أليس لهذا الرئيس من نقطة ضعف؟
ارتفع منسوب الأمل في سوريا بمظاهرات السويداء، وإن تأخرت اثنتي عشرة سنة، وقد مضى نحو ثلاث وعشرين سنة على ربيع دمشق، أي ما يقرب من جيل كامل، وآزرتها مظاهرات في إدلب ودرعا حيث يستطيع الشعب أن يتظاهر. شاهدتُ تحليلات سياسية لمحللين مخضرمين عركتهم السياسة وضرّستهم بأنيابها يبشّرون بسقوط النظام، بل إنَّ أحدهم جزم بأن ضربة السويداء قاضية! وإن أمريكا لن تجيز للأسد إيذاء السويداء، فالأقليات خطٌ أحمر دوليٌ، وإنّ النظام سيسعى إلى تفريق مظاهراتها المؤلمة بطريقة فرّق تسد، ربما بداعش، كما أنّ للسويداء صلة بأقاربهم النافذين في إسرائيل، وقد تلحق جرمانا -وجلُّ سكانها دروز- فيعترضون حلق الأسد.
وبالغ بعض هؤلاء في الاستبشار بظهور مناضلين هصورين قساورة أمثال لمى عباس وبشّار برهوم، ما لبثنا أن رأيناهما فيما يشبه بوسترات سينما الستينيات الرومانسية وأفلام جديرة بأسماء مثل "الحب من أجل المتة"، و"لا تبكِ يا سيّد الوطن"، و"رئيسي فوق الشجرة". ومكثنا غير بعيد، فعلمنا أنهما نسختان منقّحتان من شريف شحادة، وأبي فلاشة، وخالد العبود، بل إنّ حركة عشرة آب ليست سوى حركة واحد نيسان. وإنَّ أهل الساحل (وهي تسمية معقمة من الطائفية على جري عادة المتعلمنين السوريين)، لن ينتفضوا ولو ماتوا جوعا. وإنهم ما زالوا يمتازون بحظوة الحاضنة، وكرامة أهل الدار، وإنَّ النظام سيرفق بهم. وإن أكثر مطالبهم لا تجاوز إبراز مذكرة قضائية عند الاعتقال، وإن طلبهم الرئيس هو ضرب التجار والمحتكرين بيد من حديد، وإصدار قرارات اقتصادية جريئة، وإذا بلغ بهم السيل الزبى وطفح كيل غضبهم وسخطهم، قد يتظاهرون في مظاهرات ليلية طيّارة مصوّرة من الخلف أو مظاهرات بحرية سبّاحة عند عجزهم عن شراء علبة المتة!
لكنَّ مظاهرات السويداء وفيديوهات الثائرين من الساحل لا تخلو من لطائف، وإن تأخرت، وقد أشعلها بعض ما أشعل مظاهرات المدن الكبرى، وأول لطائفها أنها لمَّت بعض وشائج الشمل السوري الممزق، فالآلام تلمُّ الشمل، وتنمّي النسب الوطني، والدليل هو عودة الشعارات الأولى في الثورة: "مثل يا سويداء حنّا معاكي للموت".
وهي مظاهرات لن تسقط النظام، ولن تكسره لكنها ستشعره، والشَعِر في الزجاج أقلُّ من الكسر. فإسقاط النظام مسألة معقدة، وهي شؤون دولية وقانونية وشعبية شاملة، وتمسُّ بأمن الدول المجاورة التي لطالما حرصت عليها الدول العظمى المذعورة من سقوط الأسد، لكنّ فائدتها تكمن في تخلخل قدسية الرئيس لدى مواليه وفي بيته، وتزعزع صنميته، وهي أقرب الصنميات العربية للصنمية الكونفوشية المتجلية في المثال الصيني وصنيعته الكوري الشمالي، والياباني أيضا، وهي دول تجمع بين الوثنية الدينية والسياسية، لنذكر أنه كان من شروط أمريكا وقف الحرب على اليابان أن يعلن إمبراطور اليابان أنه ليس ابنا للشمس.
ويمكن أن نستأنس بمثال مقتل الغازي البريطاني كوك في التفسير والإيضاح، ذلك أنه عندما وطأ جزيرة هاواي غازياً، وجده أهلها مجسدا لنبوءة عندهم تقول بإنَّ إلها أبيض، سيأتيهم على جزيرة عائمة من سدرة الغيب. وكانت هذه الأسطورة شائعة في عموم القارة العذراء، ولدن جميع شعوبها، وهي تشبه نبوءة المهدي عند الشيعة، وصوّرت في أفلام هوليودية كثيرة، مثل خاتمة فيلم "أبو كاليبتو" لميل جيبسون، وكتبت عنها روايات مثل "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، الذي صوّره فرانسيس كوبولا فيلما أخذ اسم "القيامة الآن"، حتى استقرت في نفس الغازي الأبيض أسطورة مشابهة ومعاكسة وهي أنه إله، وإنَّ من واجب جميع الشعوب الملوّنة والمغلوبة عبادته وتقديسه.
ترجل كوك من جزيرته العائمة ذات المجاديف، وخلع نظارته، فسحر شعوب الجزيرة بقدرته على خلع عينيه الزجاجيتين! وأخرج طقم أسنانه من فمه فذهلوا من معجزته، ووضع يديه في جيبيه، فعجبوا من إله يدخل يديه في بطنه ويخرجهما من غير أن تسقط، وعجبوا من عصاه السحرية التي تلفظ نارا بلمسة إصبع، وتجندل حيوانات قوية مثل البوفالو والجاموس والخنزير ببندقة معدنية، لكنهم ما لبثوا أن ضاقوا من بطشه وظلم بحّارته الذين كانوا يلتهمون خيرات الجزيرة حتى أتوا عليها، فأدركوا أنهم سيجوعون إن مكث هذا الإله الجشع في وطنهم، فطلبوا منه الرحيل، فأبى، فسدّد إليه أحدهم سهما فأصابه، فنزف دما، فأدركوا أنه محتال، وليس إلها، فاجتمعوا عليه وقتلوه. والعبرة من الخبر تقول إنّ الآلهة يجب أن تقتل في النفوس قبل أن تقتل على الأرض، وهذا ما يحدث في سوريا.
قد يكسب السوريون منطقة آمنة جديدة في السويداء، وقد تكون أكثر أمنا من الجزيرة السورية وأكرم منها وأعدل، لقربها من إسرائيل، ومن خاصرتها الأردن، وقد تكون وجهة للنازحين السوريين الفارين من عنصرية الترك البيض والفينيقيين اللبنانيين، حتى حين.
كانت روح أخيل في الأسطورة الإغريقية في قدمه، أمّا روح "أبو كاليبتو السوري" فموزّعة في ثلاث عواصم بعيدة وحصينة؛ هي طهران، وموسكو، وتل أبيب وواشنطن، ولن يسقط بالمظاهرات مثل تشاوشيسكو في رومانيا، وشتّان.
قال أبو كاليبتو السوري في لقاء قناة "أخبار السماء" إنه ينتظر أن تتغير الأوضاع السياسية، ونحن ننتظر مثله، وقد تساوينا وتعادلنا في الانتظار، وهي نقطة ثمينة في الصراع الدامي على "الإمامة". وقد تتصدق عليه إيران والإمارات بمعونات مثل البترول والرز يعيش بها إلى حين، فهو يعيش مثل رعيته بما يشبه البطاقة الذكيّة.
الأسد لا يشبه تشاوشيسكو، ولا يشبه الحكومة الهندية الوثنية أيضا، والتي سقطت في سنة 1998 لسبب صغير هو ارتفاع سعر البصل. تظهر المقارنة أنَّ الوثنية السياسية السورية أشدّ من الوثنية السياسية الهندية، وأظلم، وقد حطّت الهند بالأمس رحالها على كوكب القمر.
أبو كاليبتو السوري ضد الشمس والكسر، لكنّه يتعفن.
twitter.com/OmarImaromar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق