كتاب “نظام التفاهة” قراءة في الواقع القريب والبعيد
لم تَعُد “التفاهةُ” مجرد بقعة مستقذرة في ثوب الإنسانية، لم تَعُدْ قابعةً في تلافيف الفنّ الشعبويّ الهابط، ولا متقوقعةً في أكمام مواقع التواصل الاجتماعيّ المبتذلة، بل لم تَعُدْ تَقْنَعُ بالانطواء في ثنايا الحياة الإنسانيّة والانزواء بين تعاريج النشاط البشريّ، لقد صارت نظامًا عامًّا يسود الحياة ويعمُّ الدنيا ويكسو الحضارة المعاصرة من مفرق رأسها إلى أخمص قدميها، هذا هو المعنى الذي أراد الفيلسوف الكنديّ “آلان دونو” أن يُقَرِّره ويُدَلِّلَ عليه في كتابه الشائك الشائق: “نظام التفاهة”.
وجْهَةُ الكتاب وتَيَّارُه الجارف
“ضَعْ كتبك المعقدة جانبًا … لا تقدم لنا فكرة جيدة من فضلك؛ فآلة إتلاف الورق ملآى بها سلفًا … ها قد تبوأ التافهون موقع السلطة”، بِنَفثات ساخنة صاخبة كهذه استهل المؤلف الثائر حديثه عن التفاهة، التي لم تَعُدْ تَقْنَعُ بمسكنها القديم، فَعَلَى حدّ قوله: “لقد فَقَدَ تعبير “نظام التفاهة” المعنى الماضي عندما كان يصف سطوة الشعبويّة، وصار يعني سيطرة الأشخاص التافهين”، والشخص التافه المسيطر لم يَجِدْ له المؤلفُ وصفًا أدقَّ من هذا الذي نقله عن كتاب “الناقد”: “حكيمٌ ولكنّه لم يفعل أيّ شيء مكلف، له لحية مهيبة من دون أنْ يحرق زيت الليل … مليء بالعواصف لكنّه لم يمسح غبار الكتب قَطّ، مُغَطَّى بالمجد من دون أن يعمل أبدًا في ليل أو نهار؛ إنّه كاهن الابتذال”.
ولأنّ التفاهةَ صارتْ نظامًا عامًّا سائدًا فلابد أن ترتبط بالسلطة من جهة، وأن تتغلغل من جهة أخرى في كافّة مناحي الحياة: “إنّ نظام التفاهة يقودنا إلى تسليم ملكة الحكم السليم إلى نماذجَ اعتباطيةٍ مُسَوَّقٍ لها من قِبَلِ السلطة، واليوم تضم هذه الأعراض المرضيَّة: سياسيًّا يوضح لناخبيه وجوب التسليم لإرادة حَمَلَةِ الأسهم في وول ستريت، وأستاذًا جامعيًّا يُقَيِّم الورقة العلميّة التي يقدمها أحد طلابه – عندما تكون قد تجاوزت فذلكات العرض التوضيحية لبرنامج power point – باعتبار ذلك مبالغة في التنظير العلميّ، ومنتِجًا سينمائيًّا يُوكِل دورًا أساسيًّا في فيلم تسجيليّ لشخص لا علاقة له بهذا الفيلم، وخبيرًا اقتصاديًّا يثبت عقلانيته بالإطناب بشأن نمو اقتصادي غير عقلانيّ”.
تَغَوُّلٌ لطيف وتغلغُلٌ مخيف
بلطف ولباقة ونعومةٍ ورشاقة تسود التفاهةُ وتتغول، وبدهاء مخيف تسري في أوصال الحياة وتتغلغل، فلا يكاد يفلت من سلطانها المرعب مجال وإنْ بدا مكتسيًا بالجدّ متسربلا بالوقار، حتى أروقة الفكر والأكاديميا، فالواقع المؤلم أنّ “الخبير الذي يتعرف غالبية أكاديمي الجامعات اليوم على أنفسهم بالقياس عليه يمثل النموذج المركزيّ للتفاهة … لا يمكننا أن نتوقع منه أن يقدم لنا مقترحًا قويًّا أو أصيلًا … فهذا الخبير – السوفسطائي المعاصر الذي يُدْفَعُ له لكي يفكر بطريقة معينة – لا يُسْتَحَثُّ بفضولية الهواة … وإنّما يتصرف ضمن إطار ميكانيكيّ بحت … لقد صارت الخبرة المهنيّة تقدم نفسها عبر اتفاق ضمنيّ بين منتجي المعرفة من جهة وبين مُلَّاك رأس المال من جهة أخرى”.
وفي ضربة قاصمة موجهة للفكر الاقتصادي النيوليبرالي يقول المؤلف: “لا يوجد مجال تسود فيه التفاهة بثقة مثل ذلك المجال الذي نسميه الاقتصاد؛ إنّ نظريّة (التقاطر إلى الأسفل) – وهي حكاية خيالية للأطفال فحواها أنّه عندما يصبح أَثْرَى الناس أكثر ثراءً فإنّ الثراء سوف يتقاطر من هذا الثريّ إلى المجتمع كله – هذه النظرية عصفت بها التحديات الواقعية من كل جانب، ومع ذلك فإنّ الخبراء والأكاديميين ما زالوا يدعمونها بصوت عالٍ … إنّ عقولنا مليئة بالغباء حتى إنّنا ما زلنا ننظر للأغنياء باعتبارهم هم من يخلقون الثروة التي نأمل أن نحظى بجزء صغير منها لأنفسنا”، ويركز المؤلف في تسديده أكثر فيوجه إلى الإنتاج هذه الضربة: “إنّ إنتاج طائرات الرفاهية هو إساءة استخدام للذكاء من أجل تحقيق أغراض تافهة … إنّ الأشخاص الذين يحلمون بهذه الطائرات ثم يطلبونها لا يفعلون ذلك لأنهم مدفوعون بجنون الإنفاق، ولا بسبب ذوقهم المكلف أو تعطشهم الأعمى للتمايز الاجتماعيّ، كل ما في الأمر أنّهم يتسلَّون، وربما كانت التسلية التي يحظون بها سبَبُها طبيعةٌ خاضعة للارتباط البافلوفي!” وهو ارتباط غزيزيّ يوجد بقوة في الكلاب.
انتبهوا واحذروا فقد حَلَّ الخطر بدارنا
وعلى الرغم من كوننا مسلمين أصحابَ دينٍ باعثٍ على التجديد، وحَمَلَةَ كتابٍ ملهمٍ يبني عقليّةً توَّاقَةً للابتكار والإبداع ونفسيّةً وثَّابة صوب المعالي؛ لم نَسْلَم من الغرق في لُجج التفاهة، وإذا كان الإنتاج الباهت للأكاديميا، والتدوير المقزِّز للسياسة والاقتصاد، والصخب المقرف في أوساط الفنّ والرياضة والأدب، إذا كان ذلك وغيره – مما عششت فيه التفاهة وباضتْ وفرّختْ – واضحًا باديًا للناظرين؛ فإنّ ما انغمس فيه الخطاب الشرعيّ في أيامنا هذه يُعَدُّ من نماذج التفاهة الصارخة؛ فلقد تصدر كثير من التافهين الفارغين الذين وَثَّقُوا علاقتهم بالسلطة في وقت مبكر؛ لتسود التفاهة الوسط الأسوة.
وفي المقابل لم يستطع أغلب الذين حرروا أنفسهم من سطوة السياسة القمعيّة الخشنة أن يصمدوا أمام الغزو الناعم لسطوة من نوع آخر، سطوة تمارس الهيمنة بالرغبة لا بالرهبة؛ لتتجه الجهود الجبارة نحو حرث المحروث وغرس المغروس، واستنساخ هيئات من هيئات، وتوليد روابط من روابط، وإقامة اتحادات وتنسيقيات على أنقاض أمثالها في الجوهر والمظهر؛ وما ذلك إلا ليتلهى الكبار وينشغلون بالفعاليات التي تشبه في صممها وبكمها كل النماذج الصماء البكماء، وبحسب كتاب “نظام التفاهة” فإنّ “النقود تمول صنفًا هامًّا من الكبت، وهو: البقاء صامتًا، أي: (اخرس؛ فأنا أدفع لك) … إنّ مبدأ الكبت واضح هنا إلى درجة مذهلة … وكذلك العنف الذي ينطوي عليه هذا الكبت؛ لكنْ ما الذي يجعلنا نتقحم العنف مع وجود المال لترطيب العلاقة؟!” هذا كلام الرجل، سُقْتُه بتصرف، والحكمة ضالة المؤمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق