أنواع العلماء فيما أوجب الله من العمل
العلماء ثلاثة..
1) من قام بحق العلم وبقي أثره وسلطان كلماته
النوع الأول: عالم عَلِم دين الله على مراد الله ثم قام بحق هذا العلم فعمل بما علم، وهؤلاء الذين ورد مدحهم في مواضع كثيرة، ولو لم يكن من خبر في فضلهم وعلوّ مكانتهم إلا قول الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم “ورثة الأنبياء”(1) لكفى.
فمن كان ميراثه علم الأنبياء فحُقّ له أن يحوز على أعلى المنازل وأرفعها، ورحم الله الإمام ابن القيم حين وصفهم بأنهم: “الموقعون عن رب العالمين”.
وهذه الفئة المباركة لا تخلو الأرض منها في كل عصر سواء قلّوا أو كثروا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث معاوية، رضي الله عنه، قال: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(2)
وهؤلاء هم من أثنى عليهم ربهم بقوله: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ (الأحزاب: 33)
ولئن كان الأمراء يسوسون الناس بقوة السلطة؛ فإن العلماء يؤثّرون على قلوب الناس ومشاعرهم وهو التأثير الأقوى والأبقى لأنه إن رسخ فلا يزول بزوال العلماء خلاف سلطان الأمراء.
[للمزيد: القنديل والمنديل، وما يجري على الدين من تبديل .. قناديل من علماء السلف]
2) من خالف موجَب العلم فسقط من عين الله
والنوع الثاني: عالم حفظ العلم لكنه عمل بنقيض ما علم فانحاز إلى أعداء الإسلام وبرر للطواغيت جرائمهم مستغلاً العلم الذي تعلمه، فضلّ وأضلّ.
وفي أمثالهم قال الله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 175- 176).
[للمزيد: القنديل والمنديل، وما يجري على الدين من تبديل .. مواقف مظلمة]
3) من وقف حائرا بين من وفى ومن نكص
وقسم ثالث: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلاهم قاموا بما أوجبه الله عليهم من البيان وإظهار الحق والاحتساب على المقصرين، ولا هم انحازوا إلى معسكر الطواغيت ..
أصناف القسم الحائر
وهؤلاء على أصناف..
- فمنهم من أشغل نفسه وأشغل معه غيره بغير واجب الوقت فانصرف إلى تعليم مهارات التنمية البشرية والعلوم الإدارية وتنظيم الرحلات والحديث في فروع الفروع.
- وصنف لزم بيته وآثر السلامة وفض يده من الأمر كله إما خوفاً على نفسه أو رزقه، وإما بحجة الهروب من الفتن.
- وصنف أشغل نفسه بتأصيل السكوت عن إنكار المنكر وأن ما أصاب الناس إنما هو بسبب ذنوبهم. وهذا نصف الحق؛ فهو لا يتعرض لمنكرات الطواغيت.
- وصنف أنكر على المحتسبين في القضايا السياسية وثبّت قاعدة لا نعرف لها أصلاً وهي «أن من السياسة ترك السياسة» دون تفصيل أو بيان؛ بحيث تكون المحصلة ترك الاحتساب في المجال السياسي للمتردية والنطيحة وما أكل السبُع.
غياب لا يُعوَض
وما أحسب إلا أننا قد انطبق على حالنا حديث عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ مَسْعُود:«كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً؟ فَإِذَا غَيَّرْتَ، قَالُوا: غُيَّرْتَ السُّنَّةَ، قَالُوا: مَتَى ذَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: “إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ».(3)
ولهذا فإن المكانة العالية التي حصلت للصنف الأول لم تأت من فراغ وإنما هي تشريف مرتبط بتكليف، فمن أدى أمانة العلم في نفسه وفي أمة الإسلام فاز بالحسنيين واستحق أن ينتسب لهذه الطائفة المباركة، وأمّا من قصر أو بدل خسر خسارة مضاعفة فهو يبوء بإثمه وإثم من تبعه إلى يوم الدين.
وبقدْر جسامة الحالة التي تعيشها الأمة تكون الحاجة للعلماء الربانيين ففي الليلة الظلماء يُفتقد البدر.
فالأمة تعيش مرحلة من أصعب مراحلها حيث أصبح وجودها مهدداً بعد أن تكالبت عليها كل قوى الكفر يحاربونها على كل الأصعدة بالسلاح والسياسة والاقتصاد والإعلام ويعملون فيها قتلاً وتشريداً وتبديلاً للملة الحنيفية واستبدالها بالأديان المبدلة أو بالملل المخترعة..
وهذا يبرز الحاجة لهم ليقوموا بواجبهم في إنقاذ الأمة وإخراجها من هذه النكبات.
وكلما عظُم قدر شخص عظم خطر غيابه فغالب الناس يوجد من يحل محلهم حال الغياب إلا العلماء؛ فلا يمكن أن يقوم بدورهم غيرهم؛ فغيابهم يؤدي إلى فشو الجهل الذي يتسبب في ضلال الناس.
[اقرأ أيضا: لماذا الدعوة الى الله]
كيف يغيب العلماء..؟
سواء كان ذلك الغياب قسرياً كما يكون بالموت، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا».(4)
وكما في تغييب الطواغيت لصالحي العلماء بالسجن وبالتعتيم الإعلامي بتشويه سمعتهم أمام الناس واتهامهم بالتطرف والإرهاب وأمثالهما من الاتهامات التي صُنعت خصيصاً لصرف الناس عن هذه النخبة الطيبة واستبدالها؛ بإبراز وتوظيف الفاسدين المبدِلين الذين يبررون للطواغيت جرائمهم ويمنعون البقية حتى من الإنكار عليهم وكشف حقيقتهم.(5)
وقد يكون الغياب اختيارياً إمّا عن خوف طبيعي أو مبالغ فيه.
والخوف لا بد أن يُدفع باليقين وباستحضار الدور المطلوب من العالِم، وقد يكون بالهجرة على أرض يمكنه فيها أن يقول كلمة الحق التي كلفه الله بها قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (النساء 97).
وقد يكون الغياب لطمع في لعاعة الدنيا والحرص على عروضها الزائلة من وظيفة أو تجارة أو غيرهما ومثل هذا لا يُعذر وقد وصف الله عز وجل أقواماً بأنهم ﴿سمّاعون للكذب أكّالون للسحت﴾ فهم لم يكْذبوا لكنهم سمعوا الباطل فلم ينكروه سعياً وراء حظوظ النفس ليأكلوا به السحت(6).
ولكن لا يتحول الأمر على السكوت الذي يُدخل العالم في وعيد الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾.(البقرة 159)
وواجب العلماء الناصحين أن يقوموا بالاحتساب على العلماء المبدلين او الساكتين بغير حق لئلا تفتن الأمة وتضيع بوصلتها، ولا يُترك الجرح والتعديل في أيدي العامة فيعدّلوا المجروح ويجرّحوا العدل القائم بأمر الله، ويحددوا العالم العامل من القارئ.
وعليهم أن يبينوا للناس أن دين الله واحد وليس في الدين متطرف وآخر معتدل وثالث إرهابي؛ فالدين ما شرع الله، والسبيل إليه هو الوحي المطهَر من كتاب محكم وسنة صحيحة بفهم سليم كما في القرون المطهرة ومن تبعها بإحسان.
لجمهور الأمة نصيب:
وإذا كان دور العلماء كبيراً وأثرهم عظيماً فلا سبيل إلى قيامهم بدورهم إلا بحمل عموم المسلمين لهم وبخاصة طلبة العلم، وقد نُقل عن الشافعي قوله (الليث أعلم من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه)..
وفي السلف رجال عظام لم تنشر مذاهبهم كالإمام الطبري وابن أبي ذئب والليث بن سعد وغيرهم كثير لكن أصحابهم لم يقوموا بهم.
فالواجب في زماننا حمل الفئة الصادعة بالحق ونشر علمها ومواقفها والذَّبُ عن أعراضها والتحدث بسيرتها أمام الناس حتى ينزلوهم منازلهم.
واللهَ تعالى أسأل أن يهيئ لهذه الأمة أمراً رشداً.
الهوامش:
- هو جزء من حديث كثير بن قيس عن أبي الدرداء وفيه: (إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) وهو صحيح بطرقه.
- البخاري (3641) ومسلم (1037)
- صحيح بطرقه كما في الدارمي والحاكم وفي بعض روايته زيادة في نهايته (وتُفُقِّهَ لغير الدين)
- متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
- كما في قول عبد الرحمن السديس إمام الحرم ورئيسه: “السعودية والولايات المتحدةهما قطبا هذا العالم للتأثير، يقودان بقيادة خادم الحرمين الشريفين والرئيس الأمريكي، العالم والإنسانية، إلى الأمن والسلام والاستقرار” وما جاء في كلام مفتي مصر السابق علي جمعة في قتل العزل من الرجال والنساء المعترضين على حكم السيسي: “طوبى لمن قتلهم”، وتشبيه أستاذ الفقه سعد الدين الهلالي للطاغية السيسي والقاتل وزير داخليته محمد إبراهيم بموسى وهارون عليهما السلام .. والقائمة في أمثال هؤلاء تطول.
- الشيخ عبد العزيز الطريفي في مقابلة تلفزيونية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق