الحقائق الساطعة وسط الحمى العالمية ضد الإرهاب
عبد الله الأشعل
أستاذ القانون الدولي
الذي حدث في باريس ضد مجلة "شارلي إيبدو" إرهاب صريح والذين قاموا به إرهابيون، والحادث وأشباهه يستحق الإدانة. ولكن الإدانة والتظاهر ضد الإرهاب يفوّت الفرصة على العقلاء لدراسة الظاهرة وليس القفز عنها بحالة هستيرية تزيد الإرهاب قوة ولا تقضي عليه، والدليل على ذلك أن هذا العالم الذي يتسابق إلى إدانته هربا من استحقاقاته الحقيقية يمارس خداعا للنفس.
في هذه الحمي، أصبح لكل من المتظاهرين جميعا إرهابه الخاص. فالفلسطينيون المطالبون بحقوقهم المشروعة من كيان غاصب أصبحوا إرهابيين وقتلهم صار قربة إلى الله، كما صار حصار غزة مساهمة جدية في هذه الحملة، حتى ولو تبرأت حركة حماس من إخوانيتها أو هجرت غزة أو تركت السلطة.
والمعارضون في العالم العربي للحكم المستبد هم إرهابيون ويتعين القضاء عليهم، حتى لا يكون إلا صوت الحاكم المستبد الذي يزين حكمه بالطغيان وإبادة الشعب، ومع ذلك تظهر المنطقة العربية وكأنها فيها ما يشبه الدول، ولكنها لا تملك مقومات الدول وأهمها القانون والعدل.
فالولايات المتحدة تخطط مع بقية الغرب لضرب الإسلام والمسلمين، وهي التي تستخدم الإسلام والمسلمين هذه المرة لكي يقضي بعضهم على بعض. ولا ينكر أحد من الباحثين الغربيين أن الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي قامت بمساندة أميركية، وواشنطن هي التي جندتهم جميعا في معاركها، وأهم معاركها الآن تبرير استغلالها للعالم العربي، وتبرير وحشية إسرائيل ضد كل الشعوب العربية، وتغذية عوامل التفتيت بوسائل متعددة أهمها دعم الحكام المستبدين.
"الاستبداد هو بداية الخيط، فهو الذي يقهر الشعوب ويدفعها إلى الجهل والفقر وتجميد العقل. ولو قدر لهذه الشعوب أن تفهم دينها فهما صحيحا -بعيدا عن دهاقنة الإسلام ودجلهم- لما أمكن للحاكم المستبد أن يبقى في حكمه يوما واحدا"
وذلك لأن الاستبداد هو بداية الخيط، فهو الذي يقهر الشعوب ويدفعها إلى الجهل والفقر وتجميد العقل، وهو الذي يفتح المدارس والجامعات والمعاهد الدينية التي تسبح باسمه وتملأ عقول الشباب بالفارغ من الدين، لأنه لو قدر لهذه الشعوب أن تفهم دينها فهماً صحيحاً -بعيداً عن دهاقنة الإسلام ودجلهم- لما أمكن للحاكم المستبد أن يبقى في حكمه يوما واحدا.
فالنموذج العربي في مقاومة الإرهاب الذي تسبب الحاكم في صناعته كالنموذج الإسرائيلي تماما يشعل المنطقة ويكشف النفاق السياسي، ولذلك ظهرت النظرية التي تقول إن الحاكم كلما كان طاغيا توثقت علاقاته حتى غير الظاهرة مع إسرائيل؛ فالقهر العربي والإسرائيلي هما أهم أسباب الإرهاب والعمليات الانتحارية.
وجميع التنظيمات الإرهابية التي تعمل اليوم على تشويه صورة الإسلام والإساءة إلى المسلمين تعمل في دول إسلامية وبدعم دول إسلامية، منذ أن أصبح الإرهاب أداة في سياسات الدول المستبدة حيث يكون الدين مؤمَّماً ويصبح الحاكم إلهاً.
النتيجة النهائية لهذه الحمى -التي تستضيفها باريس بعد العمليات الإرهابية التي تعرضت لها مدينة النور- هي جزء من مخطط لإجلاء المسلمين من الغرب، مما سيزيد الصراع ويوجد أسبابا أخرى للعنف.
والحقيقة الثابتة هي أن حركة الشعوب وتلاقح الثقافات لن تتوقف بإغلاق الحدود أو إشعال النار ضد الإسلام والمسلمين، تلك النار الذي يتسابق المسلمون أيضا إلى إشعالها، فيجب أن يظهر العقلاء ويشيروا إلى مصدر الداء الذي نلخصه في الحقائق الخمس الآتية:
الحقيقة الأولى: أن الإرهاب هو العنف الذي يسببه الظلم والقهر كما يسببه فساد العقل وفساد الثقافة والفهم المغلوط للدين، مثلما يتسبب من اتجار بعض الدول والجماعات بالدين.
ولا يكون الحل هو ما يردده البعض من فصل الدين عن الدولة لأن الإسلام في الدول العربية يختلف تماما عن المسيحية في الدول الأوروبية من حيث التاريخ ومكانة الدين ورجال الدين المسلمين، الذين كان معظمهم في خدمة السلطان وهم أهم أدوات النظام في التضليل والقهر للشعوب، ولذلك انهارت سلطة المؤسسات الدينية الرسمية وظهر الدعاة والمجتهدون والمتاجرون ليسدوا هذا الفراغ الكبير.
لهذا السبب لا بد من إعادة الاعتبار إلى المؤسسات الدينية الرسمية بعلاج لا أظن أنه ممكن، وهو الفصل بين الضمير الديني للعلماء والسلطان، وألا يكون ذهب السلطان وسيفه هما مؤشر الفتوى عند هؤلاء العلماء، وهذا أمر مستحيل في ظل وضع يُعتبر فيه الحاكم وبطانته هم الدولة والدنيا والآخرة.
الحقيقة الثانية: هي أن الإسلام بريء من معظم الذين يلتحفون به والذين أصبحوا عبئا عليه، ولذلك فإن الخراب لهم ولبلادهم والمجد للإسلام ولكلمة الله إلى قيام الساعة.
"ألاعيب الغرب ضد الإسلام والمسلمين ومكائد اليهود كذلك لم ولن تنقطع، ولذلك على المسلمين أن يرتبوا بيتهم من الداخل حتى لا يكونوا طعاما سائغا للمؤامرات، ونقطة البداية هي أن يتقي الحاكم العربي ربه قبل شعبه "
وننطلق من هذه الحقيقة إلى نتيجة هامة، وهي من يعلّم الشعب حقائق الدين بعيدا عن السلطة بعد أن فسدت المؤسسات الرسمية وألحِقت بالسلطان وأصبحت أداة لتبرير الظلم.
هذا هو مضمون الثورة الدينية التي يجب أن تجرى في العالم العربي، لأن السلطان هو أسّ الفساد، ورجال الدين إما أن يكونوا مرآة للآخرة أمام الحاكم، وإما أن يكونوا أعوان الشيطان يزينون له سوء عمله، ولذلك عليهم أن يختاروا بين الدنيا والآخرة بعد أن استحال عليهم التوفيق بينهما.
وليتدبروا مبادئ الحياة وهي ميلاد وحياة، قدر الله فيها أرزاقهم وجعلها مزرعة لآخرتهم، وبعدها موت فبعث فحساب، تلك دائرة حديدية لا يفلت منها أحد، فليكن عملهم في الدنيا باسم الدين قربى إلى الله، وليس تزلفا للحاكم الذي هو جزء من هذه الدنيا.
الحقيقة الثالثة: هي أن ألاعيب الغرب ضد الإسلام والمسلمين ومكائد اليهود كذلك لم ولن تنقطع، ولذلك على المسلمين أن يرتبوا بيتهم من الداخل حتى لا يكونوا طعاما سائغا للمؤامرات، ونقطة البداية هي أن يتقي الحاكم العربي ربه قبل شعبه لأن التقوى هي أن يقي الإنسان نفسه من غضب الله، وليس بالمظاهر الفارغة الأخرى التي يظنون أنها تعطيهم سمت المؤمنين.
الحقيقة الرابعة: هي أن الغرب يطبق مبادئ الإسلام الصحيح وهي العدل ومساءلة الحاكم وإنفاذ القانون على الجميع، ولكن الغرب يجرم في حق الإسلام والمسلمين عندما يدعم مستبديهم، وتفسح بنوكه خزائنها لأموالهم، ويتستر على فجورهم.
ولذلك يتساءل البعض عن أسباب صدور الإرهاب من مسلمين ضد الغرب؟ والإجابة واضحة، وهي أن معظم الدول الغربية شجعت مواطنيها المسلمين بل أغرتهم بالتوجه إلى سوريا، ولكنها قمعت من توجه منهم لمساندة المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي للعراق، أي أن هذه الدول الغربية استخدمت مواطنيها المسلمين فقط لضرب الإسلام والمسلمين في سوريا ضمن خطة إجرامية شاركت فيها دول عربية.
فلما تغيرت الدفة في واشنطن شددت هذه الدول على مواطنيها العائدين من سوريا بعد أن كانت تشجعهم على ذلك، وبعد أن شجعتهم أيضا من قبل على الجهاد فى أفغانستان، فارتبك الشباب: أين الخطأ وأين الصواب؟ خصوصا أن هذه الدول زينت للشباب الخروج إلى الجهاد في مكان ومنعتهم من الجهاد في مكان آخر بفتاوى دينية، فاهتز مؤشر الحقيقة أمامهم.
"إن إدانة الإرهاب أمر مطلوب، ولكن الأهم هو معالجة جذور الإرهاب بأمانة وتجرد، وليس تقديم المعارضين للأنظمة والشاكين من القهر والمتململين من الظلم وقودا لهذه الحمى. ونقطة البداية هي مسؤولية الحاكم في كل دولة"
السبب الثاني هو أن الأقليات الإسلامية في أوروبا تتمتع بحكم القانون الغائب في بلدانها الأصلية، وباقتصاديات الموقع في مجتمع متقدم تسوده الحرية وحكم القانون والنظام.
أما في بلدانها فإن إرهاب الدولة هو الذي يخلق إرهاب الشعوب، بسبب غياب العدل وتراكم القهر واصطناع القانون والظلم والمحسوبية، وغياب المرجعية العادلة التي يعود إليها الناس، ولذلك سجل المصريون أعلى معدل في الشكوى إلى أولياء الله شفعاء عند الله، بدلا من أن يواجهوا الحاكم الظالم تاريخيا الذي تسنده عصابة الدين والدنيا.
ولذلك يبدو غريبا أن يتطرف المسلمون في هذه البلاد الغربية، وأن يسلكوا سبيل الإرهاب ضد مجتمع أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وسهل لهم ممارسة حرياتهم الدينية، إلا أن يكون هناك سبب يحتاج إلى دراسة أمينة.
الحقيقة الخامسة: هي أن الإجراءات الأمنية لحماية الآمنين مطلوبة، ولكن تحصين الدولة ضد العنف والإرهاب لا يكون إلا بالقانون والعدل، فما بالنا ونحن نرى هذه الحمى التي أقحم فيها إرهاب الدولة في إسرائيل وإرهاب بعض الدول في العالم العربي.
إن إدانة الإرهاب أمر مطلوب، ولكن الأهم هو معالجة جذور الإرهاب بأمانة وتجرد، وليس تقديم المعارضين للأنظمة والشاكين من القهر والمتململين من الظلم وقودا لهذه الحمى، وإلا كان ذلك إيذانا بانقضاض المجتمع على الدولة والعودة إلى الغاب. ونقطة البداية هي مسؤولية الحاكم في كل دولة.
كذلك لا يجوز أن يُفهم من هذه الحمى تعطيل القانون أو إدانة الإسلام والمسلمين، أو تبرير قهر إسرائيل للفلسطينيين، لأن هذا القهر وعدم احترام القانون في العالم العربي ودور بعض النخب الدينية والاجتماعية في تبرير الظلم (فضلا عن الفهم الخاطئ للدين وتوظيفه)، هي الأسباب المباشرة لأي إرهاب في أي دولة، خاصة أن أوروبا مطالبة بالتخلي عن الحكام المستبدين في المنطقة، بعد أن حققت العدل والرخاء في بلادها التي نتنفس فيها نسيم الحرية.
وأخيرا؛ رجاؤنا من الدول الأوروبية أن تؤكد أن حرية الإبداع لا يجوز لها أن تؤذي المسلمين بالطعن في رموزهم، خاصة أن هذه الحرية لا تمتد إلى رموز غيرهم، وقد عرف الفراعنة فلسفة الحضارة: "عش ودع غيرك يعيش" (Live and let live).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق