الأحد، 20 أغسطس 2023

حكايتي (1) لا ينتصر سجان

 حكايتي (1) لا ينتصر سجان 

 أغسطس 17, 2023  

أسعد طه

(1)
اسمي: باسم خندقجي، فلسطيني رغمًا عني، وفلسطيني بإرادتي؛ فالمرء يولد في مكان لا يختاره، لكني لاحقًا اخترت فلسطين، أعيش منذ عشرين عامًا متنقلاً بين عدة سجون، أما عمري فهو أربع روايات، وديوانان من الشعر، وثلاثة أحكام مؤبد، هذا هو الموجز، وإليكم التفاصيل.


(2)
وُلدت في الشهر الأخير من عام 1983، درست حيث وُلدت في نابلس، لم أستسغ ما وقع لي في امتحان الثانوية العامة، فقررت إعادة المحاولة، وبالفعل نجحت، وقررت أن أمضي قدمًا وألتحق بجامعة النجاح الوطنية، لم تكتف أمي بتشجيعي ببضع كلمات، بل راحت فباعت هي بعضًا من مصوغاتها الذهبية لتسديد المصروفات، والتحقت أنا بقسم الصحافة والإعلام.
عام 2004 كانت الانتفاضة الثانية مشتعلة حين استشهد قائد كتائب الشهيد (أبو علي مصطفى) ونائبه أثناء اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال في مدينة نابلس، فقرر رفاقه الانتقام.
وبالفعل وقبيل ظهر اليوم الأول من نوفمبر، يدخل عامر الفار -بصحبة أعوامه الثمانية عشر- سوق الكرمل المركزي والمكتظ برواده وسط تل أبيب، يضغط بخفة على زر، ينفجر الحزام الناسف، يلقى الشهادة، ويقتل أربعة من المحتلين، ويجرح عشرات غيرهم.
مدركًا أن المرء يدفع ثمن خياراته، نمت في تلك الليلة قرير البال في بيتي، إلى أن اقتحم جنود الاحتلال منزلنا بعنف، قاموا بتفريق العائلة وإنزالهم لبيت الجيران، ثم بادروا إلى اعتقالي دون السماح لي بالحديث مع أهلي، أو حتى توديعهم.
اتهمت -مع آخرين- بتقديم المساعدة في هذا العمل الاستشهادي، اعتقلوني بينما كنت في عامي الجامعي الأخير، وحكموا عليَّ بثلاثة مؤبَّدات، لكن الطريف أن الاحتلال طالبني بدفع تعويض يقدَّر بما يزيد عن أربعين مليون شيكل لعائلات القتلى.


(3)
في السجن عانيت عذاب التحقيقات، لكني لم أندم أبدًا، غير أني كنت مخيرًا بين أن أتوقَّف عن الحياة، وبين أن أستمر بها.
نكاية في شياطين الأرض اخترت الأخيرة.
في السجن كتبت مقالي “شكرًا لمؤبَّداتكم”، وقصدت بها قضاة المحكمة العسكرية الثلاثة الذين قرَّروا إصدار حكم المؤبَّد بحقي ثلاث مرات متتالية.
في السجن أكملت دراستي الجامعية للبكالوريوس، والماجستير، وأعمل الآن على نيل درجة الدكتوراه.
وفي السجن كتبت “مسودات عاشق وطن”، عشر مقالات عن الهمِّ الفلسطيني، وكتبت أيضًا “وهكذا تحتضر الإنسانية”، عن تجربة الأسير الفلسطيني داخل السجون وهمِّه اليومي.
وصدر لي ديوانان من الشعر، ودراسة عن المرأة الفلسطينية، وكتاب “أنا الإنسان نداء من الغربة الحديدية”.
وفي السجن كتبت أربع روايات: “مسك الكفاية”، و”نرجس العزلة”، و”خسوف بدر الدين”، و”قناع بلون السماء”.
كان معي حق إذن أن قلت لهم: شكرًا لمؤبداتكم!

(4)
في الأوقات الصعبة اقلب المعركة لصالحك، أغمض عينيك عن كل ما بك، تحسس نفسك، ابحث جيدًا عن نقطة قوة لديك، أمسك بها، وأطلقها، وأرهم العجب العجاب.
أحبُّ السرد منذ صغري.
“نهاية رجل شجاع” للروائي السوري الشهير (حنا مينا) كانت أول رواية أقرؤها وعمري لم يتعد العاشرة، كبرت والتحقت بصفوف حزب الشعب الفلسطيني، وعمري آنذاك 15 عامًا، وفي المرحلة الثانوية أسست أول مجلة حائط في مدرستي.
وفي السجن اخترت الحكاية.
الحكايات طيورك، تنطلق خارج أسوار سجونهم، تلف العالم كله، تحمل رسائلك، تحدِّث العالم بلغاته، وتبلِّغه أن المسألة هي مسألة وقت، أما النصر فلنا.
يسألني الناس: كيف لك أن تكتب روايات تاريخية بهذه الدقة وبما تحتاجه من مراجع، بعيدًا عن مقعد أثير، ومشهد رومانسي، وفناجين الشاي والقهوة، وقبلة من أم أو زوجة أو حفيد؟ كيف لك أن تهزم كل هذه الأسوار؟ كيف يفعل ذلك سجين؟
وأنا أجبت مرارًا: كل حر يفعل وإن كان مسجونًا.
احتفى الناس بروايتي “خسوف بدر الدين” احتفاء بالغًا، إنها من ذاك النوع التاريخي، تتحدَّث عن البطل الصوفي بدر الدين في رحلة تمرده على الفساد، وعلى وعَّاظ السلاطين، رافضًا لعب دور الببغاء، فما فائدة العلم بلا كرامة؟!
قالوا عن الرواية ما قالوا..
إنها تركِّز على أسباب أفول الحضارات، وضياع الأوطان، بعد أن تذهب بريحها كل الصراعات والفتن والحروب.
وإنها رواية مليئة بالقلق، رواية التباس وشك وعدم يقين.
وإن من يقرؤها إنما يشاهد فيلمًا أكثر منه أنه يقرأ بسبب هذه اللوحات التصويرية البديعة التي رسمتها -كما يقولون- بدقة.
وصفوا روايتي بأنها ملحمة عن قائد ثورة اجتماعية لم يقيَّض لها النجاح مثل ثورات سابقة في تاريخ الإسلام والمسلمين، حيث لم تكن الظروف الموضوعية ناضجة لنجاحها، ولتحقيق أهدافها في نصرة المظلومين.
أما إبراهيم نصر الله فقد قال: إني بهذه الرواية التاريخية أتأمل معنى القوة في معادلة الحب، ومعنى النصر في ظل الدمار وسفك الدماء، وحال البشر في تنوع أجناسهم وأحلامهم وأديانهم، وطموحات تلتهم أصحابها كما يلتهمون أعداءهم.
“أن يذهب شاعر وروائي فلسطيني مثل باسم على الرغم من ظلمة زنزانته، لعناق النور في روح متصوفة، وعناق التسامح والحب والجمال الذي يملأ قلب بدر الدين وقلوب مريديه، فإن ذلك يعني أن السجَّان لن ينتصر، على الرغم من كل الوحشية”.


(5)
في روايتي هذه كتبت:
“لَقد قُمنا بما يَتوجب عَلينا القيام به يا أخويَّ، لقد تجرَّأنا على البوح بالحق والعدل والعلم والانعتاق، لجأ إلينا مَن لجأ من الناس، هانئين بما أزلناه عن قلوبهم من علق الخضوع والرضوخ، في زمن البطش هذا، زمن يموت فيه المساكين من شدة صقيع القسوة والسطوة، زمان تعاهدنا فيه على أن نَكون قرابين الدفء”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق