الأحد، 18 يناير 2015

المسيري.. مات!! الأسئلة الثلاثة التي لم يجب عنها من كتبوا عن المسيري

المسيري.. مات!!

الأسئلة الثلاثة التي لم يجب عنها من كتبوا عن المسيري

د. محمد عباس
اشتعل فضاء الشبكة العنكبوتية - الإنترنت - بهذه الجملة ، كما أُرسلت عبر آلاف الرسائل على الهاتف المحمول : كانت الجملة القصيرة محملة بالفجيعة والألم والإحساس باليتم: المسيري مات..
كانت الكلمتان تحملان نفس النبرة الفاجعة التي تحملها نبرات أم تنعي إلى أبنائها موت أبيهم.. أو وطن ينعي ابنه الأكبر والمسئول عن ريادته وقيادته والوصول به إلى بر الأمان..
المسيري مات..
عليه من الله الرحمة والرضوان ولنا فيه الصبر والسلوان..
لكأنما خلقه الله في هذه الدنيا كي يجعله شاهدا على العالم في إيصال رسالة الله إليه وإقامة الحجة عليه..
والحقيقة أن أي كلمات تقال في رثاء المسيري لا توفيه حقه، وليس يعزي المسلمين فيه إلا حسن ظنهم بمآله عند ربه، وهم لا يزكونه على الله بل يحتسبونه ويحسبونه ممن عناهم الحديث النبوي الشريف: مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة" وهم يحتسبونه في مقعد صدق عند مليك مقتدر ويرجون أن يكون – إن شاء الله- في الفراديس العلا.
رثاؤنا كمسلمين للمسيري لن يوفيه حقه.. كما أن الكتابة عنه في مقال في مجلة شهرية تبدو مستحيلة.. فمثله يحتاج دورية أو دوريات باسمه تنكب على دراسته، نعم، فهذا الفيلسوف الموسوعي الفذ سيتعب من يأتي بعده لدراسته.
سوف نحاول قدر ما نستطيع أن نختصر المعلومات المعروفة عن المسيري فهي منشورة ومكررة في آلاف الأماكن والصحف والمجلات والمواقع، لذلك سوف نكتفي بالحد الأدنى للتعريف والذي ورد جزء منه بموقعه وجزء آخر على موقع قناة الجزيرة، ومواقع أخرى، فهو أهم مفكر عربي إسلامي في العصر الحديث على الأقل وأستاذ غير متفرغ بكلية البنات جامعة عين شمس.

 وُلد في دمنهور 1938 والتحق عام 1955 بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية وعُين معيدًا فيها عند تخرجه، وسافر إلى الولايات المتحدة عام 1963 حيث حصل على درجة الماجستير عام 1964 (من جامعة كولومبيا) ثم على درجة الدكتوراه عام 1969 من جامعة رَتْجَرز Rutgers.
وعند عودته إلى مصر قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية من أهمها جامعة الملك سعود و في أكاديمية ناصر العسكرية، وجامعة ماليزيا الإسلامية، كما كان عضوا بمجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، ومستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك وعضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بليسبرج، بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومستشار التحرير في عدد من الحوليات التي تصدر في ماليزيا وإيران والولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا (مرحلة الثمر). ومن أهم أعمال الدكتور المسيري موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد (ثمانية مجلدات) وكتاب رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية غير موضوعية- في البذور والجذور والثمر.
وللدكتور المسيري مؤلفات أخرى في موضوعات شتى من أهمها: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (جزأين)، إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (سبعة أجزاء).
كما أن له مؤلفات أخرى في الحضارة الغربية والحضارة الأمريكية مثل: الفردوس الأرضي، و الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، و الحداثة وما بعد الحداثة، و دراسات معرفية في الحداثة الغربية.
والدكتور المسيري له أيضاً دراسات لغوية وأدبية من أهمها: اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود، و دراسات في الشعر، و في الأدب والفكر، كما صدر له ديوان شعر بعنوان أغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية.
وقد نشر الدكتور المسيري عدة قصص وديوان شعر للأطفال وهو بهذا موسوعة علمية وأدبية فلسفية.
لو أننا قلنا أن عبد الوهاب المسيري أعظم فلاسفة العرب خلال ألف عام ما جاوزنا الحقيقة..
عبد الوهاب المسيري هذا شرفه الله وكرمه بأن حرم المنافقين من السير في جنازته، ليذكرنا بسيدنا عمر ابن الخطاب الذي حمد الله لأن قاتله الذي سيواجهه يوم القيامة لم يركع لله ركعة.
عبد الوهاب المسيري هذا رفض وطنه أن يعالجه بينما يعالج المنافقين والقوادين والراقصات .
عبد الوهاب المسيري هذا لا تكفيه مقالة عابرة.. ولو أن هذا الوطن أنصف لجعل كل مؤلفات المسيري مقررات دراسية تدرس في مختلف مناهج التعليم عامة وفي كليات العلوم الإنسانية خاصة بدلا من تلك المقررات الشاذة التي تقتلع الدين من جذوره وتنشر الكفر والشذوذ، بل وتترك لنا عددا كبيرا من خريجي هذه الكليات وأساتذتها حطام بشر ومرضى نفسيين تعرضوا لغزو فكري عات دون أن يدربوا على مقاومته فانهاروا، وليس لدينا مانع من بقاء هذه المناهج الكافرة، ولكن بشرط ألا يقتصر التدريس عليها كما يصر العلمانيون الأشرار أعداء الله والأمة عملاء الغرب والشيطان، بل يجب أن تبقى لتُدحض وتواجه بالرأي الآخر الكفيل بالقضاء عليها، الرأي الصحيح المقدر لمنجزات الغرب والمتعالي في نفس الوقت على جرائمه الفكرية، والمزدري لها بل والمسفه لقيمه الوحشية والمهترئة ، والمحتقر لقدرته على الكذب والاختلاق والتزوير والقتل، ومثل هذه الآراء يقول بها الكثيرون من المفكرين المسلمين بل والغربيين الذين يتسمون بالنزاهة وعلى رأس هؤلاء وأولئك الدكتور عبد الوهاب المسيري.
الكتابة عن المسيري تبدو مستحيلة استحالة أن تسير في شارع واحد من شوارع القاهرة ثم تحاول رسم كل تفاصيل كل شوارعها. أو أن تحاول شرح موسوعة ضخمة بعد أن تقرأ صفحة واحدة فيها، بل وحتى لو قرأت معظم أعماله، فإن أي كتاب للمسيري، وربما كل مقالة تحتاج إلى ندوات وحلقات لتفسيرها وبسط أطروحاتها وطريقته السلسة السهلة المعجزة في توليد المتناقضات أو توفيقها، وفي الكشف عن عوار الآخرين وعجزهم.
وفي هذا الصدد فإننا نرجو بقايا الجزر المعزولة التي لم يصبها التعفن والفساد بعد، في وزارة الثقافة أو مكتبة الأسرة أن تعيد طبع مؤلفات المسيري بمئات الآلاف من النسخ، بدلا من أكداس الكتب المخزنة في مخازنهم والتي لا يقرأها أحد، حيث تحول النشر عندهم إلى رشوة كعربون ومقدم ثمن لخيانة أو مكافأة عليها..
ترى.. هل شرفت مكتبة الأسرة بأن تنشر أي عمل من أعماله؟ وهل كررت وزارة الثقافة فعلتها الغريبة بنشر سيرته الذاتية؟
لمن ينشرون إذن إذا لم ينشروا لأستاذ الأساتذة.
 نعم..أستاذ الأساتذة كما يصفه الدكتور إبراهيم البيومي غانم قائلا: " وكنت في كل مرة أكتشف بعداً جديداً من "الثورة" التي يحدثها في عالم الأستاذية، وفيما يجب أن تكون عليه علاقة العالم (مثله) بالمتعلم من أمثالنا. كان ثورة في الأستاذية نادراً ما عرفنا مثيلاً له، وهو أيضاً ـ رحمه الله ـ ثروة من العلم الرصين، والمعرفة الموسوعية، والثقافة الثرية، والفكر المتجدد، والإبداع الخلاق في ميادين شتى.
 من حيث الحجم تشهد أعماله بأهميته "كثروة" من المؤلفات والبحوث والدراسات والمقالات الكثيرة"
لن نستطيع رثاء المسيري إذن، ولن نستطيع استعراض أعماله، لكننا سنحاول الإجابة على أسئلة ثلاثة لم يتصد للكتابة عنها من كتبوا عنه..
السؤال الأول: هل جاء المسيري بفكر جديد لم تعرفه الأمة أم كان امتدادا وتجديدا لفكرها..
السؤال الثاني: ما هو سر موقف العلمانيين منه، وهو موقف شديد التناقض، إذ يبالغ في الإشادة بشخصه وفي نفس الوقت يتجاهلون فكره..
السؤال الثالث: لماذا نجح المسيري فيما لم ينجح فيه سواه.. ولماذا اشترك في مقاطعته العلمانيون والغرب وإسرائيل.
في إجابتنا عن السؤال الأول نقول أن المسيري كان امتدادا رائعا وناصعا لأجيال و أجيال قبله، لكنه استطاع أن يفلت من التعتيم والتشويه الذي فرض على من كانوا قبله.
إن ما يقوله المسيري هو نفس ما كان يقوله سيد قطب ومحمود شاكر ومحمد قطب ومصطفى صادق الرافعي و مالك بن نبي ومحمد الغزالي وعلى عزت بيجوفيتش وناصر الدين الألباني وجاد الحق علي جاد الحق ومصطفي الشكعة وعادل حسين وطارق البشري ومحمد عمارة وأحمد شلبي ومصطفى السباعي، بل إنه بشكل من الأشكال يعتبر امتدادا وتطويرا لمحمد أسد وجيفري لانج ومريم جميلة وكيث مور وهو من أكبر علماء التشريح والأجنة في العالم وتيجاتات تيجاسون رئيس قسم علم التشريح في جامعة شيانك مي ، تايلند ومراد هوفمان ورجاء جارودي و عبد الكريم جرمانيوس...العالم المجري الذي وصفه العقاد بأنه:"عشرة علماء في واحد" وعبدالواحد يحيي (رينيه جينو) و الفرنسي روبرت بيرجوزيف أستاذ الفلسفة الجامعي وزيجريد هونكه و جوته وآنا ماري شميل وهنري دي كاستري واللورد هدلي وآتين دينيه ومراد هوفمان والبروفسور (مونتيه) وموريس بوكاي وديزيريه بلانشيه. بل إننا نتجاوز في القول لنشعر أثناء حديثه عن مغريات الدنيا وذئابها الثلاثة: الثروة والشهرة والتفاصيل، أننا نقرأ في كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي. 
وسوف نتجاوز هذا المدى دون وجل لنقول أن المسيري -الذي نضى عن نفسه في آخر حياته كل أوصافه السابقة ولم يعد يرحب إلا بوصف واجد هو أنه المفكر الإسلامي- هو مجرى النهر الحقيقي الذي يحاولون تجفيفه وهو الامتداد الطبيعي لفكر السلف الصالح، بل هو قراءة عميقة للكتاب والسنة.
 قراءة أعمل فيها عقله الفذ ليكتشف أن المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو جزء من الكيان والهوية.
 إنه يقول أن الإيمان داخله لم يولد إلا من خلال رحلة عقلية طويلة ولذلك فإنه إيمان تأملي عقلي لم تدخل عليه عناصر روحية فهو إيمان يستند إلي إحساس بعجز المقولات المادية عن تفسير ظاهرة الإنسان والي ضرورة اللجوء إلي مقولات فلسفية أكثر تركيبية. ويوضح أنه اكتشف الدين كمقولة تحليلية وليس مجرد جزء غير حقيقي من بناء فوقي ليس له أهمية في حد ذاته..المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو جزء من الكيان والهوية.
تعس إذن أولئك المرجفون الذين يزعمون أن الدين مجرد علاقة بين الإنسان وربه وهم لا يقصدون إلا هدم الدين كله، فالدين هوية محركة ضابطة حاكمة للمجتمعات والدول والأمم والأفراد جميعا.
نعم.. كان المسيري يشكل طوفانا تدفق على غير توقع في مجرى نهر كانوا قد ظنوا أنهم أوشكوا على تجفيفه، لكن ما أن جاءت التسعينات من القرن الماضي طوفان عبد الوهاب المسيري يتدفق في النهر من جديد -وكما يقول رضوان السيد-الحياة 8-7- كان نجم عبد الوهاب المسيري قد كسف كل الشموس الأخرى، وفي ثلاثة مجالات: شرور الثقافة الغربية والتيارات التغريبية فيها، والصهيونية باعتبارها ظاهرة قوية جداً في الحضارة الغربية، والإسلام السياسي باعتباره ظاهرة احتجاجية وأصولية مهمة لبناء عالم جديد غير العالم المشوَّه الذي بناه الغرب في ديارنا!
كان طوفانا تدفق في نهر مجفف وكانت منابعه هي ذات منابع النهر الأولى.
أما الإجابة عن السؤال الثاني: وهو عن سر موقف العلمانيين منه، حيث يبالغون في الإشادة بشخصه وفي نفس الوقت يتجاهلون فكره فإنها تقتضي منا أن نسترجع في خشوع بدائه صنع الله جلت قدرته، عندما جعل حماية موسى عليه السلام تتم على يد الفرعون الطاغوت وحاشيته الكافرة حتى يشتد عوده فينبري لينشر الإسلام رسالة الله ودينه الحق.. فقد كانت الحاشية العلمانية هي التي سهرت على رعاية المسيري حتى انتشرت شهرته في الآفاق..إنهم يفعلون مثل ذلك بصعاليكهم فكيف يكون الأمر إذا حدث مع عبقري كالمسيري.. لكنه خدعهم وآمن!.
والإجابة عن هذا السؤال تقتضي أن نستعيد كلمة خائبة لجمال عبد الناصر، رائد تزوير الانتخابات وقائد الهزائم وقاهر العزائم ومبتدع المحاكم العسكرية والمذابح والتعذيب، كلمة قالها بعد هزيمة 67 المروعة حين قال في تبرير كاذب لها:
"انتظرناهم من الشرق فجاءونا من الغرب"
لقد انتظر العلمانيون أن يأتيهم فكر عبد الوهاب المسيري من الشرق فجاءهم من الغرب ليوقع بهم هزيمة ساحقة كهزيمتنا سنة 67 ولكن في الاتجاه المضاد.
كان العلمانيون في بلادنا مجرد ببغاوات تردد مقولات الخارج، حيوانات باعت أنفسها وسكنت أقفاصا من ذهب وراحت تردد ما يلقن لها، وكان هؤلاء وأولئك من الذين تشمئز قلوبهم لذكر الله، لكن المسيري الذي شرح الله صدره للإيمان لم يقل لهم قال الله وقال الرسول: بل اندفع كطوفان هائل يكتسح كل من يقف في طريقه فإذا بالكيانات الضخمة تنجرف أمامه كعلب ثقاب فارغة.
لم يستند المسيري في أفكاره إلى مقولات إسلامية وإنما أدان الفكر الغربي من منظور غربي وعالمي .
لقد أدرك ما أدركه إدوارد سعيد الذي فضح في كتابه الهام "الاستشراق" الصور التي صنعتها الثقافة الغربية للشرق والإسلام تبريراً لاستعماره.
لقد كشف إدوارد سعيد كم أن الغرب وحشي وكاذب ومخادع، لكنه اقتصر على ذلك، لم يضع حلا، حتى تقدم العملاق العظيم عبد الوهاب المسيري ليبني فوق ما شيده إدوارد سعيد وليصرخ في البرية: الإسلام هو الحل.
الممارسات المجرمة التي يتبعها العلمانيون في بلادنا، وهي ذات الطريقة التي ينظر بها الغرب إلى شعوبنا، من اتهام بالجهل والتخلف والهمجية والغباء، هذه الطريقة لم تكن تصلح مع المسيري الذي درس الفكر والأدب الغربي وحاز فيه على أرفع الدرجات العلمية واستوعب الفلسفة الغربية والتاريخ فلم يبد منبهراً أو حتى معجباً بالفكر الغربي، بجناحيه الرأسمالي والماركسي، بل إنه وجه ضربات نقدية موجعة لهذا الفكر، فاضحاً جذوره النفعية والاستغلالية وسمته المادي المعادي لكل ما هو إنساني، كان قد أدرك أن الاستعمار والنهب مكون أصيل في الرؤية الغربية، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر بلورت المنظومة الحضارية الغربية رؤيتها للعالم وللآخر وللذات، وتنطلق هذه الرؤية من أن العالم في جوهره مادة، وأن ما يحكمها هو قانون الحركة المادية، وأن ما هو غير مادي ليس بجوهري، ولا يمكن أن يُؤخذ في الاعتبار حينما ندير شؤون دنيانا ومجتمعنا، بمعنى أنه لا يوجد معايير إنسانية أو أخلاقية أو دينية تحكم حركة الإنسان والدول.
وفي هذا الإطار تحركت جيوش أوروبا ثم الولايات المتحدة، واقتسمت العالم فيما بينها، وحوّلته إلى مناطق نفوذ، وفرضت رؤيتها على العالم بأسره، وهذه الرؤية يمكن أن نلخص سماتها الأساسية في أن الصراع هو أساس العلاقة بين الدول، وبين الدولة والفرد، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، أي أن ما ساد هو رؤية ميكافيللي وهوبز للإنسان (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، وهي ذاتها الرؤية التي طورها داروين عالم الأحياء المعروف واستفاد منها كارل ماركس، وتسيطر هذه الرؤية حالياً على العلاقات الدولية والإنسانية، وعلى اقتصاديات السوق، سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي
هذا التصور الوحشي للعالم هو ما أثبته المسيري على العالم الغربي ليمزق أستار الكذب التي تخفى الغرب خلفها طويلا مدعما بالميديا الهائلة التي يسيطر عليها والتي تستخدم العلمانيين والخونة.
يدرك المسيري ما وقعنا فيه من مزالق وما استدرجنا إليه، فيلاحظ على سبيل المثال أن الانتماء القومي في هذا الإطار يعطي صاحبه حقوقاً مطلقة، فلو قرر أعضاء قومية ما أو عرق ما أن من حقهم ضم هذه الأراضي أو طرد هذا الشعب أو حتى إبادته (كما جري في أمريكا الشمالية وفي ألمانيا النازية وإسرائيل الصهيونية) فهو حق لا يمكن لأحد أن يعترض عليه، وهو حكم لا يمكن استئنافه، وهذا الإطار الفكري والمرجعي أفرز فكراً عنصرياً كريهاً قسم العالم إلى عالم غربي متقدم وعالم غير غربي متخلف.
يصرخ ضمير المسيري وترتج جنبات نفسه إزاء عالم غربي يبدو أكثر شراسة ووحشية من أشد حيوانات الغابة وحشية وشراسة. لقد أدرك أن النموذج المادي عاجز عن تفسير سلوك الإنسان وعواطفه ودوافعه، إلى أن يعرج به فهمه للإنسان "الرباني" إلى الإيمان بالله وبدلاً من الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصل إلى الله من خلال الإنسان، لقد عرف نفسه فعرف ربه إنها "الإنسانية الإسلامية" التي تنطلق من رفض الواحدية المادية والتي تصر على ثنائية الإنسان والطبيعة المادة، وتصعد منها إلى ثنائية الخالق والمخلوق.
خاض المسيري في بحور الفلسفة الغربية وظل ربع قرن يقاوم الإيمان رغم أنه لم يقع أسير الإلحاد الكامل، ثم من الله عليه بالإيمان وبالتدريج تحول الإيمان إلى رؤية شاملة للكون، وإطار للإجابة عن كل التساؤلات والمرجعيات بحيث يصبح العالم بلا معنى ولا مركز بدون الرؤية الإيمانية الإسلامية.
وبعد تحوله الفكري أصبح يرفض كل ما هو غير إنساني، فيرفض عبادة الطبيعة أو التكنولوجيا أو العقل أو العاطفة أو المثالية الخالصة أو الروحية الخالصة، فهذه كلها مكونات متكاملة متناقضة؛ لأن الإنسان هذا الكائن الفريد يقع في نقطة تلاقي بين كل هذه العناصر، وذلك في سياق فهمه لقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:28-29].
إنه يدرس أعمق تفاصيل الفلسفة الغربية ليدرك أنها تهدف إلى تحويل العالم كله إلى مجرد أدوات مادية بدون غاية أو مآل و يفقد الحياة معناها ويحولها إلى تعبير دهري دنيوي. إن الغرب يفقد الإنسانية معناها ليتحول الإنسان إلى شيء من الأشياء ليس أفضل ولا أسوأ، إنه يقرر في حسم أن الإنسان المعجزة يجاوز كل الحتميات الطبيعية التي يدعيها الماديون، كما يكتشف أن وجود الله سبحانه وتعالى هو الضمان الوحيد لوجود الإنسان, وبغياب الله يتحول العالم إلى مادة طبيعية صماء, خاضعة لقوانين الحركة والضرورة التي يمكن حصرها ودراستها والتحكم فيها.
يصل المسيري إلى استنتاج قاطع أصبح هو نبراس حياته ، إنه يصفع العلمانيين بتعال وقوة وازدراء مؤكدا أن العلمانية الشاملة تشكل تهديداً خطيراً ليس للإيمان الديني فقط بل للإنسانية كلها ، وهو يرى أنها وصلت لمنتهاها، لأن خطرها في واقع الأمر يتهدد الأيديولوجيات العلمانية أكثر من الأيديولوجيات الإيمانية لأن الأيديولوجيات الإيمانية الحقيقية تؤمن بأن هناك منظومات قيمية خارج الإنسان يمكن الإهابة بها واستئناف الأحكام، بعكس العلمانية التي ترى أن الإنسان مرجعية ذاته.
لم يكتفِ المسيري بنتاجه الغني في نقد الصهيونية بل هو أيضا ناقد أدبي مميز في حقل الثقافة المقارنة، وهو صاحب مؤلفات بالعشرات في الفلسفة والاجتماع والأدب بشتى فروعه، مما يدل على عمق معرفته بالثقافة الغربية والأميركية على نحو خاص، ولقد كانت عبقرية المسيري وموسوعيته وسيطرته على العلوم الإنسانية بمثابة دليل لا يدحض، كانت كالحمض النووي في إثبات السفاح والاغتصاب والدنس، وكان يكشف بما لا يدع مجالا للشك، أن ما تحمله أدمغة العلمانيين في بلادنا ليس منا.. بل هو حمل مدنس ومخيف، وهو حمل من الأعداء على حد تعبير مظفر النواب.
 كانت أدلته لا تدحض ولذلك لجئوا إلى مدحه تقية وإلى تجاهله لمحاصرة تأثيره.
وربما كانت تجربة التأليف المشترك في كتاب حوارات لقرن جديد- العلمانية تحت المجهر- دار الفكر المعاصر- دمشق سوريا- والذي اشترك في تأليفه الدكتور المسيري والدكتور عزيز العظمة. والدكتور عزيز العظمة في نظر العلمانيين قلعة شامخة يحتمون بها.. لكنه تحول أمام المسيري إلى طفل غرير مثير للسخرية والرثاء، ولذلك لم يكرر العلمانيون التجربة أبدا..بل قرروا ألا يواجهوه على الإطلاق.
نأتي لإجابة السؤال الثالث: وفي الحقيقة أن الفصل بين السؤال الثاني والثالث هو فصل تعسفي، ذلك أن العلمانيين في بلادنا ليسوا سوي جزء من المنظومة الغربية الصليبية الصهيونية الملحدة، و إجابة السؤال الثاني تصلح كلها كإجابة على السؤال الثالث. بيد أنه من الجدير أن نذكر أن جزءا من عبقرية المسيري أنه فضح جذور الفكر الصهيوني كما فضح العلمانية. حيث رأى أن الفكر الصهيوني ليس يهودياً بل هو استعماري يستخدم الدين كأداة للتبرير تماماً كما حدث في الحروب الصليبية. فالصهيونية هي أحد إفرازات الفكر الاستعماري الغربي، الذي قام على الفلسفات المادية التي كانت ذروتها نظرية فوكوياما عن نهاية التاريخ. لقد سبق للمسيري أن أصدر كتاباً عام ١٩٧٢ اعتبر فيه أن نظرية نهاية التاريخ ليست إلا فكرة فاشية.
نعود إلى جملة وردت في صدر هذا المقال:
لكأنما خلقه الله في هذه الدنيا كي يجعله شاهدا على العالم في إيصال رسالة الله إليهم وإقامة الحجة عليهم..
والجملة ليست لنا.. وإنما استعرتها من آخر من يمكن أن نقرنه بالدكتور عبد الوهاب المسيري.. فالجملة لإمام مسجد فقير معدم لكنه بلغ في سلم الإنسانية ذروة عالية.. الجملة للملا محمد عمر الرئيس الشرعي لأفغانستان.. الذي قال:
"أنا أرجو أن يجعلني الله شاهدا على العالم في إيصال رسالة الله إليهم وإقامة الحجة عليهم.."
وأظن الملا عمر يمثل الفطرة الإنسانية في أعلى درجات توهجها ونقائها حتى لو خلت من الثقافة بمفهومها العصري.. أما الدكتور عبد الوهاب المسيري فيمثل ذروة سامقة في الثقافة النزيهة والفلسفة المتجردة.. لكنهما يلتقيان في نفس النقطة.. شاهدين على العالم وحجتين علينا..
هنا.. تسمع العين وترى الأذن ويخفق العقل ويفكر الفؤاد ويتضافر عنصرا الإنسان كجسد وروح في كيان لا يمكن فصمه أو تقسيمه إلا بالقضاء عليه..
فهل هي عبقرية المسيري؟
أم هي في الحقيقة عبقرية الإسلام؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق