الأتراك والعرب تاريخ مشترك وعداوة مستوردة
لقد أكدنا القول في مواضع سابقة على أنه غالبًا ما يتم غض الطرف عن التزامن بين عملية تشكيل الهوية القومية في تركيا وحركة “التغريب” المبالغ فيها، فتاريخ الاستقلال التركي الذي يستند عليه دعاة القومية والوطنية التركية يعني أننا تحررنا وتخلصنا من الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإيطالي واليوناني، لكن العجيب هو التساؤل الذي لم يتم طرحه: لماذا في مرحلة لاحقة بذلك التحرر قد تم التمسك بأيدولوجية جاذبة نحو التشبه بهذا العدو المحتل والسير في ركابه بعد أن كافحنا للتخلص منه؟ ولماذا تم إقامة نظام سياسي في تركيا وفقًا لهذه الأيدولوجية؟!
وقد تم التعامل مع أساليب الحياة وأنماط الأيديولوجيات والأفكار في الدول الغربية التي غزت تركيا وحاربنا للتخلص منها، والحديث عنها على أنها مستوى الحضارة الذي كنا نتطلع للوصول إليه، وربما كان هذا مرتبطًا بتأثير الأحكام الاجتماعية وتحيزاتها التي كانت شائعة في ذلك الوقت التي كانت تؤسس لعلاقة سببية مباشرة بين الفكر أو الدين والعقيدة وبين التطور المادي والحضارة، وفي تلك الفترة كان كتاب ماكس فوبر “أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” هو التعبير الشهير والأكثر شيوعًا عن هذه المغالطة الاجتماعية، وقبل ذلك شاعت فكرة أن المسلمين قد تأخروا بسبب دينهم، ولعلهم إذا تخلّوا عن دينهم سينهضون من جديد.
السيطرة المادية
وبالطبع كانت وجهة النظر هذه من أكثر المقترحات تجاوزًا وغرابة وسطحية بما تحمله من طابع الاستشراق الذاتي والافتقار إلى الجدية، ومن الجدير بالذكر أن هذا الرأي لا يعكس الواقع بالمرة، حيث توجد العديد من البيانات التاريخية والموضوعية التي تظهر أن الغرب لم يتقدم بسبب المساهمة المباشرة للمذاهب المسيحية أو البروتستانتية أو أي تيار أيديولوجي آخر، بل على العكس، تقدم دون وجود أي تأثير لهذه المذاهب أو حتى رغمًا عنها.
ورغم ذلك فإن السيطرة المادية التي يتمتع بها الغرب قد خلصت بالمناقشة إلى القول بصحة هذا الرأي. حتى أن الذين كانوا يروجون سابقًا لفكرة أنه يجب أن نأخذ علوم الغرب وحضارته وتقنياته الحديثة، ونترك له ثقافته، حتى هؤلاء كانوا أداة لتنفيذ هذه المقترحات الغربية، فتم استيراد ثقافة الغرب وأيديولوجيته وكل أنماط حياته بالفعل عبر السياسة قبل أي محاولة لنقل علومه وتقنياته بوقت طويل.
وهذا الاستيراد للثقافة والهوية كان مؤلمًا ومؤسفًا للغاية، وأكثر من ذلك فقد تم في حرية تامة استبدال الثقافة والهوية بشكل يدفع للمزيد من السخرية، وكما قلنا سابقًا نقلًا عن سلمان سيد: “خاضت تركيا صراعًا مبالغًا فيه قاسيًا وحادًّا مع جذورها الشرقية ورموزها ومؤسساتها الثقافية وعاداتها لتشبه الغرب”، ولم يقتصر الأمر على مستوى الملابس والأحرف الأبجدية والحد من المظاهر الدينية، بل حاولوا صياغة تاريخ جديد ولغة جديدة وحتى جغرافية جديدة، كما سعوا لحظر الموسيقى التركية باسم التغريب، واستبدال الموسيقى الغربية بها من خلال مشروع تنوير المجتمع التركي المسمى “مساكن الشعب”.
وفي نقلة غربية صرنا نتوجه إلى الغرب ونقلده ونتخذه نموذجًا نحتذي به، ذلك الغرب الذي كافح ضده الشعب التركي وقاتله بثقة وثبات أصيل برسالته التي حملها من آسيا الصغرى إلى الأناضول والعناد والتحدي، ومن الجدير بالذكر أن هذا التقليد يقوم جنبًا إلى جنب مع ادعاء القومية في مشهد أكثر سخرية: بأي وجه يدَّعون القومية؟ وبأي اختلاف؟ وبأي قيمة أخلاقية لديهم لصحة دعواهم؟
لقد تركت تاريخك وماضيك كله الذي هو خاص بك، لحساب ثقافة الإمبراطورية الغربية، ودخلت إلى حفلة تنكرية بثياب تلك الثقافة الغريبة عنك، فهناك ماذا ستمثل؟ ومن أجل ماذا ستقاوم وتحارب؟ كيف ستبني حضارة وتصوغ قِيَمًا بتقليد أعدائك؟ كيف ستسهم في الإنسانية؟ لا يمكنك أن تصبح أفضل ممن تقلده. ألا تدري أنك بمجرد دخولك في طريق التقليد ضاعت هويتك تمامًا، ولم تعد تشبه أي شيء بعد أن انفصلت عن جوهرك.
هزمنا في الحرب فكرهنا العرب
وبالنسبة لنا نحن الأتراك فإننا لم نخرج عما خططه الغرب الذي هزمنا في الحرب العالمية الأولى، وطبقنا ما أراد، فجعلنا أساس قوميتنا هو كراهية العرب ومعاداة العروبة دون أن نقدم أدنى إجابة لتساؤلات مثل: لماذا؟ هل قامت بيننا وبين العرب حروب تستدعي أن نجعلهم يمثلون الآخر في رؤيتنا القومية؟ وعمومًا لماذا يجب أن يكون العرب هم الآخَر في مقابل القومية التركية؟ وما مصلحة الأتراك في أن يكون العرب ممثلين للآخر في الخطاب القومي التركي؟ ومن الذي وضع بين الأتراك والعرب هذه الحواجز التي لا يمكن تخطِّيها، والحدود التي لا يمكن تجاوزها في الوقت الذي تحرص الدول الغربية جميعها على إقامة العلاقات وتقويتها مع العالم العربي المليء بالنفط؟ لصالح مَن يمكن أن تعمل هذه الحواجز؟ بالطبع وضعها المستفيدون منها، لكن الأسوأ هو أننا وافقنا على ذلك وقبِلناه بشغف، مما يعني أننا بأيدينا بنينا الجدران التي تحبسنا وتقيّد حريتنا.
وكان الخطاب المُهين للعالم العربي في الثقافة التركية غريبًا جدًّا، إذ ليس هناك تلك اللهجة المهينة تجاهنا في العالم العربي، وكذلك لم نجدها لدى أولئك يهمشون العالم العربي ويفصلوننا عنه، لأنهم يعلمون جيدًا أين يتجهون؟ وبالرغم من منهجهم الاستشراقي فإنهم لم يصلوا إلى درجة التجاوز والترويج لخطاب يثير الهلع بين العرب أو يبعدهم عنه.
وحتى اليوم من المستحيل ألا نندهش من هذه الخطابات الاستشراقية التي تأتي مع كل تقارب بين تركيا والعالم العربي. إنه خطاب مبتذل وجاهل لدرجة أنه من المستحيل التوفيق بينه وبين أكثر المعاني سطحية للقومية، وهذه أمور لا يمكن لأي عقل يبحث عن مصالح تركيا وفوائدها القيام بها، وهناك احتمال واحد فقط وهو أن هذه الخطابات وهذه الحمَلات هي تخريب للعلاقات ومحاولات لوقف تطورها، وهنا تشم رائحة الخيانة الحقيقية.
ولأن الأرقام والأدلة الحقيقية خير جواب على هؤلاء الجاهلين الذين يهينون العالم العربي من الناحية العلمية والحضارية والفلسفية، وأقصد بذلك الرد على أنهم فعلوا ذلك بسبب جهلهم لا خيانتهم، فهناك خبر مُحزن: نشرت جامعة أكسفورد في الأيام الماضية قائمة بأقدم الجامعات في العالم، وجاء أول ثلاث جامعات من بين عشر هي جامعات أسسها المسلمون العرب: الأولى جامعة الزيتونة في تونس (737)، والثانية جامعة القرويين في المغرب (859)، والثالثة جامعة الأزهر في مصر (972)، وهذا يعني أن جامعة بولونيا الإيطالية، التي يروَّج لها خطأ أنها أقدم جامعة في العالم، قد أسست بعد ذلك بـ116 عامًا، وبعد الجامعة الأولى بـ356 عامًا (عام 1088).
وبالطبع فإن الأشخاص الذين يستخدمون هذا اللغة العنصرية الجاهلة تجاه العرب ولا يرون في العرب غير أنهم بدو رعاة، لا يدركون أنهم في الواقع يكشفون عن جهلهم بما يدور حولهم. هل اطلعوا على شيء من أعمال البروفيسور فؤاد سزكين حول تاريخ العلم والتكنولوجيا الإسلامية وما قدمه للغرب؟ هل إذا فعلوا ذلك فسيتمكنون من الخروج من هذه الدائرة العنصرية؟
ومع الأسف لا نعتقد ذلك، لأن العنصرية ليست ناتجة عن نقص في المعرفة، بل منشؤها جهل أصيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق