا صادف ان اختلفت البيانات عما عنده من السلاح ، او لم يكن لديهم سلاح أصلا ، فالويل له والثبور .. يعاد جلده ولكمه و صفعه مادام ينكر ، أو يقر بسلاح آخر غير السلاح المطلوب . و في الحالة الأخيرة كان يحضر السلاح الذي يملكه ، ثم يظل يطالب بقطع السلاح الأخرى التي أملاها الشيخ ، وهو في ذهول الروع وا لآلام !
عندئذ يضطر المسكين ان يعترف بما ليس عنده ، وان يطلب مهلة لإحضاره من مكمنه البعيد .. وفي هذه المهلة ينطلق أبناؤه وأقاربه يبحثون عن قطعة سلاح مطابقة للبيانات ، لشرائها حيث تكون ، فان لم جدوها في القرية ركبوا أسرع دوابهم للبحث عنها في القرى المجاورة ، فيسمح لهم الحراس بالخروج بحجة انهم ذاهبون لاستحضار سلاحهم المودع عند أقاربهم في هذه البلاد ، اطمئنانا إلى ان رأس الأسرة رهين لدى القوة ، وعذابه مرهون بالوقت الذي يقضونه غائبين .
وعندما يوفقون إلى القطعة المطلوبة ، يؤدون الثمن الذي يطلبه صاحبها مهما ارتفع . وكثيرون انتهزوا هذه الفرصة فبالغوا في اثمان القطع المطلوبة ، كما ان الكثيرين ايضا ظهرت أريحيتهم في إنقاذ المكروبين بأرخص الأسعار .
عندئذ يبتسم الضابط العبقري وهو يشاهد قطع السلاح المطلوبة تحضر بعد الإنكار ، ويرد ذلك إلى عبقريته الفذة التي أرشدته إلى اختيار أقوم طريق !
صحت القرية مروعة على صهيل الخيل ، وقعقعة السلاح ، وخطوات الجند الثقيلة ، يأخذون مشارفها جميعا إلى الحقول ، ويجوسون خلالها في جلبة و ضوضاء على غير عادة لها من زيارة الجند في مثل هذا العديد وذلك الضجيج .
وكان أول من كشف الخبر أولئك الذين تقتضيهم أعمالهم ان ينهضوا مع الفجر مبكرين ليغادروا القرية جميعا ،فأوثقوهم بالحبال و السلاسل ، وجعلوهم عندهم رهينة حتى لا يعودوا فينبئوا القرية النبأ ، ويفسدوا التدبير الذي وضعته القوة الهاجمة على الناس وهم نيام .
ونفذت الخطة نفسها مع خفراء المشارف ، فأديرت أيديهم إلى ظهورهم ، وكممت أفواههم بحيث لا يستطيعون الكلام ولا الصياح ، ثم اقتيد الجميع في عجلة إلى دوارالعمدة الذي أتوقظ في البكور ، و حجز في غرفة من غرف دواره ، ريثما يجتمع اليه مشايخ القرية الخمسة الذين جاء بهم العسكر من بيوتهم ، فصنع بهم هناك ما صنع بالخفراء ..
وكانت القرية كلها قد استيقظت مروّعة ، لأن صهيل الخيل وقعقعة السلاح ، والهمسات الوجلة التي أخذت تتدسس إلى كل بيت و درب ، قد فزعت الناس ، وملأت قلوبهم رعبا . ماذا ؟ ماذا ؟
انها حملة لجمع السلاح ! حملة من مائتي جندي يقودها ضابط تعهد للسلطات بجمع السلاح من قرى المديرية جميعا ، واختار هذه الطريقة المروعة ليبدأ بها عمله ، فلم تعلم القرية ماذا يبغي ، ولا حتى العمدة و المشايخ ، الا بعد ان صار المقبوض عليهم بالعشرات ومن بينهم مشايخ البلد الخمسة ، وكلهم مكتوفوا الأيدي بالحبال ، تتلقاهم الأيدي بالصفع ، و الأرجل بالركل ، دون ان يعلموا شيئا عن حقيقة ما يراد بهم .. سوى ان الحكومة هنا ، والحكومة تصنع هذا و سواه .. فالذين عاصروا الحكم التركي لا يزال بعضهم يعيش .
* * *
كانت السلطات قد أصدرت أمرا عسكريا بجمع السلاح ، وعهدت في تنفيذه إلى رجال الإدارة ، وهؤلاء عهدوا بتنفيذه إلى عمد البلاد كالمعتاد ،فاجتمع بذلك عدد من قطع الأسلحة كالذي يجتمع كلما صدر أمر من هذا النوع ، وهو عادة لا يساوي الا نسبة صغيرة من الموجود في أيدي القرويين .
ولكي ندرك حقيقة الحالة يجب ان نعلم ان السلاح في القرية يملكه فريقان : الفريق الأول هم أصحاب الحقول و المواشي و خفراؤهم الخصوصيون الذين يسهرون على اموالهم من اللصوص ، و الفريق الثاني هم هؤلاء اللصوص الكثيرون الذي يجدون هذه الحرفة - على ما فيها من مخاطر - اضمن للعيش من العمل المرهق في الحقول .
ونقص السلاح في ايدي اصحاب الحقول و المواشي ومعناه زيادة في ارتكاب الجرائم ، والاعتداء على بيوتهم وحقولهم و مواشيهم ، اما نقص السلاح في أيدي اللصوص فمعناه تجريدهم من بعض وسائل الرزق التي اختاروها لأنفسهم في الحياة !
كلا الفريقين إذن حريص على اقتناء السلاح . ولما كان العمدة يخشى أفراد الفريق الثاني تارة ، وتتفق مصلحته الخاصة مع وجودهم تارة ، فان جمع السلاح في كل مرة كان ينصب على الفريق الأول بكل تأكيد .
ولكن الأمور لا تجري في القرية بالعنف ، ولا حسب الأوامر الرسمية ، إنما تجري حسب المواضعات العرفية ، فالعمدة يعلم بالضبط كم قطعة من السلاح في كل بيت ، وما نوع كل قطعة ، فإذا طلبت الحكومة جمع السلاح ، اتفق مع بعض من يملكونه على تقديم القطع القديمة منه ، ولكي لا تكون المسألة مكشوفة ، فان بعض القطع الحديثة تزين المقدار المجموع ، و يورد للسلطات كآخر ما استطاع العمدة ان يحصل عليه .
و طبيعي ان هذا كله لا يتم بالمجان ، فلكل شيء ثمن ، ولكل خدمة مقابل في الريف ، فإذا خطر للسلطات ان ترسل بقوة وعلى رأسها ضابط لتولي هذا العمل ، فالمرجع هو العمدة ، وبإشارته يتم كل شيء . وغداء فخم على " اوزي " وبعض أزواج من الديكة ، والدجاج والحمام , كفيل مع الوسائل الأخرى بتسوية كل شيء و اتمام المحاضر على خير ما يرام !
اما هذه الطريقة المبتكرة ، فقد تفتقت عنها عبقرية ذلك الضابط ، الذي تعهد للسطات بجمع السلاح جمعا حقيقيا من جميع قرى المديرية ، فاتخذ هذا الأسلوب البارع المفاجئ ، الذي روعت له القرية كلها في جنح الظلام .
ونعود إلى هؤلاء المشايخ الخمسة الذين أديرت أيديهم إلى ظهورهم ، ألصقت وجوههم بالحائط ، دون ان يعلموا شيئا مما يطلب إليهم من مهام الحكومة التي اعتادوا ان يتلقوها بين الحين و الحين ، كجمع أنفار السخرة لإصلاح الجسور ، ولتنقية الدودة من المزارع الكبيرة ، أو قتل الجراد فيها ، دون ان ينالوا على ذلك أجرا ، لأن أجورهم - ان حسبت لهم أجور - تذهب إلى جيوب أخرى ، وتؤخذ بصماتهم على أوراق لا يدرون ماهي ، ثم ينصرفون وبحسبهم انهم قد انصرفوا ناجين ، بعد ان يكونوا قد كلفوا استحضار طعامهم معهم من بيوتهم طوال مدة السخرة التي تنقص او تزيد !
لم يفصح لهم أحد عن هذه المهمة المطلوبة منهم في هذه المرة ، و لكن أفصحت لهم السياط التي أخذت تلهب ظهورهم من ايدي الجنود ، عن ان اليوم ليس كالأيام ، وانما هو العذاب الأليم ، الذي لا يملكون له ردا وهم مسجونون !
ثم أخذ الرصاص يدوي فوق رؤوسهم هم و الخفراء الموثقون ، و الأهالي الذين اصطيدوا من مشارف القرية ومن طرقاتها حسبما اتفق حتى امتلأ بهم فناء الدوار !
هذا الرصاص للإرهاب ، وبلبلة الأفكار ، واتلاف الأعصاب .. وبينما هذا الفزع الأكبر يخيم عليهم ، ويكاد يفقدهم صوابهم ، امر كل من المشايخ ان يملي على " الشاويشية " أسماء مائتي رأس أسرة ، ممن يملكون سلاحا في البلدة ، وان يعين نوع قطع السلاح التي يملكونها !
وإذا كان قد بقي فيهم إلى الآن عقل أو ذاكرة ، فقد أخذ كل منهم يملي الأسماء . وكلما توقف برهة ليتذكر نزلت السياط على ظهره وجنبيه ، فارتفعت حرارة العد ، ومضى كالمجنون يملي الأسماء !
وانتهت العملية فإذا في يد كل جاويش بيان عن مائتي عائلة تحمل سلاحا ، وأمام كل اسم نوع القطع التي ملكها رأس هذه العائلة .
ولسنا في حاجة إلى ان نقول : كيف كانت هذه البيانات ، ولا مدى مطابقتها للواقع ، فالشيخ المصلوب المجلود المهدد بالموت من الرصاص المتطاير فوق رأسه ، لا يطلب إليه في هذه الحالة ان يتحرى شيئا .. ولكننا نستطيع ان نؤكد ان أحدا من كبار الأشقياء المرهوبين لم يرد اسمه في هذه القائمة ، وإذا كانت بعض الأسماء قد وردت فانما هي لصغار الأشقياء الذين لا عصبية لهم في البلد ولا نفوذ !
وانتهت هذه المرحلة ، ووقف المشايخ الخمسة يلهثون من التعب و الفزع و الألم .. اما العمدة فقد اشترى نفسه وكرامته من أول الأمر ، لقد كان حصيفا .. رأى العين الحمراء ، فسارع إلى وسيلة مضمونة لإرضاء الحكام ، هدته إليها تجربة طويلة ، وذكاء عملي ، ومقدرة على جميع الوسائل والاتجاهات ! ثم بدأت المرحلة الثانية ، فانطلق الخفراء مع الجنود و هم مكتوفو الأيدي ، يجوسون معهم خلال القرية ليدلوهم على البيوت وليدقوا الأبواب يطلبون رؤوس العائلات ـ ويصروا على استحضار أكبرهم سنا ، وكلما استحضروا منهم جماعة ذهبوا بهم إلى الدوار ..
وهناك يصنع بهؤلاء ما صنع من قبل بالمشايخ و الخفراء قبل ان يسألوا شيئا وقبل ان يجيبوا ، حتى إذا اشبعوا ضربا و ترويعا وإهانة صرح لهم عما يطلب منهم من قطع السلاح حسب البيانات . فاما إذا صادف ان كانت القطع المطلوبة من أحدهم مطابقة لما عنده ، فقد أحس بالفرج وبادر بالإقرار ، وطلب ان يسمح له بإحضارها .. ولكنه لم يكن يجاب إلى طلبه ، انما يستدعى أحد أبنائه أو أحد افراد عائلته ، فيشاهده هكذا ، ثم يلقى هو الآخر بعض الصفعات و اللكمات ، ثم يتلقى الأمر منه ان يستحضر قطع السلاح المطلوبة ، فيخرج ركضا لاستحضارها ، حتى إذا تمت معاينتها وظهرت
مطابقاتها للبيانات المكتوبة ، افرج عن الرجل وابنه أو قريبه ، فخرجا لا يدريان النور من الظلام لشدة مالقيا من اللكم و الصفع ، ومن الفزع و الروع ، وانصرف أهله لعلاج جروحه و كدماته ، بالزيوت و المسكنات !
واما إذا صادف ان اختلفت البيانات عما عنده من السلاح ، او لم يكن لديهم سلاح أصلا ، فالويل له والثبور .. يعاد جلده ولكمه و صفعه مادام ينكر ، أو يقر بسلاح آخر غير السلاح المطلوب . و في الحالة الأخيرة كان يحضر السلاح الذي يملكه ، ثم يظل يطالب بقطع السلاح الأخرى التي أملاها الشيخ ، وهو في ذهول الروع وا لآلام !
عندئذ يضطر المسكين ان يعترف بما ليس عنده ، وان يطلب مهلة لإحضاره من مكمنه البعيد .. وفي هذه المهلة ينطلق أبناؤه وأقاربه يبحثون عن قطعة سلاح مطابقة للبيانات ، لشرائها حيث تكون ، فان لم جدوها في القرية ركبوا أسرع دوابهم للبحث عنها في القرى المجاورة ، فيسمح لهم الحراس بالخروج بحجة انهم ذاهبون لاستحضار سلاحهم المودع عند أقاربهم في هذه البلاد ، اطمئنانا إلى ان رأس الأسرة رهين لدى القوة ، وعذابه مرهون بالوقت الذي يقضونه غائبين .
وعندما يوفقون إلى القطعة المطلوبة ، يؤدون الثمن الذي يطلبه صاحبها مهما ارتفع . وكثيرون انتهزوا هذه الفرصة فبالغوا في اثمان القطع المطلوبة ، كما ان الكثيرين ايضا ظهرت أريحيتهم في إنقاذ المكروبين بأرخص الأسعار .
عندئذ يبتسم الضابط العبقري وهو يشاهد قطع السلاح المطلوبة تحضر بعد الإنكار ، ويرد ذلك إلى عبقريته الفذة التي أرشدته إلى اختيار أقوم طريق !
* * *
في نهاية اليوم كانت الأسلحة المجموعة تصنف أكواما أكواما فهذه بنادق ، وهذه غدارات ، وهذه مسدسات ، وهذه طبنجات ، وهذه سيوف ، وهذه سكاكين كبيرة ، وهذه بلط ، وهذه مزاريق وكل " ماركة " من هذه الأنواع مرتبة وحدها ، والضابط العظيم ينظر مرتاحا منتفشا كالديك إلى انتصاره الكاسح على أولئك القرويين الملاعين ..
وكان في كل بيت من بيوت القرية مناحة صامتة . فهذا مشجوج الرأس ، وذلك مرضوض الأضلاع ، وذلك ملتهب الجلد وهذا ممزق الأشداق .. وكان نسوة و أطفال يغدون و يروحون بالزيوت وكمادات الماء الساخن و البارد يسعفون بها المصابين .
وكان كثيرون من أهل القرية قد باعوا مواشيهم وطعام أطفالهم ، وحلى نسائهم ليشتروا بها قطع السلاح التي قيل انها عندهم وهم لم يحملوا في حياتهم سلاحا .
لقد كان هؤلاء هم جماعة الفقراء الذين اكمل المشايخ بهم العدد و هم في مأمن من رد الجميل ، إذ لا قوة لهم كالأشقياء ، ولا جاه لهم كالأثرياء !!!
* * *
ويمر على هذه الحادثة اكثر من ربع قرن ! و الطفل لا يزال يذكرها كانها حادث الأمس القريب ، لقد فزع للهول كما فزع كل طفل وكل رجل وكل امرأة .
وفي أثناء هذه السنوات يسمع ان هذا الضابط الوحش قد رقي فصار في وقت من الأوقات وكيلا لمدير الأمن العام ، اعترافا بكفايته في صون الأمن وحفظ النظام فيكمن في نفسه شعور بالأسى الدفين .
ثم يسمع إشاعات بعد ذلك انه لاقى حتفه وهو يزاول شناعة من هذه الشناعات ، فيحس كأن كابوسا ثقيلا قد رفع عن صدره وتنفس الصعداء !
الفصل القادم : [ الحصاد ]
في نهاية اليوم كانت الأسلحة المجموعة تصنف أكواما أكواما فهذه بنادق ، وهذه غدارات ، وهذه مسدسات ، وهذه طبنجات ، وهذه سيوف ، وهذه سكاكين كبيرة ، وهذه بلط ، وهذه مزاريق وكل " ماركة " من هذه الأنواع مرتبة وحدها ، والضابط العظيم ينظر مرتاحا منتفشا كالديك إلى انتصاره الكاسح على أولئك القرويين الملاعين ..
وكان في كل بيت من بيوت القرية مناحة صامتة . فهذا مشجوج الرأس ، وذلك مرضوض الأضلاع ، وذلك ملتهب الجلد وهذا ممزق الأشداق .. وكان نسوة و أطفال يغدون و يروحون بالزيوت وكمادات الماء الساخن و البارد يسعفون بها المصابين .
وكان كثيرون من أهل القرية قد باعوا مواشيهم وطعام أطفالهم ، وحلى نسائهم ليشتروا بها قطع السلاح التي قيل انها عندهم وهم لم يحملوا في حياتهم سلاحا .
لقد كان هؤلاء هم جماعة الفقراء الذين اكمل المشايخ بهم العدد و هم في مأمن من رد الجميل ، إذ لا قوة لهم كالأشقياء ، ولا جاه لهم كالأثرياء !!!
* * *
ويمر على هذه الحادثة اكثر من ربع قرن ! و الطفل لا يزال يذكرها كانها حادث الأمس القريب ، لقد فزع للهول كما فزع كل طفل وكل رجل وكل امرأة .
وفي أثناء هذه السنوات يسمع ان هذا الضابط الوحش قد رقي فصار في وقت من الأوقات وكيلا لمدير الأمن العام ، اعترافا بكفايته في صون الأمن وحفظ النظام فيكمن في نفسه شعور بالأسى الدفين .
ثم يسمع إشاعات بعد ذلك انه لاقى حتفه وهو يزاول شناعة من هذه الشناعات ، فيحس كأن كابوسا ثقيلا قد رفع عن صدره وتنفس الصعداء !
الفصل القادم : [ الحصاد ]
خصائص التصور الإسلامي .. للتحميل إضغط هنا .
هذا الدين .. لتحميل إضغط هنا .
المستقبل لهذا الدين .. للتحميل إضغط هنا .
الإسلام ومشكلات الحضارة .. للتحميل إضغط هنا .
وهذا بعضا مما وجدته لك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق