والمنبر رمزٌ لأصالة الدّعوة قبل أصالة الابتكار، وجماليّة المضامين قبل جماليّة المظهر الفنّي، والتحلّق حول الهدف الجامع قبل الجلوس بين جدران المسجد الجامع.
بناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أعواد بسيطة فصنع من على درجاته أمّة عظيمة، فكان أداة تعليم مبادئ الإسلام الكبرى، وقضاياه الكليّة، وقيمه السّامية، ووسيلةً للتدخّل العلاجيّ العاجل لتصويب أيّ انحراف عن المنهج، ومُرتقىً منه تُدار عمليّة الشّورى الحقيقيّة التي لا ترتقي الأمّة إلّا بها.
الطّغاةُ أوّل مَن سرقَ المنبر
في عصر الاستبداد السياسيّ سرق الطّغاة المنبرَ فحوّلوه من أعظم وسيلة ترسّخ دوران الجماهير حول الفكرة إلى أداةٍ لتكريس دوران الشّعوب حول الشّخص، وأيّ شخص!! إنّه شخص المستبدّ المتألّه الذي حوّل المنبر من وسيلةٍ لتعظيم الخالق وتقديسِه في نفوس العباد إلى وسيلة لتقديس الحاكم وتمجيده وتعظيمه في نفوس الرعيّة، وصار المنبر في عهد الاستبداد السياسيّ يجمع بين مدح الشّريعة الطاهرة التي تحرّر العقل والرّوح من علائق الاستبداد والخضوع لغير الله ومدح الحاكم المستبدّ والدّعاء له باسمه وآله وعياله وآبائه وأعوانه وترسيخ الاستعباد في تناقضٍ يربّي المسلم على تديّن مشوّه يجمع التربيّة على الحريّة والكرامة إلى الدعاء لمن يُخضع بالاستبداد رقاب الخلائق.
وفي أحطّ أدوار الاستبداد السياسيّ اغتُصِبَ المنبر فتمّ التّعامل معه بوصفه ملكيّةً خاصّة لوليّ الأمر؛ فغدت وزارات الأوقاف في بعض البلدان تفرض على الخطيب ما يقوله عليه ابتداءً بحمد الله تعالى وانتهاءً بحمد الحاكم المُلهم، وتوزّع على الخطباء خطبةً موحّدةً يقرؤونها في أنحاء البلاد بوصفهم آلات تسجيل فمن زحزح عنها قيد حرفٍ استدعيَ وأُنّبَ وتلقّى درسًا من محقّقٍ صغيرٍ في أهميّة طاعة وليّ الأمر.
وفي عصر الاستبداد السياسي في أردى مراحله يغدو المنبر وسيلةً للتّرويج لسياسات الحاكم وإلباسها الثّوب الشرعيّ مهما كانت تتناقض مع الإسلام ومبادئه، وتجميل الخضوع للظّلم، وتدجين الشّعب على القبول بالفقر واعتباره من الفضائل، وشكر الحاكم على مكرماته وعطاياه بوصفها منّةً شخصيّةً منه على الشعب لا حقًّا مفروضًا.
لم يغتصب الاستبداد المنبر ويسرقه فحسب بل مسَخه وشوّهّه وشوهّ من خلاله الشّريعة بتغييبٍ كلّ ما يروق له منها وسعى في تشويه أفكار المتديّنين ومسخ حقائق التديّن.
وهؤلاء سرقوا المنبر
ليس الطّغاة والمستبدّون وحدهم من سرقوا المنبر؛ فلقد سرقه أيضًا من ارتقوه بغير كفاءة فضيّعوا وأضاعوا، وضلّوا وأضلّوا.
لقد سرق المنبر كثيرٌ من الكسالى الذين لا يكلفون أنفسهم عناء التّحضير ويستهترون بأنفسهم قبل استهتارهم بالمستمعين إليهم؛ فهم يعرِضون عقولهم على النّاس وفيهم أهل العلم والمعرفة والفكر والأدب، فتسقُط هيبتُهم وهذا ليسَ بالأمر الجلل؛ لكنّهم يُسقطون هيبةَ المنبر من نفوس النّاس، وهيبة الشّعيرة التي شُرعت لتحقيق تعظيم الشّعائر في النّفوس.
كما سرق المنبر كَسيحُو اللّغة مشلُولو الفكر الذين يؤذون الأسماع بنشاز ألفاظهم ولغتهم العرجاء، وعقيمِ أفكارهم المنحرفة أو الخاضعة لعصبيّاتهم الفكريّة والحزبيّة ومشاربِهم ومدارسهم وتوجّهاتهم، ويتّخذون من المنبر ميدانًا لتفريغ عقدهم النفسية وضيق نفوسهم بالآخرين من المسلمين بالصّراخ حينًا وبالهجاء والشتائم حينًا آخر.
لقد سرق المنبر من يقفون عليه كما الروبوت لتأدية مهمةٍ ثقيلة وهم في عجلة من أمرهم، يخرجون الأوراق من جيوبهم فيقرؤون الخطبة برتابةٍ تُنيم اليقظان وتميت الروح التوّاقة، ولا يستيقظ النّيام إلّا عند صرخةٍ من الخطيب لا محلّ لها في السّياق ولا معنى لها سوى الفهم الشّائه لمعنى الإلقاء المؤثّر.
لقد سرق المنبرَ أيضًا أولئك الذين باعوا عقولهم بثمن بخسٍ لأجهزة الأمن فلا يرَون أنّهم يقفون على الوسيلة التي اتّخذها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وورّثها لهم ليكونوا واقفين مكانه قولًا ومنهجًا وفعلًا؛ فهمّهم هو رضى المخبر عنهم، وغاية مُناهم أن يرضى عنهم فرع الأمن الموكّل بمتابعة المنابر والتأكّد من خضوعها لوليّ الأمر.
لقد سرق المنبر المنفصلون عن الواقع، الغرباء عن حياة الناس؛ الذين جعلوا المنبر في وادٍ بينما حياة النّاس في واد آخر، فلا تجدهم يعرفون عن مستجدّات الحياة شيئًا، ولا عن مشكلات النّاس المتجدّدة إلّا قشورها، ولا وجود لقضايا المسلمين وجراحهم الثّاغبة ومقدّساتهم المنتهكة ولو على مستوى الدّعاء، فهم فاشلون في التشخيص وفاشلون في طرح العلاج فصاروا أضحوكةً وحوّلوا المنبر إلى مساحة للتندّر بين النّاس.
إنّ المنبر المسروق يتطلّع لاستعادته اليوم في زمن التيه والسيولة والضياع والهوان أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولن يستعيد المنبر المسروق إلّا رجالٌ علموا أنّ هذا المنبر هو ميراث رسول الله عليه وسلّم فحملوا ميراثه من العلم المتين والمنهج القويم والفهم العميق والحكمة البالغة والثبات الرّاسخ.
لن يستعيد المنبر المسروق إلّا رجالٌ رساليّون واسعو الأفق كبار العقول والقلوب، كبار النفوس والأرواح، أحرارٌ حقًا؛ نفوسهم حرّةٌ كريمةٌ فلا تخضع لباطل ولا طاغية ولا مستبد، وعقولهم حرّة فلا يخضعون لهوى ولا تعصّب ولا انتماء ضيّق على حساب الانتماء الأرحب للإسلام؛ رجالٌ قال عنهم مصطفى صادق الرّافعي: “ألا ليتَ المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلّا رجالٌ فيهم أرواح المدافع، لا رجالٌ في أيديهم سيوف من خشب”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق