الثلاثاء، 20 يناير 2015

ما بعد شارلي إبدو: التقاط الكرز!


ما بعد شارلي إبدو: التقاط الكرز!

أحمد بن راشد بن سعيّد

في غمرة الهياج الدعائي السائد في وسائط الأخبار الخليجية والعربية ضد الهجوم على مجلة شارلي إبدو، اختفى أي نقاش متوازن، وغُيّبت عمداً أحداث العنف الهمجي واسع النطاق ضد المساجد في فرنسا والتي تلت الهجوم.
ومن اللافت أن هذه الوسائط (قناة العربية وجريدة الشرق الأوسط مثالاً) ظلت تزعق ضد «الإرهاب» في باريس، وتمارس في الوقت نفسه الإرهاب من خلال تشنيعها على كل من يقدم رواية أخرى، أو يحاول تحليل الموقف في ظل سياقاته الاجتماعية والسياسية والتاريخية، وهو ما أشرت إليه بالتفصيل في مقال الأسبوع الماضي.
وبينما غرقت معظم الصحافة العربية المهيمنة (ورقية ومرئية) في تكريس رواية فارغة واحدة عنوانها «إرهاب من دون ولكن»، حاولت (ويا للمفارقة) كثير من الصحافة الغربية السائدة سبر أغوار القصة التزاماً منها، على الأقل، بالحد الأدنى معايير التناول والتحليل.
ثمة جانبان أساسيان للقصة ركزت عليهما هذه الصحافة: 
التمييز ضد المسلمين في فرنسا، و «ازدواجية المعايير» في مقاربة «التعبير الحر» في الخطاب الفرنسي.
كنت أشاهد حلقة من برنامج المذيعة كريستيانا مامبور في سي إن إن (16 كانون الثاني/يناير 2015)، ولاحظت كيف استضافت أحد أعيان مسلمي فرنسا (عضو المجلس البلدي في ضاحية سانت دينس بباريس واسمه مجيد) مع آخرين لمناقشة تداعيات الهجوم على المجلة الفرنسية.
 من أبرز ما قال مجيد: «المشكلة أن النخبة في فرنسا؛ الجمهورية الفرنسية، لا تعد الإسلام ديناً طبيعياً. لايزالون يعدّونه تهديداً. لايزالون ينظرون إلى المسلمين، ليس بوصفهم مواطنين، بل أعداء من الداخل» (مجلة لوفيغارو كانت قد نشرت في أواخر عام 2012 استطلاعاً للرأي أظهر أن 43% من الفرنسيين يرون في الإسلام «تهديداً» للهوية الوطنية، بينما قال ثلثا المستطلَعين إن المسلمين لم «يندمجوا» جيداً في المجتمع الفرنسي، و 68% منهم ألقوا اللوم في ذلك على المسلمين).
رغم كل ما يُقال عن وجوب «اندماج» الأقلية المسلمة (الأكبر في أوروبا) في المجتمع الفرنسي، فإن الممارسات التمييزية ضدهم تلقي شكوكاً على مفهوم هذا الاندماج والمراد منه.
هل هو اندماج بمعنى «الفرنسة» الكاملة المنقطعة عن الهوية المحلية، أم هو اندماج يعترف بالتعددية والتنوع ولا يصطنع تناقضاً بين كون المواطن فرنسياً ومسلماً في آن؟
تقول جنيفر فريديت (أستاذة مساعدة بقسم العلوم السياسية بجامعة أوهايو، وصدر لها في عام 2014 كتاب «تشكيل المسلمين في فرنسا») إن كلمة «الاندماج» خلقت ازدواجية في الخطاب السياسي الفرنسي، إذ يشير التعريف الاجتماعي للكلمة إلى «عملية ثنائية ينسجم فيها المهاجرون مع وطنهم الجديد ويستثمرون فيه، بينما يقبلهم أولئك الذين سبقوهم بوصفهم أنداداً لهم.
لكن، في الخطاب السياسي الفرنسي، يفقد مصطلح «الاندماج» دلالته التبادلية»، ويصبح مصطلح «الفشل في الاندماج» تعبيراً يشير إلى «عجز المهاجرين عن الذوبان في المواقف والتقاليد المحلية». 
كيم يي ديون، أستاذة العلوم السياسية في كلية سميث بولاية ماساشوسِت الأميركية، تؤكد ما ذهبت إليه فريديت من أن مسلمي فرنسا يبقون غير مندمجين، لأنهم «مازالوا مهمَّشين اجتماعياً وسياسياً، ويعانون من التمييز في التوظيف والسكن وحتى في العلاج في المدرسة...» (الواشنطن بوست، 29 تموز/يوليو 2014).
مجلة الإيكونومست نقلت في افتتاحية لها بعد حادثة «شارلي إبدو» عن تقرير برلماني أن نسبة السجناء المسلمين من عدد السجناء في فرنسا (وهم 68,000) تبلغ 60%، وأنهم لا يحظون حتى بالرعاية الدينية، فبينما يرعى السجناء الكاثوليك 700 رجل دين، لا يوجد من الشيوخ المهتمين بالتثقيف الديني سوى 178، الأمر الذي يترك السجناء بلا ارتباط برسالة «الإسلام المعتدل» بحسب تعبير المجلة (17 كانون الثاني/يناير 2015).
وكما فشلت الصحافة الخليجية السائدة في تسليط الضوء على تهميش المسلمين في فرنسا بوصفه سياقاً مهماً لفهم الهجوم على «شارلي إبدو»، فقد فشلت في نقد «ازدواجية» الخطاب الفرنسي تجاه حرية التعبير، والذي لم تخل منه صحف غربية بارزة.
نجد مثلاً على الصفحة الأولى للنيويورك تايمز تقريراً عن قيام السلطات الفرنسية بحملة «قمع» عنيفة لمن عبروا عن تأييدهم للهجوم، ومنهم شاب من أصل تونسي حُكم عليه بالسجن 6 أشهر لأنه هتف في الشارع: «أنا فخور بأنني مسلم. أنا لا أحب شارلي. لهم الحق في فعل ذلك».
«الاعتقالات»، تقول الصحيفة، «أثارت أسئلة حول المعيار المزدوج لحرية التعبير هنا، حيث مجموعة من القواعد لرسامي الكارتون الذين يشوهون الأديان...ومجموعة أخرى للبيانات الصادرة عن مسلمين مؤيدين للمسلحين والتي أسفرت عن ملاحقتهم قضائياً» (15 كانون الثاني/يناير 2015).
عندما قرر الكوميدي الفرنسي من أصل إفريقي ديوديوني مبالا التعبير عن موقفه من الأحداث (وربما اختبار حدود حرية التعبير) بطريقته الساخرة، وكتب في صفحته على فيسبوك عبارة: «أشعر الليلة أنني مثل شارلي كوليبالي» (جامعاً بذكاء بين الاسم الأول للمجلة والاسم الثاني للشاب المسلم الذي هاجم متجراً يهودياً إثر الهجوم على «شارلي إيبدو»، وقتل، فيما يُعتقد، أربعة من اليهود فيه) اعتقلته الشرطة الفرنسية بتهمة بث الكراهية والتعاطف مع «الإرهاب»، وكانت الحجة التي أشار إليها رئيس الوزراء منويل فالس في خطاب له أمام البرلمان هي إثارة الكراهية، وإن لم يشر إلى الكوميدي باسمه، بحسب مجلة تايم (14 كانون الثاني/يناير 2015) التي قالت إن اعتقال ديوديوني «ينظر إليه بوصفه معياراً مزدوجاً في فرنسا» 
(كان فالس قد أمر في العام الماضي المسارح بإلغاء عرض لديوديوني ينتقد فيه الصهيونية ويسخر من الهولوكوست ما يوضح أكثر المقاربة الفرنسية لحرية التعبير).
سيمون داويس، أستاذ الإعلام الاجتماعي في جامعة بول فاليري بمدينة مونبليه الفرنسية، جادل في مقال له بموقع «أوبن ديموكراسي» أن حرية التعبير ليست «قيمة مطلقة»، كما أن حرية الصحافة ليست «حقاً مطلقاً»، وأن النظر إلى مجلة شارلي إبدو بوصفها ممثلة لهذا الحق، وللقيم الغربية، «يبرر تصوير المسلمين بوصفهم على النقيض تماماً من تلك القيم»، مضيفاً أن «أولئك الذين سارعوا إلى إعادة نشر الصور المثيرة للجدل...فعلوا ذلك باسم حرية التعبير زاعمين أنها غير قابلة للتفاوض»، وهم قد سبق لهم أن انتقدوا صحفاً بريطانية «نشرت قصصاً باسم حرية التعبير انتهكت قيماً اخرى كالخصوصية...أو كانت متعاطفة مع التأثير المفسد لنفوذ الشركات على السياسة والحياة العامة» (9 كانون الثاني/يناير 2015).
الكاتب البريطاني كرستوفر بوكر علّق على تغريدة رئيس الوزراء كاميرون التي أعلن فيها عزمه الذهاب إلى باريس «للاحتفال بقيم شارلي إبدو» قائلاً: «هل أراد رئيس الوزراء حقاً أن يصفق لصورة للبابا وهو يتشح بملابس نسائية داخلية، كإحدى بغايا ريو دي جانيرو، ويقول: جاهز لأي شيء من أجل كسب زبائن»؟ (الديلي تلغراف، 17 كانون الثاني/يناير 2015).
 شبكة سي بي إس الأميركية تساءلت في موقعها: «في النقاش حول حرية التعبير، ما الذي يجعل نوعاً منه حقاً أساسياً، ونوعاً آخر جريمة؟»
مضيفة أن حملة «القمع» الفرنسية «فجّرت حركة ارتدادية في أوساط بعض أنصار حرية التعبير الذين يرون في تطبيق القوانين المتعلقة بالتعبير التقاطاً للكرز» (مصطلح يشير إلى انتقائية مفرطة ومتحاملة لكنها محققة للهدف) (15 كانون الثاني/يناير 2015).
للقصة أكثر من وجه، وهجوم شارلي إبدو لم يحدث بمعزل عن سياقات شتى كالمظالم السياسية، والقهر الاجتماعي، واستلاب الهوية، والتمييز في التعليم والعمل والعلاج، وحتى في اللباس والتعبير. لكن الدعاية، لاسيما التي تنتجها وسائط خليجية ذات مال ونفوذ، تمارس بغطرسة وغباء إرهاب الجماهير من خلال النفخ في رواية واحدة بالأبيض والأسود لمشهد معقد متعدد الألوان. وحدها الجماهير تستطيع بالقراءة النقدية والمشاركة التفاعلية هزيمة هذا الإرهاب الرمزي، وضرب ديموغاجيته في مقتل.

• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق