الجمعة، 25 أغسطس 2023

المسالمة والمقاومة (1)

  المسالمة والمقاومة (1)

د. حاكم المطيري


س/ شيخنا قد يؤخذ على الشيخ رشيد رضا مسالمته للسلطة في مصر وعدم دعوته لمقاومة المحتل البريطاني والاكتفاء بالإصلاح السلمي الذي أطال من عمر الاستبداد من جهة والاحتلال من جهة أخرى كما في مقاله في مجلة المنار عن شيخه محمد عبده ورأي كرومر فيه؟

ج/ هذا مما قد يؤخذ على الشيخ رشيد رضا، وعلى شيخه محمد عبده من قبله، وعلى تلميذه الشيخ حسن البنا من بعده، وهو إيمانهم جميعا بالعمل الإصلاحي السلمي والتعاون مع السلطة نفسها التي تخضع للمحتل الأجنبي وعدم مقاومتها أو مقاومته، وهي الدعوة التي عمت العالم الإسلامي بعد ذلك وقد فتح الاستعمار لها الباب لتحقيق مصالحه وقطع الطريق على من يقاومه، كما سالمته هي لتحقيق مصالح الأمة بحسب اجتهادها، وهي في النهاية حركة دينية دعوية ليست مسئولة عن الانهيار السياسي الذي انتهى إليه العالم الإسلامي قبل ظهورها، وإنما حاولت في ظل الانهيار بعث جيل جديد يؤمن بالإسلام ويستفيد من العلوم التي وصل إليها الغرب من خلال الاتصال به ومسالمته وهو الرأي الذي اختطه السلطان العثماني عبدالعزيز ووالده محمود الثاني بعد هزائمهم العسكرية في أوربا.

وهو الذي اختارته اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، لا عن خيانة لشعبها بل عن سياسة ترى أنها الأجدى لها ولشعبها بالدرجة الأولى أكثر من مصلحة المحتل الأمريكي.

 وكذا فعلت ألمانيا بعد هزيمتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية حتى نهضت.

فكان هذا الرأي خيرا في نظرهما (أي اليابان وألمانيا) من مقاومة عدمية تفني شعبيهما؟.

وهو ما حدث لتركيا في الحرب العالمية الأولى واستسلام السلطان محمد السادس بعد الهزيمة..

والقصد أن ما أراده هؤلاء المصلحون هو نهضة الأمة بالعلم والاستفادة من العلوم المادية التي أدت إلى تفوق عدوهم وهزيمة الأمة في كل بلد أمام المحتل الغربي، وعجز كل حركات الجهاد عن دفع عدوانه، بحيث لم يبق إلا الخلافة العثمانية التي ما لبثت أن انهارت هي أيضا.

 وكان هؤلاء المصلحون يراهنون على التعليم في تحقيق النهضة ثم التحرر، وهذا ما كتبه محمد عبده إلى الأستانة في خطته التعليمية التي كتبها للسلطان عبدالحميد لتدارك الخلل.

وهذا الرأي الإصلاحي مهما قيل عنه لا يمكن أن يشنع على أصحابه الذين لم يكن أمامهم أصلا خيار غيره! وهذا ما جعل ابن باديس يستخرج رخصة تأسيس جمعية علماء الجزائر من السلطة الفرنسية مع اشتراطها عليه عدم خوض الجمعية في السياسة ووافق على هذا الشرط فقد كان يرى بأن إحياء الإسلام في نفوس النشء هو رأس المال الذي يجب المحافظة عليه، وهو كفيل بتحرير الجزائر ولو بعد حين..

وحياة هؤلاء المصلحين لا يمكن تقييمها بالحوادث الجزئية وما كتبه رشيد رضا هنا وهو في الأربعين من عمره لا ينسخ خمسا وثلاثين سنة عاشها بعد ذلك داعيا ومصلحا ومجاهدا بقلمه ورأيه ضد المحتل وداعيا الأمة وشعوبها للتحرر منه خاصة في وقوفه مع الخلافة العثمانية والشد من أزرها ودعوة الأمة للوقوف معها ضد بريطانيا وفرنسا حتى سقطت.

وليست المشكلة في هذا الرأي السياسي -وهو مسالمة العدو المحتل إلى حين تحقق النهضة والتحرر منه وفق سنن التطور الاجتماعية كما يصرح رشيد في مقاله عن رأي كرومر بالشيخ محمد عبده في مجلة المنار ٩/ ٢٧٦- سواء اتخذه قائد سياسي أو مصلح ديني بل المشكلة وراء ذلك كله وهو غياب الدولة نفسها التي تستثمر هذا الإصلاح لتنهض بالأمة -ولو كانت تحت الاحتلال- فقد كان تفوق المحتل نفسه في إعادة إنتاج الدولة وتوظيف السلطة وعلمائها في العالم الإسلامي أكبر من قدرتها وقدرة الأمة على المحافظة على هويتها وخصوصيتها كما فعل الشعب الياباني الذي كان قد قطع شوطا كبيرا في النهضة العلمية والصناعية في ظل سيادته واستقلاله قبل هزيمته فلم يفقد ثقته بنفسه وقدرته على النهضة بعد الهزيمة كما فقدتها النخب السياسية في العالم الإسلامي التي كانت مبتوتة عن أمتها وفاقدة الثقة بدينها ومبهورة بعدوها وهو ما نراه جليا اليوم في خطاب وممارسات أحزاب (الإسلام السياسي) التي ذهبت بعيدا في التعاون مع النظام الدولي ودوله الوظيفية أكثر مما كان عليه محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا حتى شاركته في احتلال بلدانها كما حدث في العراق وأفغانستان باسم الديمقراطية مهما اعتذر عنهم بالواقعية السياسية!

والأجدى من دراسة مواقف هؤلاء المصلحين للحكم عليهم؛ دراسة هذه الرؤى نفسها التي رؤوها ودعوا إليها لتحقيق النهضة وتحرر الأمة، وأين انتهت، وفيما نجحت، وفيما فشلت، والرؤى البديلة عنها التي كان يمكن أن تكون أولى منها لتستفيد الأمة من تجربتها خلال قرن، لا يمكن تجاهل ما تحقق للعالم الإسلامي فيه من نهضة ويقظة في كثير من دوله؛ كان لهؤلاء المصلحين دور كبير فيها إلا أنها نهضة لم تصل بالأمة إلى الغاية المنشودة بعد؛ وهو استعادتها سيادتها ووحدتها وخلافتها وما هي منها ببعيد.    

ورحم الله الذهبي إمام المؤرخين حين قال: (والإنصاف عزيز).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق