الثعبان يطلّ برأسه في تركيّا من جديد
مضر أبو الهيجاء
المقدمة
كانت ولا تزال منطقة الأناضول التركية وشعوبها تعيش تحديات عظيمة منذ أن ارتبط تاريخها وتشكيلها وبنيتها بالإسلام العظيم ، ولأنها عظيمة بحملها لأمانة الدين، ولعظم أثر ذلك على واقع المسلمين فقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على فاتح أعظم مدنها وعمقها الحيوي–القسطنطينية- فقال عليه الصلاة والسلام :(لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش ) رواه أحمد والحاكم .
ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الغرب الصليبي عن الكيد للخلافة ودولة المسلمين التي امتدّ مجدها بيد الأتراك لخمسة قرون هي أكبر بل أضعاف عمر الحضارة الغربية الحديثة.
وما أن نال اليهود والصليبيون من دولة الخلافة قبل قرن حتى بدأت تضطرب أوضاع المسلمين، فضاعت فلسطين واحتلّ أقصى المسلمين، كما تشرذمت أقاليمهم لدول وطنية معاقة، رسمت وصنعت بأقلام المحتل وممثليهم المحليّين ورماحهم تقطر دما من كثرة القتل الذي أحدثته،حتى أخضعت شعوب المنطقة بالحديد والنار وفرضت الدين العلماني الغربي بديلا عن دين الإسلام متجسدا في عموم شؤون الحياة وقوانينها،محتفظة بهامش لطقوس المسلمين كما غيرهم من المشركين وعبّاد البقر على حدّ سواء، رغم أن الإسلام كان عنوان الحكم فيها وفي كل شؤونها طيلة أربعة عشر قرنا!
ولم يمض وقت طويل حتى فوجئ الغرب بحيوية الأمة المسلمة تنهض من جديد محاولة استرداد هويتها،والتي أعاد تنقيتها وصقلها علماء المسلمين من كل ما علق فيها من لوثات وطنية وقومية وديمقراطية وعلمانية معادية للدين، الأمر الذي دفع الغرب لضخّ الدماء والأموال والسلاح من جديد في شرايين عساكره المحليين ومنظومته الأمنية التي تركزت في جيوش وعسكر النظم العربية، كما استوطن طرفها اليهودي على أرض فلسطين، ثم عززها–ليضمن السيطرة عليها- بمشروع الطائفيين الذي رعته إيران لتزيد أضعافا مضاعفة من عذابات المسلمين الموحدين .
المدخل
منذ أن اعتلى الأخ رجب الطيب أردوغان سدة الحكم في تركيا بعد مشوار طويل بدأه مع أستاذة الكبير المهندس نجم الدين أربكان –رحمه الله- والمسلمون ينظرون بشغف لتركيا التي تحاول أن تسترد هويتها الإسلامية بعد أنعزلها وابتلعها ثعبان العلمانية الغربية بمكره ودهائه وقسوته التي نالت من دماء العلماء والمصلحين والدعاة المسلمين الأتراك والأكراد والعرب، كما نالت من وعي شعوبهم بعد أن بترتهم بقسوة وصلف عن تاريخهم فغيرت حروف لغة علومهم لكي تمنع تواصلهم مع تراثهم المكتوب طيلة خمسة قرون ، ولينتهي تاريخهم الى صورة صغيرة متقزّمة لا تعرف شيئا عن عظمة أجدادهم ولا عمق حضارتهم وعراقة امتداداتهم الا النّذر اليسير والذي بات محصورا عند الجيل الجديد بأقل من قرن ، أي منذ تشكل الجمهورية التركية بديلا عن الأقاليم العثمانية وأمجادها وإبداعاتها ومواقفها وتاريخها العظيم !
لقد شكّل صعود أردوغان -ذو النشأة والمنبت والانتماء الإسلامي- أملا عند العرب والأتراك، فأما العرب فقد باتوا منذ زوال دولة المسلمين كالأيتام على موائد اللئام يؤكلون وتستباح كياناتهم وتهرق دماؤهم في كل يوم، حتى لا تكاد تجد شعبا من الشعوب العربية إلا وذاق الذل والبطش والتجويع والسجن والتشريد منذ زوال الخلافة وحتى بالأمس القريب، وأما الأتراك -وفيهم الأكراد- فقد أعاد أردوغان لهم الأمل باستكمال ما بدأه الشهيد عدنان مندريس في مشروعه لاسترداد الهوية الإسلامية .
وقد شهدت الانتخابات التركية الرئاسية الأخيرة قبل أقل من ثلاثة شهور صراعا حادا بين مرشح منتم للإسلام يعبر عن هوية ومشاعر وآمال المسلمين وطموحهم في التغيير، وبين مرشح منتم للعلمانية يمثل هوية الغرب الثقافية ويعبر عن شريحة مشوّهة وضائعة ومضطربة في انتمائها الثقافي للإسلام والمسلمين، الأمر الذي جعل عموم المسلمين وخصوص العرب المكلومين والمشردين والمسجونين والمقهورين يرفعون أكف الضراعة لله بأن ينصر عبده أردوغان ليستكمل مشروع استرداد الهوية الإسلامية، وليكون حصنا منيعا لكينونة المسلمين، وليحنو مجددا على أيتام المسلمين الذين تقطعت بهم السبل فباتوا في العراء مشردين.
الفوز الرئاسي يغيظ العلمانيين والأعداء الغربيين والحكّام المستعربين
شكّل فوز الطيب أردوغان صدمة جارحة للغرب كما هي الصدمة التي صعقت عموم الأنظمة العربية والأحزاب السياسية العلمانية التركية والكردية والعربية على حدّ سواء، وأما في الجهة المقابلة فقد فرحت عموم شعوب العرب والمسلمين سواء منهم الكبير أم الصغير وحتى المقمّط بالسرير ، فيما انقسم المجتمع التركي إلى نصفين متساويين بين من فرح كعموم المسلمين، ومن غاظه هذا الفوز كجميع الغربيين، الأمر الذي أشار بوضوح الى أن المشروع الغربي قد نال حقّا من عقول وثقافة الأتراك فأصاب وعيهم وانتماءهم في الصميم، كما أشار لضعف التجربة الإسلامية في تركيا حيث لم يعكس فوز أردوغان الرئاسي مطلقا معنى الفوز والنجاح في التجربة الإسلامية التركية رغم كل ما تحقّق خلالها من ثمرات كالطفرة العمرانية الصناعية، ورغم ما تحقق من حيادية الدولة تجاه الدين، ورغم ما وفّره أردوغان ليجعل من تركيا دولة النجاشي التي تأوي اللاجئين والدعاة والعلماء والقادة الملاحقين.
ثعبان الانقلاب يطلّ برأسه من جديد
فشل الانقلاب العسكري سنة 2016، حيث أثبت الرئيس التركي شجاعة كبيرة، كما أثبت الشعب التركي وعيا كبيرا، كما ظهر لطف الله جليّا في تدبيره سبحانه، الأمر الذي حفظ الدولة التركية ومسيرتها التنموية الصاعدة، وخطواتها المتقدمة في نيل استقلالها النسبي بشكل حقيقي وسيادة قرارها السياسي الذي كان مرهونا للغرب بكلّيته، كما استفاد الطيب أردوغان من زلزال المحاولة الانقلابية الفاشلة ليغيّر النظام البرلماني إلى رئاسي فتصبح صلاحياته نافذة بشكل أكبر لتمكنه من خطوة أعظم في مشروع استرداد الهوية التركية، وهو ما توضح في جملة قرارات منها ما يتعلق بحرية العبادة حيث سمح بالحجاب في المؤسسة العسكرية والأمنية بعد أن كان محظورا طيلة قرن ، عداك عن التوسع في بناء المساجد والتوسع في الأوقاف والشؤون الإسلامية المتنوعة في عموم تركيا… الخ
لكن فشل الانقلاب قبل سبع سنواتلا يعني توقف محاولاته ولا فرط عقد أطرافه ولا انتهاء أفكار وخطط حلفائه الماكرين، بل ها هو يطلّ برأسه في المدن التركية كالثعبان من جديد، محاولا خلق ظروف موضوعية وبلورة محاور اجتماعية تهيئ له الفرصة للانقضاض من جديد، فما حدث في أول مرة قد يحدث في كل مرة.
تركيا بين الانقلاب العسكري الذي يستهدف الدولة وبين الانقلاب المجتمعي الذي يستهدف الهوية
كان انقلاب عام 2016 عسكريا حيث بدأ من أعلى هرم السلطة متجها نحو الأسفل وقد فشل تماما ولله الحمد والمنّة والفضل، أما اليوم وفي عام 2023 وبعد إخفاق الكيان العلماني -المعادي لهوية الأمة ودينها- في اختطاف الرئاسة، فقد ظهر الثعبان الذي أطلّ برأسه في المجتمع التركي ليبدأ خطّته من الأسفل ويهيئ الظروف المجتمعية بما يناسب مشروعه ويتجه نحو الأعلى فيستعيد قطف الرئاسة وخطف مشروع استرداد الهوية واستبداله ومسخه من جديد، وما يميّز خطّة الانقلاب الحالية أنها بدأت من الأسفل لتثب نحو الأعلى، وهي ماضية في هذا الطريق بخطى منظمة بدأت تراكم كرة الثلج في المدن التركية وبين شبابها وبعض الناشطين المؤدلجين العنصريين .
المهاجرون نقطة البداية والضحية الأولى أما الضحية القادمة فهي السلم المجتمعي التركي
من الواضح أن ثعبان الانقلاب قرر أن تكون مسألة المهاجرين هي نقطة البداية التي يتحشّد حولها الرعاع في مناخ من التجييش العصبوي الغرائزي والبروباغندا السياسية والإعلامية مستفيدا من حالة الغلاء العالمي والمحلّي وارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم وهبوط الليرة التركية على وجه الخصوص.
ومن الملاحظ اليوم أن مسألة قانونية تسوية أوضاع عموم الأجانب وخصوص العرب والسوريين في تركيا –كما تطرحها الدولة- لا تتناسب وطبيعة الايقاع التنفيذي على الأرض–وما يرافقه من استعراض إعلامي مبرمج- في عموم المدن التركية وخصوص اسطنبول وأنقرة، حيث تتعاظم ظاهرة استئصال المخالفين وغير المخالفين لاسيما من السوريين المهجرين ونفيهم خارج البلاد بطريقة غير إنسانية -كما تكشّفت حالات متكررة- حيث يفصل الزوج عن زوجته وأطفاله، وتفاجأ الأسرة بترحيل أحد أفرادها بأسلوب قهري تحت شكل طوعيّ!
يأتي هذا الإيقاع الأليم في حقّ اللاجئين ليزيد من عذاباتهم ونزيفهم بعد عشر سنين عجاف عاشوها مشردين، وهو إيقاع متناقض ومستغرب تماما مع ما عرف عن الأتراك من نصرة للمظلوم ووقوف إلى جانبه أيّا كان، حيث شهدت تركيا كما شهد الأتراك أروع حالات الكرم والتضحية والبذل في استقبال ملايين اللاجئين والإنفاق عليهم وإطعامهم وكسوتهم ورعايتهم الصحية وتمكينهم من إقامة أعمالهم ومشاريعهم وجمعياتهم وأوقافهم في صورة لم تشهدها أي حاضرة من حواضر المسلمين في القرن الأخير من حيث الشكل والكم والنوع، فما الذي حصل لتنقلب المعادلة إلى نقيضها، ولترتسم صورة واقعية عملية خارجة عن رؤية رئيسها؟!
وحتى تعي الجواب لابدّ من طرح سؤال آخر لتتبيّن حقيقة وخلفية هذا المشروع الخطير ، فمن الذي يقف اليوم خلف نزع هيبة لغة القرآن من عقول ووجدان الأتراك وهم الذين يتلون كتاب الله صباح مساء ويسمعون نداءه سبحانه وتعالى خمس مرات يوميا بخشوع وابتهال الى الله ودونما تأفف ولا رياء؟
لقد نزل عشرات الألوف من أبناء الشعب التركي مهللين مكبرين باكين في شوارع المدن التركية عندما سمح رئيس وزراء تركيا الأسبق الشهيد عدنان مندريس بالأذان باللغة العربية عام 1950، وذلك بعد عقود من الأذان باللغة التركية ، فهل يستقيم أن يكون حب لغة القرآن متجذّرا في وجدان الأتراك ثم يطالبون بنزع ومسح اللغة العربية من شوارع المدن التركية ولافتات المؤسسات والجمعيات العربية وهي لغة القرآن الكريم وكلام الله جلّ في علاه؟
ودونما أدنى شكّ فان من يقف خلف موجة طرد المهاجرين بعلّة عدم قانونية أوراق البعض منهم هو نفسه من يسعّر الكراهية للغة العربية ولأهلها الذين اختصهم الله -دون سواهم من الأمم- بنقل الهداية للعالمين، وما كل تلك الخطوات المتلاحقة والمتناقضة إلا في سياق الانقلاب على مشروع استرداد الهوية الإسلامية لتركيا بعدما فشل الانقلاب الأخير وبعدما خابت الحسابات السياسية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فكان لابدّ من تغيير للخطّة بشكل يخلط الأوراق ليعيد تشكيل الواقع التركي من جديد، كما ويعيد رسم صورة مغلوطة وقبيحة في وجدان العالمين العربي والإسلامي فيحدث فجوة بينهما لا يرجى إصلاحها -لا قدر الله- .
المجتمع التركي هو الضحية الكبرى
من المخيف والمرعب أن تتشكّل حالة من العنف والسلوك القاسي والمتعاظم تجاه العرب والمهاجرين واللاجئين في عموم المجتمع التركي انطلاقا من مقولات عبثية سياسية واقتصادية مجحفة وغير علمية ولا موضوعية -والكلام في هذا يطول لبيان وتعرية هشاشتها وضعفها كما يروّجها ثعبان الانقلاب القادم من خلال أبواق إعلامية غبية أو مأجورة أو مأزومة أخلاقيا بعصبية جاهلية-، فكان الواجب الذي لابدّ منه أن ينتبه المصلحون في المجتمع التركي نفسه إلى أن هذا التجييش سيصنع فكرا وسلوكا جديدا في المجتمع التركي المسالم وعند جيل الشباب التركي الصاعد والذي بات يبني تصوراته الفكرية من خلال التيك توك والإعلام غير المسئول، وهو فكر سينتهي إلى شرعنة الأفعال القاسية والجارحة تجاه المخالفين بديلا عن التراحم والحوار والاستيعاب، ليصبح سلوكا عامّا وليس خاصّا.
وإذا كانت مسألة المهاجرين والعرب واللاجئين بسيطة في تركيبتها وتكوينها وفهمها، إلا أن حجم التعقيد في المجتمع التركي وأعراقه واثنيّاته وتجاربه وصراعاته الداخلية معقّد وله امتداداته وإشكالاته التاريخية،والذي يمكن أن يعيد ثعبان الانقلاب إحيائها من جديد بعد استدعاءها في وعي الشعوب التركية وجماهيرها، ولكن بعد أن يكون قد هيأ سلوكا اجتماعيا جديدا ضحيته المخبرية الأولى هي عموم العرب وخصوص السوريين، وهو سلوك خطر ومدمر سيتعدّى العرب والمهاجرين لينتقل بين الأتراك أنفسهم انطلاقا من مبدأ النفعية وقاعدة الجاهليين (أنا وابن عمي على الغريب ، وأنا وأخي على ابن عمي).
ان ما يحدث اليوم تجاه المهاجرين واللاجئين وعموم العرب وخصوص السوريين من أذى نفسي ينالهم جميعا قبل أن ينال من البعض فينفيهم ويطردهم، بناء على مناخ غوغائي شعبي يشرعن هذا ويقبله انطلاقا من رؤيته لمصالحه النفعية في عزلة عن معاني الأخوة الإسلامية والإنسانية، سيحصل لاحقا بين الأتراك أنفسهم -لا قدر الله- عندما تخبو مسألة المهاجرين وتضيق أحوال العباد معاشيّا بشكل أكبر، ويزداد التنافس والتناحر على العيش، حينها لن ييأس ثعبان الانقلاب من إبداع مقولات تفرق بين الأخ وأخيه وبين ابن الشمال وابن الجنوب وبين ابن المدينة وابن القرية وبين من ينتسب لهذا العرق أو ذاك الحزب.
ان المسؤولية عن تلك الصورة القاتمة سواء منها القائمة حاليا أو القادمة لاحقا هي مسؤولية مجتمعية بالدرجة الأولى قبل أن تكون مسؤولية الدولة وأجهزتها–وليس في هذا إعفاء للدولة ولا إهمال لدورها-، وهي مسؤولية تعبر عن وعي المجتمع من خلال وعي وفاعلية قاداته وعلمائه ومصلحيه ووجهائه، فأين هم هؤلاء؟ وأين هم مما يحيكه الثعبان من حولهم ليلتف على رقابهم؟ وأين حجم بذلهم لتحريك قطاعات الشعب باتجاه يواجه هذا المسار المتعاظم الفاسد والضالّ؟
لن ينقذ الأتراك غدا إلا الدفاع عن المهاجرين اليوم
إن القيم لا تتجزأ، ومن يقبل هدر كرامة أخيه البعيد اليوم رعاية لمصالحه الضيقة، فسيقبل هدر كرامة أخيه القريب عندما تشتد الأزمة حول مصالحه بشكل أكبر، لاسيما عندما يستسلم العقل للثعبان الأكبر الذي يطلّ برأسه في ساحات المدن التركية مشعلا فتنة ومروجا لمقولات مغرضة ومتفننا بإبداع وترويج لمقاطع فيديو تعبر عن أحداث فردية -حقيقية أو مفبركة أو مدفوعة الثمن- لينتهي لصناعة وعي مغلوط ينال من المرء ودينه وخلقه وأمنه القريب والبعيد.
إن من يميزه الوعي والمسؤولية والشجاعة تجاه المجتمع التركي المسلم والمسالم، وتجاه التجربة الإسلامية التركية التي تسير بصعوبة على قدم واحدة بين الأشواك، عليه أن يتحرك ويرفع صوته ويحدث حراكا شعبيا واعيا متعاظما ومسئولا بين وتجاه الأتراك أنفسهم قبل المهاجرين فهم مسلمون وعلى دينهم غيورون ، وذلك من خلال المحافظة على القيم الإسلامية والإنسانية والأخوية التي تشكّل الصمام الحقيقي لحفظ السلم الاجتماعي في شعب متعدد الأعراق ومختلف الانتماءات، كما أن رصيد القرآن والسنة والسيرة النبوية زاخر بالآيات والأحاديث والمواقف التي شكّلت الأسس لصهر الأعراق في أمة الموحدين وعالجت ما يعتريها من أصناف الخلل وفتن الشياطين، وبهذا الرصيد الكبير يمكن أن نعالج ونستعين.
الرئيس أردوغان بين المهام الصعبة والقرارات النافذة
لقد ذهبت كوكبة من علماء المسلمين وكبار أعيانهم قبيل أسبوع في زيارة للرئيس أردوغان وبهدف المباركة بالفوز الرئاسي، وأيضا لبثّ هموم اللاجئين وعموم العرب وخصوص السوريين تجاه موجة من الاعتداء يتم تحريكها وترويجها بشكل ممنهج متجاوزة القانون في شكله ومضمونه، وقد وعد الرئيس الطيب خيرا ، كما أوجد آلية للتواصل تحول دون أشكال الظلم والاعتداءات التي وقعت في الفترة الأخيرة ولا تزال.
ومن نافلة القول أن الرئيس أمام تحديات ومهام كبيرة وكثيرة، لاسيما أن ثعبان الانقلاب حاول ولا يزال يحاول استئصاله وإنهاء وجوده السياسي ليمنع من تقدم مشروعه ويعرقل خطواته في استرداد الهوية الإسلامية التركية.
لكنّ الرئيس أردوغان الذي عبّر من خلال استقباله للعلماء المسلمين عن هويته وانتمائه ومشروعه -وأخلاقه التي غابت عن حكام العرب الحاليين-، عوّدنا كما أدهش العالمين بقراراته الجريئة تجاه تحديات صعبة ومهام عظيمة، فهو من يملك الصلاحيات النافذة اليوم، حيث يمكّنه هذا من أن يضع خطة ويعلي من شأن المواجهة مع هذا التيار الذي يقف خلف موجة تستهدف تفكيك التماسك المجتمعي بتركيا مبتدئة بمسألة المهاجرين واللاجئين السوريين كطعم لتحشيد الناخبين وإتلاف عقول وسوية عوام الشعب وكذلك الموالين.
وكما استطاع الطيب أردوغان أن يواجه مع جزء كبير من شعبه المحاولة الانقلابية العسكرية ليحفظ الدولة التركية، فانه يستطيع أن يواجه مع جزء كبير من شعبه المسلم المحاولة الانقلابية المجتمعية ليحفظ الهوية التركية والقيم الإسلامية.
واذا كان التصدي للمحاولة الانقلابية الأولى سنة 2016 يعبر عن سلامة الكيان والجسد التركي ويحقق وحدة الدولة ودوام التنمية، فان التصدي للمحاولة الانقلابية في هذه السنة 2023 يعبر عن سوية التجربة التركية وأفهام روّادها ويحقق تماسكا وسلما في عموم المجتمع التركي ويحفظ الهوية.
الشيخ وجدي غنيم امتحان للحيوية وللضمير وبداية ترسم الطريق :
لم يشتهر الشيخ وجدي غنيم –رغم علمه- بمؤلفاته الكثيرة ، ولم يعرف عنه أنه مجتهد مقيّد ولا مطلق، ولكنّه عرف كداعية يخشى الله سبحانه، ولذلك يشهد له بأنه رجل المواقف الإسلامية الشجاعة والمطلوبة في وقتها، سواء تجاه قضايا الأمة التي يعي جيدا واقعها أو قضايا الدعوة التي يحمل همّها ويغار عليها .
عالم ربانيّ محكوم بالإعدام في بلد المظالم نتيجة موقفه في مواجهة الباطل وتأييده للحق والشرعية ورفضه للانقلاب سواء أكان في مصر أم في تركيا لا يجوز في حقّه أن يبقى دون غطاء قانوني يحميه -اليوم وفي المستقبل- من حكام الجور وذيولهم الذين يبحثون عن كل عالم يصدع بالحق ويفضح فسادهم لينهوا حياته أو يخرسوا صوته ويكمموا فمه .
إن الشيخ غنيم ليس فردا يعبّر عن حالة لجوء لشخص فرّ هاربا باحثا عن مسكن وطعام وماء! بل هو جزء من مشروع وكيان ومستقبل إسلامي تجب المحافظة عليه ورعايته، وهو ما حدث بالفعل حيث قام العلماء العرب والأتراك بالأمس بجهد طيب وكريم لحلّ تلك الإشكالية ومعالجتها بشكلها القانوني وفق ما أوصى به مشكورا الرئيس الطيب أردوغان.
وكم من العلماء والدعاة والقادة المسلمون الذين لجأوا إلى تركيا من أمثال الشيخ وجدي غنيم وهم حقيقة مهدّدين ولكن لا يعلم بحالهم إلا الله ولا يسمع صوتهم أحد من العالمين، فهل يبحث عنهم ويتلمّس أحوالهم الغيورين ؟
إن هؤلاء العلماء الكرام -عربا وأتراكا وأكرادا- والذين يرثون النبوة في الفهم السليم والموقف السديد والشجاعة اللازمة هم من يعوّل عليهم لتصحيح البوصلة التي اختلّت تجاه قضايا الأمة ودينها، وهم من يقدرون اليوم على صياغة مشروع يتضمّن رؤيتهم في معالجة تلك النازلة والموبقة التي حلّت بتركيا بتدبير من الثعبان اللئيم، ليتلف أوضاع الناس ويتمكن من عقول وأمزجة العباد فيحركها مستقبلا كيفما يشاء.
وإذا كان شكل التعامل والتفاعل مع مسألة اللاجئين في تركيا يعبر عن ضمير ووعي الشعب التركي ، فان مسألة الشيخ وجدي غنيم–وأمثاله من العلماء- وتوفير غطاء قانوني حقيقي ودائم له يعبر عن ضمير ووعي العلماء الذين لن يخيبهم نجاشي العصر رجب الطيب أردوغان -نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا-.
ان كرامة العلماء الربانيين لا تقل هيبة وإجلالا عن حرمة دماء الموحدين، ونحن هنا نتحدث ناصحين بما نراه حقا وواجبا تجاه عموم العلماء والدعاة وروّاد الحركات الإسلامية الذين اجتمع آلاف من خيارهم وأفاضلهم وقاماتهم وأصحاب المواقف من بينهم في تركيا، وذلك لأن من يحكم تركيا اليوم هو رجل يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو بإذن الله ناصر وسند وعون لهم بعد أن شرّع الأبواب مفتوحة بكرم وحفاوة أمامهم، بل هو من يحتاجهم في الدنيا ليكونوا عونا له على إصلاح الرعية وفي الآخرة للشهادة أمام رب العالمين.
ولعل مسألة الشيخ والداعية الرباني وجدي غنيم تكون بداية لرسم خطة وطرح تصور علمائي في معالجة تلك النازلة التي أصابت كثيرا من اللاجئين فأقضّت مضاجعهم سواء من رحل منهم أو من بقي منهم بين القاعدين دون شعور بالأمان متين.
الخلاصة
تركيا كانت ولا تزال وستبقى -بإذن الله- قلعة وحصنا للمسلمين في وجه المشاريع الغربية والطائفية والصهيونية التي تستهدف الأمة والدين، وقد جعلها قدرها هذا في مشهد متصدر يستهدفه الأعداء في كل حين.
وبعد كل محاولات الأتراك والأكراد المصلحين في سياق التجربة التركية الإسلامية المعاصرة ورغم كل التضحيات، إلا أن تجربة النهضة التركية لا تزال مستهدفة وفي أول الطريق وأمامها تحديات عظام تستوجب نصحا ودعما وتأييدا لكل مسار خير قائم فيها.
ولئن فشلت محاولة الانقلاب العسكرية عام 2016 فان هذا لا يعني توقف محاولات الانقلاب من قبل الأعداء وحلفائهم الماكرين ، حيث تشير الهجمة على المهاجرين واللاجئين واللغة العربية عن فعل مصطنع وغير طبيعي يناقض تاريخ الأتراك المعروفين بكرمهم والغيورين على أمتهم والدين ومسارهم الأصيل،هذا الفعل الذي يعبر بوضوح عن مشروع يستهدف خلخلة البنية القيمية للمجتمع التركي ومسخ ما تبقى من هويته الإسلامية، حيث تطيح هذه الهجمة بجزء من الهوية الإسلامية عبر إسقاطه القيمة الإخوة الإسلامية، والتي برزت بقوة في العقد الأخير حيث احتضنت فيه تركيا-الدولة والمجتمع- العرب والمهاجرين المكلومين فارتفعت أسمهما في الوعي الإسلامي حتى بلغت عنان السماء.
أن من يقف خلف دفع الأتراك للتضحية بإخوانهم المستضعفين لاغيا لقيمة الإخوة الإسلامية هو الثعبان الدخيل، والذي يبث سمومه ليحدث ضعفا واهتراء في الجسد التركي يمكّنه من انقلاب مجتمعي -لا قدر الله- بعدما فشل في انقلابه العسكري عام 2016 وانقلابه السياسي عام 2023 ولم يتمكن من اختطاف الدولة، وهو انقلاب على الهوية الإسلامية التركية يبدأ اليوم بأحد القيم الإسلامية التي إن غابت -لا قدر الله- فلن تغيب فقط تجاه العرب والمهاجرين بل سيظهر أثرها ويكون ضحيتها الشعوب التركية ولو بعد حين .
أن حالة الهستيريا الإعلامية التي تضخم الأحداث وتصنعها بشكل ممنهج وتوزع مدروس على المدن التركية تهدف إلى صناعة سلوك عدائي واستعدائي عند الفرد والمجتمع التركي مبتدئة اليوم بالمهاجرين لتنال لاحقا من تماسك البنية المجتمعية التركية بعد أن يغيب خلق التراحم الإسلامي والأخوي والإنساني وتحلّ محله قيمة المصلحة والمنافع الضيقة التي تشكل منهجا سيدفع في نهايته قابيل لقتل أخيه هابيل.
أن علماء العرب والأتراك والأكراد المصلحون يتحملون اليوم واجبا كبيرا في مواجهة الثعبان الذي يطلب رؤوسه الثلاثة في الساحة التركية ليعيد صياغة واقعها ويهيئ مجتمعها للانقلاب القادم على الهوية الإسلامية من جديد، الأمر الذي يستدعي خطّة طوارئ إسعافية لا تقل في جديتها وشوكتها عن خطة مواجهة الانقلاب العسكري الفاشل وما أعقبه من خطوات مدروسة بترت ذيوله لتنهي إمكانية عودته من جديد .
وان الرئيس أردوغان –الذي ندعو له بالتسديد- بعد أن مكّنه الله بتدبيره من سدّة الحكم أمام تحدّ إسلامي إنساني رسالي قيمي كبير سيرسم خط سير مجتمعه ورعيته ويكون مسئولا عن صلابة وتماسك واستدامة السلم الشعبي المجتمعي ، ومسئولا أمام الله سبحانه وتعالى عمّن لجأ إليه من علماء وعوامّ المسلمين .
ما قلته من حق فمن الله وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق