مواجهة التطبيع أم مواجهة الاستبداد.. أيهما أولى؟
في الحياة عمومًا، وفي أوقات المعارك والأزمات خصوصًا، يحتاج الإنسان إلى تحديد أولوية اللحظة، أو المعركة الأَولى من غيرها في تلك اللحظة، وعادة تتزاحم الأولويات، لكن الحكيم من يستطيع ترتيبها، بحيث يستطيع تحقيق نجاح كلي أو جزئي في المعركة التي يختارها.
وسط المعارك الكثيرة التي تعيشها الشعوب العربية وخاصة شعوب دول الربيع، تبرز معركتان ليستا متضادتين، ولكنّ كلا منهما تُمثل أولوية لدى البعض حسب مصالحه وتقديراته، وهما معركة مواجهة التطبيع مع الكيان الغاصب لفلسطين، ومعركة مواجهة الاستبداد الجاثم على صدور شعوبنا ودولنا.
في المعركة الأولى كما الثانية، تتعدد أطراف المواجهة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، فحين نتحدث عن التطبيع فإن المواجهة تشمل مواجهة المساعي الإسرائيلية المستميتة لاختراق مجتمعاتنا العربية، كما تشمل مواجهة الحكومات العربية المتماهية مع التطبيع، وتشمل أيضًا بعض النخب السياسية والثقافية والفنية المتورطة في التطبيع والتي تُمثل رأس جسر له، وفي المعركة الثانية تشمل المواجهة أساسًا الحكومات المستبدة، والنخب الداعمة لها محليًّا، والداعمين الإقليميين والدوليين أيضًا.
مواجهة الاستبداد أولًا
ونظرًا لأن طاقة قوى المواجهة ضعيفة في مقابل الإمكانات الهائلة التي تتوافر لحلف التطبيع أو الاستبداد، يصبح من الواجب تحديد الأولوية، ومعرفة واجب الوقت كما يقول الأصوليون، حتى لا تُهدَر تلك الإمكانات الضعيفة في معركة خاطئة أو غير ذات أولوية، ومع التأكيد أن معركة مواجهة التطبيع ستظل إحدى المعارك الاستراتيجية لغالبية القوى والشعوب العربية، وهي معركة تجمع بشكل أخص القوى الإسلامية والقومية، إلا أن واجب الوقت الآن هو مواجهة الاستبداد، فهو معركة الجميع من كل التيارات السياسية والفكرية، والاستبداد يمنع القدرة على الحركة، والتعبير عن الرأي في القضايا الأخرى، وبينها مواجهة التطبيع نفسه، وانظر إلى أوضاع الشعوب العربية التي ترزح تحت حكم استبدادي وكيف حُرمت من حق التظاهر، أو التعبير عن رأيها ضد الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، وضد هرولة حكوماتها نحو التطبيع بلا ثمن، وفي الوقت نفسه انظر إلى الشعوب التي تتمتع بحرية أو حتى بهامش نسبي منها، وكيف خرجت للتنديد بالعدوان والتطبيع.
من حق حركات التحرر والمقاومة الفلسطينية أن تجعل أولويتها هي التحرير ومواجهة تمدد مشروع التطبيع، ومن واجب الشعوب العربية والإسلامية أن تدعمها في ذلك، ومن حق قوى التغيير الديمقراطي أن تجعل أولويتها هي مواجهة الاستبداد والسعي لتحرير إرادة شعوبها منه، ومن واجب قوى التحرير أن تدعمها في ذلك، أو على الأقل تصمت، ولكن ليس من حق رموز أو قوى وأحزاب سياسية تتقدم لنيل ثقة شعوبها لتمثيلها برلمانيًّا أو حتى لتولي الحكم أن تغازل الاستبداد والمستبدين، وتهرول لزيارتهم، وكسر الحصار حولهم، والتقاط الصور معهم.
نجح الحكام المستبدون خلال العقود الماضية في جعل القضية الفلسطينية ستارًا لاستبدادهم، وأطلقوا شعارهم المعروف “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وسجنوا أو حتى قتلوا من رفع صوته طلبًا للحرية، والانعتاق من ظلمهم واستبدادهم، كما رفعوا شعار “فلسطين هي القضية المركزية للأمة”، والشعار بهذه الطريقة ينفي صفة “المركزية” عن غيرها من القضايا الكبرى ومنها قضية الحرية ومواجهة الاستبداد، والصحيح أن يقال فلسطين هي القضية المركزية في السياسات الخارجية، بينما تبقى الديمقراطية هي القضية المركزية للشعوب الواقعة تحت الحكم الاستبدادي.
الحرية قبل الشريعة
في العام 2004، وخلال لقاء مع الصحفيين بمؤسسة الأهرام، انتصر الراحل الشيخ يوسف القرضاوي للحرية كأولوية مقدَّمة على الشريعة، لأن تطبيق الشريعة لن يتم إلا بعد تحقق الحرية، ولأن الاستبداد السياسي يشكل حجر عثرة في حياة الأمة الإسلامية، كلام القرضاوي كان مغايرًا لما استقر في نفوس جيل الصحوة الإسلامية الذي رفع راية تطبيق الشريعة كأولوية عاجلة تهون من أجلها أي أمور أخرى، بما في ذلك قبول الاستبداد أحيانًا لو طبَّق الحاكم الشريعة الإسلامية كما فعل جعفر النميري في السودان فيما عُرف بقوانين سبتمبر/أيلول 1983، لكن كلمات القرضاوي التي قالها قبل عقدين من الزمان اكتسبت مع الوقت المزيد من الأنصار، وكانت هاديًا لثورات الربيع العربي التي رفعت شعار الحرية.
لا نذهب بعيدًا، فحين انتزعت الشعوب العربية عقب الثورات حريتها، أو هكذا خُيّل إليها، فإنها وضعت القضية الفلسطينية في مقدمة اهتماماتها على الفور، وحاصرت حشود المتظاهرين السفارة الإسرائيلية في القاهرة لأول مرة منذ تدشينها، واقتحمتها ونزعت العلم الإسرائيلي من شرفتها، وانكمش دعاة التطبيع لبعض الوقت خوفًا من غضب الشعوب وانتقامها، قبل أن يعودوا لفرض رؤاهم على المجتمع قهرًا بعد الثورات المضادة.
مما يؤسف له أن ما يوصف بحلف الممانعة أو المقاومة في منطقتنا في معظمه هو نفسه حلف الاستبداد، وكأن المقاومة لا تحدث إلا مقترنة بالظلم والقهر، وكيف لشعوب مقهورة داخليًّا أن تقاوم قهرًا خارجيًّا؟! ومع تقديرنا للجانب الإيجابي في حلف المقاومة، وهو دعمه للقضية الفلسطينية ولحركات المقاومة فيها، أيًّا كانت خلفيات ذلك وأسبابه، إلا أن الشعوب العربية تحتاج إلى حلف للحرية، ليرعى كل قوى التغيير الديمقراطي، بعيدًا عن الرعاية الغربية غير البريئة، التي تقصر دعمها على قوى بعينها تعتقد أنها امتداد لها، وقد كانت بذرة هذا الحلف ( حلف الحرية) قد غُرست بالفعل عقب نجاح الموجة الأولى للربيع العربي، لكنها لم تصمد كثيرًا في وجه الثورة المضادة، وإن كان نجاح تلك الموجة الأولى قد زرع الأمل لإمكانية تكرار ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق